ليس هناك علم منزه عن الأيديولوجيا، لا توجد تكنولوجيا من أجل التكنولوجيا، حتى الذكاء الاصطناعي ليس حيادياً أبداً، وما يبحث عنه مبرمجو الخوارزميات في الذكاء الصناعي هو الوصول إلى طريقة لصناعة وصياغة عقل بشري مستقبلي بمقاييس معينة وبرغبات محددة وبمواقف سياسية مبرمجة وباستهلاكات جمالية مدروسة. ليست هناك معلومة يقدمها لك الذكاء الاصطناعي محايدة أو ساذجة في محتواها أو في سياقها، الساذج الأكبر هو مستعمل أو مستهلك هذا الذكاء الاصطناعي. الذكاء الاصطناعي يغرق البشر ويحاصرهم بمعلومات تبدو سخية وهو بذلك يريد أن يجرهم إلى منطقة الغباء، كي يعطل طاقتهم العقلية نهائياً. لا تعتقد أبداً وأنت تفتح على "تشات جي بي تي" بأنك في حضرة العلم الحر الذي يأتيك ويقدم لك لوجه الله أو لغرض الخير المطلق، واعلم أن برمجيات الذكاء الاصطناعي مهما كان مصدرها هي مراقبة رقابة صارمة، وأن كل معلومة تتسرب إليك من هذه الحنفيات المفضالة هي معلومة مفلترة بمصفاة أيديولوجية لا ترحم. لا تتوهم كثيراً بأنك تنعم بالحرية وأنت بين يدي خوارزميات الذكاء الاصطناعي، فالحرية في مثل هذا الوضع وهمٌ كبير وتبعية خطرة. هناك صراع حامي الوطيس نحو التسلح بالذكاء الاصطناعي يشبه تماماً التسابق من أجل التسلح بالأسلحة الفتاكة، أسلحة الدمار الشامل النووية والكيماوية والبكتيرية وغيرها. أمام تعدد برمجيات الذكاء الاصطناعي في العالم، وحمى التسابق غير المسبوقة ما بين ذكاء اصطناعي أميركي وآخر صيني وثالث أوروبي ورابع كوري وخامس ياباني، وتبعية كل تطبيق لرؤية سياسية واقتصادية ومالية وعسكرية وأمنية محددة، رؤية هي في نهاية المطاف تعكس هوى النظام الذي أبدعها، أمام هذا التعدد وهذا التسابق المحموم، يتضح لنا أكثر فأكثر حجم الرقابة التي لا تنام عيون شرطتها أبداً، وببساطة تتجلى هذه الرقابة في الاختلاف الكبير بين الأجوبة التي تقدمها للمستخدم هذه البرمجيات، فعن السؤال المطروح نفسه، تتعدد الأجوبة بل وتتناقض مرات وتتعارض، وفي كل طرح نلمس توابل أيديولوجيا النظام الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي يقف خلف هذه الخوارزميات أو تلك. إذا تمعنت النظر جيداً في طبيعة السياق الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي سيظهر لك بأن ما يجري على المستوى السياسي والعسكري والأيديولوجي والاقتصادي من صراعات ظاهرة أو مستترة في الواقع تتجلى بوضوح أو بتستر أو بخجل في المعلومات المقدمة وفي طريقة تقديمها وفي سلم الأولويات فيها والثانويات. وبتحليل بسيط لمثل هذه الأجوبة المتناقضة تارة والتي تلتزم بالصمت المتآمر عن أمور مرات أخرى أو تستعرض أخرى بتفصيل وإسهاب ثالثة، يظهر الصراع الأيديولوجي الحاد بين خوارزميات الذكاءات الاصطناعية المختلفة. تبيّن لنا هذه الصراعات وهذه الاختلافات وكأننا نعيش زمن حرب باردة جديدة بطريقة خوارزمية رهيبة، كل برمجية تريد وترغب في صناعة إنسانها المستقبلي. في مقالة صدرت قبل فترة في صحيفة "لو موند" الفرنسية ينبّه فيه كاتبه إلى طبيعة الرقابة المفروضة والمتغلغلة في الذكاء الصناعي، إذ طلب الصحافي من الذكاء الاصطناعي أن يكتب له نصاً أدبياً على طريقة أسلوب الروائي المثير للجدل ميشيل ويلبك فكانت الإجابة بأنه يتعذر عليه القيام بذلك بحجة أن الروائي يكتب من موقف الدفاع عن قيم معينة، ومن هنا فأن يرفض الذكاء الاصطناعي كتابة نص شبيه بأسلوب كاتب معين، اتفقنا أم اختلفنا معه، مع العلم أن رواياته متوافرة في السوق، وهو الحاصل على جائزة "غونكو" الشهيرة، كل هذا يبين حجم الرقابة المفروضة على هذا الذكاء الاصطناعي التي بدورها تنتقل إلى رقابة على الذكاء البشري أو ما بقي منه. تسأل الذكاء الاصطناعي سؤالاً يرتبط بما يحدث في غزة من إبادة أو في الضفة الغربية من استيطان فيرفض الإجابة ويعتذر عن عدم إعطاء رأيه، وهذا الصمت في حد ذاته هو موقف أيديولوجي معين تفرضه قوى سياسية ومالية وأمنية معينة. إن سلطة الرقابة حين تتستر في الذكاء الاصطناعي، والذي يدعي بأنه يوفر المعرفة ويوزعها بالعدل بين البشر، تصبح أكثر خطورة على العقل البشري من سلطة الرقابة الكلاسيكية التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية العسكرية أو الثيوقراطية، فبمثل هذه الرقابة المتوحشة في نعومتها والتي تقدم معلومات تمر في مصفاة ذكية يعمل الذكاء الاصطناعي على صناعة إنسان معلب أو منمط فاقد كل خصوصية محلية. وبهذه الرقابة الصارمة المموهة وبهذه المصفاة التي تغربل كل شيء يعمل الذكاء الصناعي يوماً بعد يوم على خلق إنسان "كسول"، إنسان منمط، يتنازل شيئاً فشيئاً، بحسب تطور خوارزميات التطبيقات التي تعرفها الأجيال المتلاحقة، عن كل ما يميزه كإنسان، عن ذاكرته ولغته وأحاسيسه وعقله ليُحيل مصيره النهائي إلى الآلة. إننا في مرحلة بداية صناعة ما أسميه ب "الكسل الذكي" أو إنتاج "الغباء العالم"، حيث أصبح الإنسان يتفاصح بجهله ويفتخر بكسله، وما يقلق مصير البشرية اليوم هو أنها تقطع منطقة اضطراب حضاري حاد وخطر، إذ إنها لم تتمكن حتى الآن من خلق مجال حيوي قادر على تثمير فكرة العيش المشترك بسلام ما بين الذكاء البشري وذكاء الآلة، بل ما يلاحظ حتى الآن هو تراجع كبير في منسوب بالذكاء البشري، يتضح ذلك لدى الطلبة الجامعيين وتلاميذ المدارس من خلال تبعيتهم للإنترنيت في كل شيء، وهو ما يدل على أن العقل البشري يدخل شيئاً فشيئاً في مرحلة مبيت شتوي طويل وفي المقابل يبدو ذكاء الآلة في صعود ويقظة لافتة ومن دون قيود وبمغامرة مشرفة على كل التوقعات واللاتوقعات. كلما نام الذكاء البشري وأصبح الإنسان كسولاً وسعيداً في كسله زاد، وفي المقابل توحش الآلة المستيقظة جداً، وبمثل هذا المفارقة المخيفة يصنع الإنسان نهايته الدرامية شيئاً فشيئاً، فإذا كانت الحروب الكلاسيكية على مرارتها وقبحها ودمائها المسفوكة، تلك الحروب التي عرفها التاريخ البشري بين الإنسان والإنسان، تؤول في نهاية الأمر إلى سلام حيث تعود الحياة بين المتحاربين العدوين لمجراها الطبيعي، في انتظار ربما اندلاع حرب جديدة أخرى في مكان آخر وحول قضية أخرى دينية أو جغرافية أو اقتصادية لتنتهي هي الأخرى بسلم، لكن الحرب المقبلة والتي ستندلع هذه المرة بين الإنسان الغبي الكسول والآلة الذكية غير الرحيمة، فإنها ستكون المؤشر على نهاية الإنسان من على هذه الأرض وربما ستكون هي الحرب الأخيرة. كما كانت الحال في زمن الحرب الباردة التي كانت تقوم على الدفاع عن أيديولوجيات معينة، ها هي اليوم تعود لكن في غلاف آخر وبأسلحة أخرى متلبسة بالذكاء الاصطناعي من خلال تقديم سيل من المعارف، لكننا حين نحلل الخلفيات التي تنطلق منها هذه المعارف وطرق تقديمها والإحجام عن تقديم بعضها ندرك أن حرب الأيديولوجيات لم تسلّم سلاحها بسقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، بل إنها لا تزال بجنودها الجدد على جبهات صراع جديد كأيديولوجيا تدافع عن سلسلة من القيم من خلال خوارزميات تطبيقات الذكاء الاصطناعي الذي أبدعته أو تبنته. أندبندنت عربية