القرآن كلام الله تعالى عز وجل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولقد فضَّل الله بعض السور على بعض، كما سمِعْنا عن فضائل سورة الفاتحة، كما فضَّل بعض الآيات على بعض، وهي آية الكرسي، ففي صحيح مسلم عن أُبَي بن كعب، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟، قال: قلت: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، قال: فضرَب في صدري، وقال: والله ليَهْنِك العلم أبا المنذر. ..عشر جمل اشتملت عليهم آية الكرسي هذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة فقوله – تعالى -: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾، إخبار بأنه المنفرِد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحقٍّ إلاَّ هو – سبحانه – وهو المستَحق للعِبادة، وبهذه الكلمة أرْسَل الله الرُّسل، وأنزَل الكُتُب، وعليها قامت السماوات والأرض، ومِن أجْلها خَلَق الله الجنَّة والنار؛ قال – تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25] . ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾؛ أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا، القَيِّم لغَيْره، ولا قوام للموجودات دون أمره؛ وقد ورَد أنَّ النبِيَّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان يقول: ((أعوذ بعزَّتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون))، وقال – تعالى -: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26 – 27]. من هنا نعلَّم أنَّ الذين في القبور والمقامات والأضرحة أموات ليسوا أحياءً، كما يزعُم بعض الجَهَلة، والميِّت لا يقدر على شيء؛ ﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14], والحي القيوم: هو اسم الله الأعظم، وقد كان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا حَزَبه أمرٌ، قال: ((يا حي يا قيُّوم، برحمتك أستغيث))؛ الصحيحة. وكان يقول في أذكار الصباح والمساء: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلِحْ لي شأني كله، ولا تَكِلني إلى نفسي طرْفة عينٍ أبدًا)). و آية الكرسي فيها اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعِي به أجَاب، وإذا سُئِل به أعْطَى؛ كما جاء في الحديث الحسن: ((اسم الله الأعظم لفي ثلاث سُوَرٍ من القرآن: في البقرة وآل عمران وطه))، أمَّا في البقرة، فقوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وأمَّا في آل عمران، فقوله: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ آل عمران: 2. ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾: لا تَغْلبه سِنة، وهي النُّعاس؛ ولهذا قال – تعالى ﴿ وَلَا نَوْمٌ لَهُ ﴾؛ لأنه أقوى من النُّعاس. جاء في صحيح مسلم: عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس كلمات، فقال: ((إن الله – عز وجل – لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفِض القِسْط ويرفعه، يُرْفَع إليه عملُ الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشَفَه لأَحْرَقَتْ سُبُحات وجْهه ما انتهى إليه بصرُه من خَلْقه)). فالله لا ينام، بل هو حي قيُّوم، وسيرى المكذِّبون ذلك. ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: إخبار بأنَّ الجميع عبيده وفي مُلكه، وتحت قهْره وسلطانه؛﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26 – 27]. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾، كقوله – تعالى -: ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28].وهذا من عَظَمته وكبريائه وجلاله – عزَّ وجلَّ – وأنَّه لا يَتَجاسَر أحَدٌ على أن يشفَعَ لأحدٍ عنده إلاَّ من أذن له في الشفاعة؛ كما جاء في حديث الشفاعة الذي في الصحيح: عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – الذي قال فيه: ((فأَنْطَلِقُ حتى أستأذِنَ على ربِّي، فيؤذَنَ لي، فإذا رأيتُ ربي، وقعتُ ساجدًا، فيَدَعُني ما شاء الله، ثم يُقال: ارفعْ رأْسَك، وسَلْ تُعْطَه، وقلْ يُسْمع، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فأرفعُ رأْسي، فأحمدُه بتحميد يُعَلِّمنيه، ثم أشفعُ، فيَحُدُّ لي حدًّا، فأُدْخِلُهم الجنة، ثم أعود إليه، فإذا رأيتُ ربي مثله، ثم أشفعُ، فيَحُدُّ لي حدًّا، فأُدْخِلُهم الجنة)). فلا شفاعة إلا بإذن الله؛ إذْن لِمَن يَشفع (الشافع)، وإذْن لِمَن يُشفَع له. ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾: هذا دليل على إحاطة علْمِ الله بجميع الكائنات؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها وقال:﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام: 59]. ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾؛ أي: لا يطَّلع أحدٌ على شيءٍ مِن عِلْم الله، إلاَّ بما أعْلَمَه الله – عزَّ وجلَّ – كما قال – سبحانه -: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﴾[الجن: 26 – 28].وكل ما وصَل إليه الإنسان من عِلْم، فهو بإذن الله؛ كما قال الملائكة لربِّهم: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]. ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾، وقد صحَّ عن ابن عباس قولُه: "الكرسي: موضع القَدَمين، والعرش لا يقدر قَدْرَه إلاَّ الله – تعالى". ﴿ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾؛ أي: لا يثقله ولا يَكترثه، ولا يشتدُّ عليه حِفْظُ السماوات والأرض، ومَن فيهما وما بينهما – سبحانه وتعالى – بل ذلك سهْلٌ عليه، يسير لَدَيه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يَعْزُب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلُّها حقيرة بين يديه، متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه، وهو الغني الحميد. ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾، فهو العَلِي بذاته على جميع مخلوقاته؛ عُلُو منزلة، وعلو قهْرٍ وسلطان. ..أحاديث نبوية عن فضل آية الكرسي أخرَج البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: "وكَلَني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بحِفْظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعَل يحثو من الطعام، فأخذتُه وقلتُ: والله لأرفعنَّك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: إني محتاج، وعليّ عِيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخلَّيْتُ عنه، فأصبحتُ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا هريرة، ما فعَل أسيرك البارحة؟))، قال: قلتُ، يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرَحِمتُه، فخلَّيْتُ سبيلَه، قال: ((أما إنه قد كَذَبَك وسيعود))، فعَرَفْتُ أنه سيعود؛ لقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إنه سيعود))، فرصدتُه، فجاء يحثو من الطعام، فأخذتُه، فقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: دَعْني؛ فإني محتاج وعليَّ عيالٌ، لا أعود، فرَحِمتُه، فخَلَّيْتُ سبيلَه، فأصبحتُ، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟))، قلتُ: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً، فرَحِمته، فخَلَّيْتُ سبيلَه، قال: ((أما إنه قد كَذَبك وسيعود))، فرصدتُه الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذتُه، فقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعُم لا تعود، ثم تعود، قال: دَعْني أُعَلِّمك كلمات، ينفعك الله بها، قلتُ: ما هو؟ قال: إذا أويتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم ﴾، حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يَقْرَبنَّك شيطان حتى تُصبح. وختاما فآيه الكرسي هذه الآية العظيمة التي هي أعظم آية في القرآن، حِرْز من الشيطان لِمَن قرأها، وتكون سببًا في دخول الجنة لِمَن حضَر الصلاة ثم قرأها مع أذكار الصلاة، إذًا الأجر العظيم والحِرز من الشيطان يكون لِمَن قرأها. كما وردت الأحاديث، وليس لِمَن عَلَّقها أو زيَّن بها المجالس، أو وضَعها على جُثمان الميِّت، إن هذه الأمور كلها مُحْدَثات لَم يفعلْها الصحابة ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة، ولا مَن سار على نَهجهم، إنما كانوا يقرؤون القرآن ويعملون به، وخير الهدْي هدْي محمد – صلى الله عليه وسلم – وعلينا الالتزام بسُنته حتى نفوزَ ونَسعدَ في الدَّارين.