تضمّن مشروع قانون الصحة الجديد في جزء هامّ منه الترخيص لرؤساء المصالح الاستشفائية والوحدات، وللأطباء، وشبه الطبيين بممارسة نشاطات تكميلية بالقطاع العمومي والخاص، وعلى أن لا تتجاوز هذه النشاطات نسبة 20 بالمائة من العمل الأسبوعي في المصلحة المعنية، وأن لا تفوق أيضا كمية الأعمال المنجزة نسبة 20 بالمائة من تلك المنجزة ضمن النشاط العمومي. هذا المشروع الذي هو قيد الولادة منذ سنة 2010 حمّل إدارات المؤسسات الاستشفائية والصحية مسؤولية رقابة هذه النشاطات التكميلية، واشترط عليها اتّباع صيغة التعاقد مع الممارسين، وعلى أن لا تقتصر هذه النشاطات على حالة أو حالات علاجية واستشفائية محددة بعينها، بل أباحها لتشمل كافة العمليات الطبية والجراحية. ويبدو أن هذا المشروع الذي طال أمدُهُ ذاهب إلى الإقرار النهائي لهذا العمل الإضافي، رغم أنه لقي ومازال يلقى معارضة قوية من نقابات القطاع، التي تتقدمها نقابة ممارسي الصحة العمومية التي يرأسها الدكتور الياس مرابط، التي تضم الأطباء العامين والأخصائيين والصيادلة وجراحي الأسنان، ونقابة أخصائيي الصحة العمومية التي يرأسها الدكتور محمد يوسفي، إلى جانب هيئة أخلاقيات الطب التي يرأسها الدكتور محمد بركاني بيقاط. هذه الهيئات المهنية الثلاث كانت عبرت وبوضوح تام سنة 2010 عن معارضتها الشديدة للترخيص الذي أصدرته يومها وزارة الصحة، ونظّمت له تجمعات احتجاجية عمالية واسعة، طالبت فيها بوقف هذا الترخيص، لكونه "يشكل خطرا كبيرا على المؤسسات والهياكل الاستشفائية والصحية العمومية". وآنذاك أيضا قالت هذه الهيئات الثلاث: "ما كان على وزارة الصحة أن تركن للضغوط الكبيرة التي كان ومازال يمارسها اللوبي المعروف المُستحكم في دواليب الصحة والاستشفاء والأدوية والتجهيزات الطبية في الجزائر، وأن فسح المجال على مصراعيه بهذه الطريقة سيُفرغ الهياكل والمستشفيات الجزائرية من مواردها البشرية وإمكاناتها المادية، وهذا بالفعل ما حصل، وما هو حاصل ! وحتى وإن كان الوزير الأسبق السعيد بركات قد أظهر بعض التحفظ إزاء هذا الأمر، ومخاطره المحتملة على القطاع العمومي، إلا أنه وجد نفسه مع النقابات المذكورة وجها لوجه مع أكبر وأخطر لوبي مصلحي، مشكل من مسؤولين نافدين، ورؤساء مصالح ووحدات، وجماعات الضغط من أصحاب المال الفاسد، وقد كشفت هذه الهيئات الثلاث عن هذا اللوبي، واشتكته لرئيس الجمهورية، وحذّرت منه، وعوض أن ينكسر تعاظم نفوذه، بل وأجهز على جوانب كثيرة كانت مقبولة بالقطاع العمومي ! نقابات الصحة وهيئة أخلاقيات الطب كانت دوما مع القطاع العمومي، وترى في أنه بحاجة إلى دعم وإسناد، وتوسع مادي وبشري، وأنه من الخطورة بمكان التساهل في إقرار هذا الأمر، الذي يعني وبكل وضوح بناء قطاع خاص بالموارد البشرية والمادية التي يتوفر عليها القطاع العام، وحتى وإن كان لابد من قطاع خاص فيجب على الدولة الجزائرية أن تحمي قطاعها العمومي من التطفل الحاصل، وأن تحرص على كامل موارده ومقدراته. ما يمكن التأشير عليه، أن هذا اللوبي الذي يقف وراء هذا الإجهاز الحاصل على القطاع العمومي منذ 2010 وحتى يومنا هذا، لم يكن أبدا يبالي بالعواقب الوخيمة التي تسبّب فيها، ممثلة في تهريب الطواقم الطبية والاستشفائية، وتهريب المرضى والتجهيزات ومختلف الأدوية والمواد الصيدلانية، بل وإن هذا اللوبي نفسه ببعض التواطؤات العمومية، وغضّ الطرف قد توصّل بتعليمات وزارية إلى الدوس جهارا نهارا على المرسوم الرئاسي الصادر سنة 2002 ، الذي يمنع منعا باتا ممارسة هذا النشاط. والأدهى والأمرّ اليوم وفق ما كشف عنه الدكتور مرابط أن 80 بالمائة من الموارد البشرية العاملة بالقطاع العمومي هي اليوم تعمل في ذات الوقت بالعيادات الخاصة، وهياكلها الصحية والاستشفائية تعيش فراغات وغيابات رهيبة لكوادرها الطبية وشبه الطبية، وحالات صادمة من تعطيل أجهزة الكشف، وتحويل المرضى من الهياكل العمومية إلى الخاصة، وتأخير مواعيد الفحص والتحليل والاستشفاء وتعطيل العمليات الجراحية، وبفعل ذلك تحوّل رؤساء المصالح والوحدات الاستنشفائية إلى حالة متقدمة من "الربوبية المتوحشة"! هذا هو واقع القطاع العمومي، وضعُهُ كارثي، ويستحق الحماية والعناية، ولا يجب أن تكون العيادات الخاصة بديلا عنه، بل مكملا له، كما أنها لا يجب أن تتأسس بمقدراته البشرية والمادية.