مازالت أنباء العالم العربي في جله محل الأخبار والتحاليل السياسية دون بلوغ النتيجة ومازالت تنزل على العرب أنفسهم نكدا، فتنكأ جراحهم يوما بعد يوم فتصيبهم جراءها النكسة تلو النكسة، فلا شيء يجبر الخاطر مما ترى العين وتسمع الأذن ضمن هذا المسلسل العربي الطويل. وقد اختلف الكثير في الشأن العربي هل هو يحتاج إلى طبيب نفسي أم إلى سياسي محنك، أم إلى خبير اقتصاد أم إلى عالم اجتماع أم أنه يحتاجهم جميعا؟. وهل البلدان العربية الفائرة شعوبها هي أمام انتفاضات، أم أمام ثورات، أم حركات تمرد؟، وهل هي أمام بدائل لأنظمة أرهقها الزمن وأتى عليها تقادم الدهر؟. وهل القادمون الجدد يدعون إلى الماضي أم إلى التجدد؟ وأيهما أكثر انفتاحا على العالم الجديد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأكثر عصمة ومناعة؟. كان على الجامعة العربية كمخول عربي أن ترد على هذه الأجوبة وأن تعطي التأويل الصحيح لما هو يجري في الكثير من أطرافها، لكن للأسف كل القمم العربية ضيقة، ضاقت بما رحبت به المشاكل العربية، فوقفت في كل مرة تندب حظها في الفشل، وتنشد سعدها الذي لم يحصل. إنها أصبحت كالمرض الخادم للموت، لا تحل القضايا ولا ترد المظالم، وكثير من أعضائها مريض بجنون العظمة السابق منهم والحاضر، وقد يكون أيضا اللاحق. إن الغرب يقوم مفكروه على الدعوى إلى مخاطبة الناس بالحسنى، وهم يجتهدون في مجال تطوير مجتمعاتهم ورقيها، وليس الإطاحة بالآخر إنما بتسويته ولو قهرا وجبرا، وبالرغم على أنفه فعملهم الفكري الذي لا يهدف إلى إسقاط النظام والوصول إلى الحكم يجعلهم يحفرون في ذاكرة الشعوب ويتعمقون في ترك أثارهم في النفوس، وإن العالم العربي نفسه قد عرف مثل هذه النهضة قبل قرن من أيام ما سمي بالربيع العربي الأيام التي لم تدع إلى الوحدة العربية ولا إلى الذهاب إلى الانفتاح الديمقراطي بمعناه الحقيقي . والخوف كل الخوف أن يخاف الجدد من كل جديد ويكرهونه، بل يجرمونه يحاربونه إذا رأوا أن الآخر سيشاركهم فيه أو أنه سيحرمهم من مصالح ذاتية ومآرب شخصية بما فيها الجبروت وحب التحكم في الآخر، ومن ثم تصبح الحركات الديمقراطية في بلادنا حركات لعصبة أو جماعة على حساب الآخر، وذلك بإقدامهم على قمع أي رأي يخالفهم أو يناقضهم أو يناهضهم. لهذه الأسباب، يهاجر أصحاب الرأي من العلماء والمفكرين من أوطانهم الأصلية ويلجأون إلى دول تستفيد منهم في مناقشتها الاقتصادية والسياسية، ثم تستغلهم في نهضتها وبخاصة فيما يتعلق بتوسيع حرية الاقتراع ونزاهته والمساواة الحقة أمام القانون، وكشف الفساد والدعوة إلى إبطاله ومعاقبة مرتكبيه، والسعي إلى إنشاء قواعد وأعراف تمنع الاحتكار والتفرد في الرأي، وضرورة الاحترام المطلق لإرادة الشعب وسلطانه باعتباره في الأنظمة الديمقراطية الحية المالك الوحيد للسلطة ومانحها الأوحد بالطرق المباشرة الحرة. فلولا هجرة الأدمغة البريطانية قديما إلى أمريكا هروبا من البطش والتنكيل لما تقدمت أمريكا بالشكل الذي هي عليه الآن من تمدن وتحضر وتفهم والتطور الذي يذيب الفوارق بين تكافؤ الفرص وتجسيد فرص التوازن الجهوي على أرض الواقع. إن على العالم العربي أن لا يستنصر بالأجنبي ويستعين به، إنما عليه إما أن يجتهد، وإما أن يقلد ويقتدي حتى يتخلص بفضل مقوماته من الكرامة المذلولة المجلودة ذاتيا والمهانة الآتية من باريس ومن لندن وواشنطن العواصم التي كانت وإلى عهد قريب رمزا للاستعمار الغاشم الظالم، أم أن »البعرة تدل على البعير« وأن »التاريخ يعيد نفسه« ولو بشكل جديد يتوافق والعصر الذي هو فيه. بعد النار والدمار والدم والصراخ واليتم واللطم والترمل، وفي هذه الظروف الملحة على فناء العرب المصرة على إحداث مدافن متتالية لهم، متى يكون في مقدور الجامعة العربية أن تحل المشاكل، ومتى تكسب التأهيل لرفع المظالم ...! ؟.