لا أريد أن يسبح بكم الخيال بعيدا، فقد يظن بعضكم أنني بصدد الكلام عن الدجالين، الذين اتخذوا من معاناة الناس الصحية سوقا مربحا، فيمنون المرضى ويعدونهم بالشفاء، وما يعدونهم إلا غرورا، وقد يلبسون الحق بالباطل لتنطلي الخديعة، فيسمون عملهم بالطب النبوي أو الرقية الشرعية، هؤلاء سرعان ما يتبين زيفهم، وإن كثر ضحاياهم وتعددت أسماؤهم. ولست بصدد الكلام عن الأطباء الذين تخرجوا في الجامعات، لكنهم باعوا ضمائرهم للشيطان، فلا تتحرك مشاعرهم، ولا تعتصر قلوبهم وهم يسمعون آهات المرضى، وشكوى المتألمين، ولا يرون من المريض إلا جيبه، فإن كان بارزا منتفخا بالمال، رحبوا به وبجلوه وإن يكن جيبه ملتصقا بجلده، خاويا قطبوا حواجبهم ونهروه، تلك مصيبة مردها إلى الأخلاق، فالجامعة تعطي العلم و تحشو العقل، لكنها تغفل الروح والقلب، فيخرج الطبيب منها وهو يدعو أن يكثر المرض ويرفع الشفاء. لقد لفت نظري عنوان على صدر يومية "الخبر"، يوم الثلاثاء الماضي، هذا العنوان هو: "توقيف طبيب مزيف مارس المهنة طيلة 10 سنوات"، وجاء في الخبر أن " أن فصيلة الأبحاث للدرك الوطني أوقفت أول أمس طبيبا مزيفا بحاسي مسعود، لا يحمل أي مؤهل مهني في الطب، ظل يمارس منذ أكثر من 10 سنوات في المنطقة وظفر باتفاقيات بالملايين مع شركات وطنية وأجنبية في طب العمل، واكتسب شهرة وكوّن ثروة وأصبح يصاحب ويجالس شخصيات نافذة في أجهزة حساسة، زادت في حصانته ومناعته في المنطقة". وموضوع الأطباء المزيفين ليس جديدا، وأغلب القراء يتذكرون عينات توردها الصحافة، لكن الجديد هو أن الطبيب المزيف في هذه المرة، أبرم عقودا مع شركات وطنية وأجنبية إلى حد جعله نافذا ومهابا، وعهدنا بمثل هذا المزيف أن يتوارى عن أنظار الرقابة، ويعمل في الأحياء الشعبية، ويلتزم الحيطة كي لا يفضح أمره، ففي هذا الشهر ألقت مصالح الأمن المغربية بالرباط القبض على شخص ينتحل صفة طبيب جراح متخصص في أمراض القلب. وتم القبض عليه، بعد تلقي مصالح الأمن شكاوى من ضحايا تعرضوا للنصب من قبله، وكان الطبيب المزيف ينصب على ضحاياه من المرضى، بسلب أموالهم مقابل إجراء عمليات جراحية يحدد لها تاريخا معينا. ومن أجل كسب ثقة ضحاياه يصف لهم بعض الأدوية ويطلب منهم إجراء فحوصات طبية وأشعة قبل موعد العملية. هذه العينة المغربية لا غرابة فيها، فاللعب على ضعف المرضى أمام معاناتهم، وخاصة إذا تعلق الأمر بالعمليات الجراحية الدقيقة، لأن القطاع العام دونه أهوال طوابير المرضى، والقطاع الخاص يطلب مبالغ يهون دونها المرض والمعاناة، فإذا وجد من يلعب بين هذه الحبال ويقدم الوهم كأنه الحقيقة، أقبل الناس عليه، وهذا ليس خاصا بالطب وحده، فمن المحتالين من يعد الناس بالوظائف، ومنهم من يعدهم بالسكن، لكن ذلك الذي يبرم الصفقات، ويتعامل مع الشركات فإن أمره محير فعلا.. ومن أغرب قصص الأطباء المزيفين، قصة "راسبوتين"، فذلك الرجل الذي جاء من المجهول، في هيئة قس وليس له من الرهبنة إلا مسوح الكهان ومسبحة، وتحت الرداء خمر وعربدة، واستغل عجز الأطباء في علاج مرض ألكسي ابن قيصر روسيا، وكان مصابا بالناعور "الهيموفليا"، وضربة حظ، وشيء من غرائب الأمور، دفعت هذا الرجل إلى واجهة الأحداث، فكان يسكن آلام الصغير، وحاز على ثقة الملكة وعاث في القصر فسادا، ولكنه كان أيضا من أسباب انهيار الإمبراطورية الروسية. وأصل كلمة الزيف هو زيف الدراهم، فيقال زافت عليه دراهمه أي صارت مردودة لغش فيه، يقول امرؤ القيس: ترى القوم أشباهٌا إذا نزلوا معا وفي القوم زَيفِ مثل زيف الدراهم. وامرؤ القيس يتحدث عن قوم "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى"، وهو ما يعرف اليوم بالنفاق والمراوغة في العلاقات العامة، فأنت تراهم وكأنهم أشباه في الظاهر، لكن زيف عواطفهم يشبه العملة المزيفة، وزيف العملة قد يكشف أمره، لكن الخطر الذي يصيب المجتمعات في مقتل، هو عندما تعلي شأن المزيف فيها، وتحط من قدر الأصيل، ومما ينسب لعالم الاقتصاد البريطاني "توماس قريشام" قوله: "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة"، قالها في خضم الأزمة الاقتصادية بداية القرن الماضي، فكيف إذا سارت الأمور، والعملات الأخلاقية والأدبية هي العملة الرديئة... لا يمكن مواجهة مد التزييف إلا بدعم الأصيل، ودعمه يكون بتقوية مكانته في المجتمع، وحينئذ يكون قادرا عن الدفاع عن نفسه، ورد العملات الزائفة، عندها لن يكون الطبيب المزيف، والإداري المزيف، والمهندس المزيف، والصحافي المزيف، والسياسي المزيف، فالزيف مرده إلى خلو الساحة أمام المغامرين.