بوغالي يستقبل رئيس المجلس الوطني لجمهورية الكونغو    مراد يؤكد على ضرورة تكاثف الجهود لحماية الغابات من الحرائق    الأيام السينمائية الدولية بسطيف : الفيلم الفلسطيني الطويل "معطف حجم كبير" يثير مشاعر الجمهور    السيد بلعابد يستقبل رئيس الاتحاد الدولي للرياضة المدرسية    توقيع اتفاقية لتسويق منتجات الشركة الجزائرية للتخصصات الكيمياوية بموريتانيا    العدوان الصهيوني على غزة : الرئاسة الفلسطينية تجري اتصالات مكثفة لوقف مجزرة اجتياح رفح    78 قتيلا جراء الأمطار الغزيرة في البرازيل    وسط تحذيرات من مجاعة.. الأمم المتحدة تتهم إسرائيل برفض دخول المساعدات لغزة    الناخبون في تشاد يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية    قدمها الدكتور جليد قادة بالمكتبة الوطنية..ندوة "سؤال العقل والتاريخ" ضمن منتدى الكتاب    بأوبرا الجزائر بوعلام بسايح..المهرجان الثقافي الدولي للموسيقى السيمفونية من 16 إلى 22 ماي الجاري    في دورته التاسعة.. "الفن موروث ثقافي حافظ للذاكرة" شعار الرواق الوطني للفنون التشكيلية    العدوان الصهيوني على غزة: بوريل يدعو إلى وقف إطلاق نار إنساني فوري في قطاع غزة    المغرب : الأشخاص في وضعية إعاقة يحتجون أمام البرلمان للمطالبة بالمساواة واحترام حقوقهم    ملتقى التجارة والاستثمار بإفريقيا: التأكيد على الدور المحوري للجزائر في الاندماج الاقتصادي القاري    وزير الداخلية يشرف على مناورة دولية للحماية المدنية    عرقاب يستقبل نائب الرئيس التنفيذي للمجمع الطاقوي النرويجي إكوينور    والي أم البواقي يكشف: مساع للتكفل بالمستثمرين عبر 17 منطقة نشاط    طرحوا جملة من الانشغالات في لقاء بالتكنوبول: مديرية الضرائب تؤكد تقديم تسهيلات لأصحاب المؤسسات الناشئة    عنابة: استحداث لجنة لمتابعة تهيئة الواجهة البحرية    ميلة: بعثة من مجلس الأمة تعاين مرافق واستثمارات    مركز البحث في البيوتكنولوجيا بقسنطينة: تطوير شرائح حيوية تعتبر الأولى من نوعها في العالم    الوزير الاول يلتقي عضو المجلس الرئاسي الليبي: الكوني يدعو الرئيس تبون لمواصلة المساعي لتجنيب ليبيا التدخلات الخارجية    في دورة تكوينية للمرشدين الدينيين ضمن بعثة الحج: بلمهدي يدعو للالتزام بالمرجعية الدينية الوطنية    مساع لتجهيز بشيري: الهلال يرفض الاستسلام    البطولة الإفريقية للسباحة والمياه المفتوحة: 25 ميدالية بينها 9 ذهبيات حصيلة المنتخب الوطني    رئيس الاتحادية للدراجات برباري يصرح: الطبعة 24 من طواف الجزائر ستكون الأنجح    الجزائر تدفع إلى تجريم الإسلاموفوبيا    ثبات وقوة موقف الرئيس تبون حيال القضية الفلسطينية    يقرّر التكفل بالوضع الصحي للفنانة بهية راشدي    وزيرة الثقافة زارتها بعد إعلان مرضها    إشادة وعرفان بنصرة الرئيس تبون للقضية الفلسطينية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي    خارطة طريق لضمان التأطير الأمثل للحجاج    3 شروط من أجل اتفاق شامل ومترابط المراحل    24 ألف مستثمرة فلاحية معنية بالإحصاء الفلاحيّ    مهنيون في القطاع يطالبون بتوسيع المنشأة البحرية    توقُّع نجاح 60 ٪ من المترشحين ل"البيام" و"الباك"    على هامش أشغال مؤتمر القمة 15 لمنظمة التعاون الإسلامي ببانجول: العرباوي يجري محادثات مع نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي    خبراء جزائريون يناقشون "الهندسة المدنية والتنمية المستدامة"    برنامج الجزائر الجديدة في حاجة إلى المؤمنين بالمشروع الوطني    بعد رواج عودته الى ليستر سيتي: إشاعات .. وكيل أعمال محرز يحسم مستقبله مع الأهلي السعودي    غيريرو يغيب عن إيّاب رابطة أبطال أوروبا    عمورة في طريقه لمزاملة شايبي في فرانكفورت    غرق طفل بشاطئ النورس    انتشال جثة شاب من داخل بئر    تعريفات حول النقطة.. الألف.. والباء    خلاطة إسمنت تقتل عاملا    دراجون من أربع قارات حاضرون في "طواف الجزائر"    دليل جديد على بقاء محرز في الدوري السعودي    الأيام السينمائية الدولية بسطيف: 21 فيلما قصيرا يتنافس على جائزة "السنبلة الذهبية"    اقترح عليه زيارة فجائية: برلماني يعري فضائح الصحة بقسنطينة أمام وزير القطاع    الشريعة الإسلامية كانت سباقة أتاحت حرية التعبير    برنامج مشترك بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحيله يجدد أسئلة الشعر الثوري والدور الاجتماعي للفن
أحمد فؤاد نجم صوت الالم الجوال الذي أعاد صياغة الوجدان العام
نشر في الفجر يوم 10 - 12 - 2013

رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم عن عالمنا يمثل خسارة أكيدة لشعر العامية المصرية، رغم انقطاع الرجل عن الكتابة قبل سنوات طويلة من رحيله. غير أن نجم ليس ظاهرة شعرية فحسب بل هو ملمح على عصر بكامله، بما ينطوي عليه ذلك من تحولات سياسية ومجتمعية مؤثرة، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على النص الشعري في عمومه وعلى قصيدة العامية بشكل خاص.
كان نجم جزءا من مشهد اليسار المصري وأصابه ما أصاب اليسار من سجن وإقصاء، غير أن نجم ورفيقه الشيخ إمام عيسى كانا الأكثر خطورة، حيث استطاع نجم، بشعريته التي صنعت في أفران العامة وفي قلوب الدهماء وبسطاء الناس، أن يخترق الكثير من الحجب ويحطم الكثير مما تعارف على أنه من الممنوعات في قدح السلطة ورموزها في الداخل والخارج، وكانت حنجرة المغني والملحن الفريد الشيخ إمام عيسى نموذجا للوعي الثوري المبكر الذي يذكرنا بتجارب مشابهة في تاريخنا الحديث على رأسها تجربة المغني التشيلي الأشهر فيكتور جارا الذي أعدمه رجالات الانقلاب في تشيلي بعد أن بتر أصابعه التي عزفت ألحانا صارت صوتا لمن لا صوت لهم.
فكيف يرى المثقفون والشعراء في مصر ظاهرة نجم كشاعر وما الذي يمثله في تلك المعادلة الصعبة بين السياسة والفن على السواء، وكيف يرون موقعه في الحركة التأسيسية لقصيدة العامية وكذلك موقفه السياسي الذي كان جزءا من اجتهاده الشعري العميق المؤثر.
هنا عدد من تلك الشهادات التي أدلى بها عدد من الكتاب والشعراء المصريين من مختلف الأجيال حول تلك التجربة.
محمود قرني
شعرية تناسخ الدور
احترم تجربة أحمد فؤاد نجم الشعرية وأقدرها، وأعتقد انه لعب دور المحرض السياسي شعريا بامتياز، والمدهش في هذا الشاعر أنه جعل من شعره سلاحا، توحد بهذا الدور، والتصق من خلاله نجم بالفضاء الشعبي والجماهيري بعفوية وتلقائية شديدين. إنه دور الخط الواحد والبعد الواحد، يصعد ويهبط، يتوتر ويخفت، بحسب زخم الحراك السياسي والاجتماعي على أرض الواقع، لذلك أرى أن شعرية نجم، هي شعرية تناسخ الدور، مع تغيير في بعض الرتوش اللغوية، التي تفرضها وتستدعيها أحيانا طبيعة النص، وأيضا طبيعة المصادفة الفنية، والتي تعتمد في شعر نجم على لغة الإيصال المباشرة، وهي لغة لا لبس فيها، كل غايتها أن يصل النص للقارىء بسهولة وسلاسة، وتنجح في أن تستثيرة سياسيا واجتماعيا، لكنها في المقابل تخفق كثيرا في استثارته جماليا وفنيا. وهو ما يعكس نوعا من الثنائية، يبن الفعل الثوري بكل تبدياته من التمرد والتحريض والاحتجاج، وبين طرائق تشكله فنيا على مستوى اللغة والعلاقات الجمالية التي يفرزها النص، ويؤسس لها بتراكم الخبرة وتنوع المعرفة والتجربة.
جمال القصاص - شاعر
شاعر الألم المصري الجوال
بوفاة الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي نزل خبره كالصاعقة على محبيه، تنطوي ظاهرة شعرية مصرية وإنسانية شديدة الخصوصية. صاغت هذه الظاهرة ظروف عدة أدى اكتمالها إلى تجلي تلك الحالة الفريدة حيث الشاعر يتقدم الصفوف حاملا في كلماته وجدان شعب بأكمله يسعى للخروج من سجن الاستبداد والقهر والاغتراب، فجمع في ذاته ذوات أخرى مصرية تمكن أن يهضمها جميعا بمعدة عفية وعفوية ومتدفقة. لقد جمع في داخله عبد الله النديم وبيرم التونسي وصلاح جاهين وخرج مع رفيق نضاله الموسيقي الضرير الشيخ إمام يفضحون جثة الواقع التي تعفنت، ويبشرون بصباح جديد، تعود فيه مصر للمصريين، ويعود فيها فقراء الوطن لتقدم الصفوف، ونيل نصيبهم العادل من رغيف الوطن الذي خبزوه بعرقهم ودموعهم. لم يكن أحمد فؤاد نجم جاهلا، رغم أنه لم يتلق تعليما منظما، ولم يفتقر للرؤية السديدة سياسيا وشعريا واجتماعيا. تلقى تعليمه من جامعة الحياة المفتوحة، وتشرب النماذج العليا في شعر العامية ممن سبقوه، ونهل من الشعر الشعبي الذي يتردد على ألسنة العامل والفلاح، وأتاحت له تجربة السجن لقاء كبار مثقفي مصر لقاء مباشرا، صقل وعيه وأرهف حاسته. وكانت له قدرة لا تبارى في الوصول إلى المفردة الشعبية المكتنزة بالدلالة، والحافلة بالمعنى، والغنية بالموسيقى. وسيكون من الجهل العميم، والخطل النقدي، اعتبار أحمد فؤاد نجم كاتب شعارات سياسية موزونة ومقفاة، دون الالتفات إلى معجمه الشعري الخاص، وتشكيلاته الدرامية، وقدرته الخارقة على الوصول للناس، وحضوره الدائم في لحظات مصر المصيرية، دون أن يملك ضرا ولا نفعا لأحد حتى يجد من يفرضه على وجدان الناس. ومن الخطل الفكري والجمالي النظر للكتابة الشعرية التي تعبر عن ضمير الجماعة نظرة أدنى من تلك التي تتغنى بآلام الفرد المعزول، الذي يغني وحدته وأنانيته. ولنتذكر أننا ننتمي لجيل شعري طالما سخر من ظاهرة أمل دنقل، انتصارا لطلاسم كتابية سقط معظمها من ذاكرة الكتابة العربية إلا عند أصلاء التجربة، والموهوبين منهم. إن المأتى السريع لشعر أحمد فؤاد نجم جزء من عبقرية توحد الألم الفردي مع ألم الجماعة. وإن موسيقاه موسيقى شعبية تخرج للتو من فرن التجربة الإنسانية لتصل إلى متلقيها ساخنة، وطازجة، وبنكهتها الحريفة. إنه شاعر الألم المصري الجوال، ومغني الثورة، وديك الفجر الذي يبشر بانقشاع الظلام .
صلاح اللقاني - شاعر
بعيدا عن شقشقة الشعراء قريبا من روح الناس
أنا مش فاهم حاجه صراحه .. لما القاتل يا خد جايزه .. كده من دون تلبيخ وقباحه .. يبقي .. يا إما اللجنه دى بايظه .. أو لا مؤاخذه .. رئيسها حمار، كنا نقول لبعضنا نحن معشر الشعراء الذين يلهثون وراء الصور الشعرية إن هذا النوع من الشعر يُنسى بعد سماعه وإنه يرتكز على قيم شفاهية لا كتابية ولم يحدث ما قلناه، وظللنا نجري وراء تكثير الدوال والرؤى النظرية باتجاه طموح محموم لتجاوز المباشرة والخروج من أسر الأباء وتجربتهم التي لم تكن بالفعل تجربتنا، لكن نجم رغم الاختلاف مع توجهه ظل علامة في تاريخ النضال بالشعر، ربما اختلف بعض النقاد والشعراء حول حجم شاعريته، لكنهم أجمعوا على تميز شخصيته وخصوصيتها، لأن شخصيته لصيقة بشعره واتجاهاته، لا انفصام بينهما، فإذا كان يحلو لبعض النقاد التعامل مع النص الشعري بوصفه ذاتا لها استقلالها عن شخصية كاتبه، فإن ذلك مع حالة نجم سيكون مخاطرة نقدية، وبالرغم من الجدل الذى دار حول تجربته، فقد أجمع العامة على محبة ما يقول وما يكتب، فحين تدنو منه ومن أشعاره لن تشعر بمسافة بين الإنسان وما يكتب، كما أنه لا يحب شقشقة المثقفين الذين يسبحون في أودية بعيدا عن الناس وإيماناتهم فهو على حد قول الشاعر الفرنسي'لويس أراغون':'إن فيه قوة تسقط الأسوار'ويتأكد هذا القول مع بينما إطلاق'علي الراعي'عليه الشاعر البندقية، لكنه كان فى كل الأحوال كان منتميا للناس رافضا حياة المثقف الذى يعيش فى برجه العاجى بعيدا عن أهل البلد: ‘يعيش المثقف على مقهى ريش .. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مزفلط كتير كلام.. عديم الممارسه.. عدو الزحام.. بكام كلمة فاضيه.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقف.. يعيش يعيش يعيش.. يعيش أهل بلدي'، هكذا يعرف نجم هدفه كرصاصة تذهب مباشرة إلى جسد القضية، لذا فقد تركت بعض أشعاره مكانها الشعرى لتقوم مقام الشعار، أليس ذلك من أدوار الشعر، سؤال قد يشتبك معه الكثيرون ممن يحبسون الشعر في دوره الجمالي فحسب، وهل نستطيع هنا أن نفصل الشعر عن الشاعر، أن نضع حدا بين الحياتي والفني عبر رحلة المعاناة، بداية من الطفولة، مرورا بالنضال والصعلكة، وليس انتهاء بالسجون التي أكلت وشربت من روح وجسد هذا الشاعر، والمجابهات التي دخلها كتابة، وحديثا، ونضالا لا يلين ولا ينقطع كأنك أمام شاب لم تنطفئ في روحه جذوة الثورة أبدا، إنه ذلك الكتاب الذي يمكن استعادته كلما أردنا التأريخ للمكابدة والنضال؛ طفولة مشردة، وشباب مقموع، وشعر محاصر، وكتابة لا تلقى محبة ومتابعة النقاد، فقد كان النقاد فى واد والشعراء في واد، ونجم فى واد، يكتب غير آبه بالنقاد، كل ما كان يعنيه أن تصل كلماته (الأشعار الأغاني الأزجال) إلى الناس ويكون لها فعلها على الأرض، لذا فقد امتطى صهوة التراث والمأثور الشعبي دون قصد الاستلهام أو التوشية، لكن استلهاماته تأتي من صندوق الخبرة الحياتية، فهي ليست خبرة قرائية أو نزوعا نحو استدعاء عناصر الفولكلور ليصبح شعبيا، فالعناصر تأتي ببساطة كأنها شعر الناس .
مسعود شومان- شاعر وباحث في الأدب الشعبي
شعر خارج المظلة
في عام 1974 شاهدت الثنائي نجم وإمام للمرة الأولى، كان ذلك في حفل غنائي أقامته إحدى الأسر الطلابية بكلية التربية الفنية بالزمالك، وما زلت حتى الآن أذكر تلك الصدمة التي تلقيتها آنذاك وأنا أسمع واحدة من أغانيهما المشتركة، ربما كان اسمها ‘على المحطة'، إذ كانت الأغنية تصور فيما تصور مشهدا حسيا صريحا لرجال يتحرشون بفتاة ترتدي الميني جوب داخل وسيلة نقل عامة. الصدمة لم تكن أبدًا في المشهد، بل كانت في اللغة الخشنة الجارحة التي اختارها أحمد فؤاد نجم لرسم ذلك المشهد، ساعيا من خلالها إلى خلخلة المفاهيم المستقرة عن الأخلاق داخل المجتمع، وإثارة الوعي بذلك الحائط السميك الذي ظل قائما بين السلوك الاجتماعي والرغبات السرية لدى البرجوازية المصرية.
وعلى أية حال، فقد وسمت تلك اللغة الجارحة اليقظة حضوره العام، ليصبح مجرد التماس مع نجم، سواء كان ذلك على المستوى الإنساني أو الشعري، فرصة لمواجهة المسكوت عنه ومحاصرة الوعي الزائف الذي لا يكف بطبيعته عن التمدد داخل الإنسان المعاصر بحكم وقوعه تحت وطأة آلة الإعلام الجهنمية وما تضخه من ثقافة الاستهلاك.
تبدو أهمية نجم القصوى إذن في صيرورته – مع الوقت- ممثلا للضمير العام وربما بوصلته أيضا، اللافت هنا أن هذه الأهمية وتلك المكانة كانتا تتعززان يوما بعد يوم، وعاما بعد عام على خلفية (التحولات/الانقلابات) الاجتماعية والسياسية الضخمة التي طرأت على الواقع المصري والعربي عبر العقود الخمسة الأخيرة، وما خلفته من ارتباكات فكرية وخلط للأوراق وتداخل في الخطوط، بينما بقي نجم قادرا طوال الوقت على إيجاد الموضع السليم لقدمه والحفاظ على المسافة بين منطلقاته الفكرية والواقع المتجدد.
إن تجربة أحمد فؤاد نجم التي لا يمكن فصل الشعري فيها عن الإنساني، تبدو الآن وكأنها أوسع من مخيلة النقد بأدواته الكليلة، ربما ذلك لأن نجم نفسه بات أكبر من كونه مجرد شاعر.
عاطف عبد العزيز - شاعر
شاعر يجرح الذوق العام
القصائد التي خلفها أحمد فؤاد نجم تنتمي إلى شعر المقاومة الذي يرتبط باللحظة التي كتب فيها وعنها، زمانيًا ومكانيًا، دون الاهتمام بجماليات الشعر، كصنع صورة مفارقة، أو تركيب لغوي لافت- وإن لم يخل من ذلك-، بل نجده على العكس يستخدم الدارج والمشاع من مفردات اللغة، حتى وإن بدت جارحة للذوق العام. يكتب أحمد فؤاد نجم وفي ذهنه إثارة جماهيره من العامة ودفعها لاتخاذ موقف سياسي ما، غالبا ما يكون ضد السلطة القائمة، أية سلطة جاءت على مصر طوال أكثر من ستين عاما، كتب خلالها الشعر المقاوم، فسجله مليء بالقصائد التي تهاجم جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، وحتى محمد مرسي. نجم نموذج لمناضل الفقراء، وظف شعره من أجل هذا الهدف ودفع الثمن غاليًا سجنًا وتشريدًا سنوات طويلة من عمره، حتى هيئته الخارجية ببنيانه الجسماني الهزيل وجلبابه يشيان بذلك، هو بشكل ما امتداد لعبد الله النديم شاعر الثورة العرابية، وهما معًا يشكلان خطًا مميزًا ومتميزًا في حركة شعر العامية المصرية، الذي يوازي خط فؤاد حداد وجاهين والأبنودي الذين أولوا اهتمامًا بتطوير جماليات شعر العامية، باعتباره رديف قصيدة الفصحى، وإن تأخرت في تطورها قليلاً، واعتمدت تركيبات أكثر سهولة. قصائد نجم سهلة وسلسة، وأسلوبه بسيط يعتمد الصوت العالي، والصدام المباشر، والسخرية اللاذعة، شائع وعادي في أحيان، وسهل ممتنع في أخرى، هذه التركيبة جعلت كثيرين من الهواة يقلدون شعره في قصائد سياسية وينسبونها إليه رغبة في تمرير موقف ما من قضية معينة، فنجم صادق لدى العامة وجماهيره العريضة، وصلب عنيد لا يهاب، يقول كلمته واضحة دون اعتبار للنتائج، ويكفي مثلاً أنه صاحب قصيدة ‘بيان هام' التي تمثل فيها الرئيس الأسبق أنور السادات بشكل ساخر، وهو يلقي بيانا للأمة، في عز سطوة السادات، مقلدا أسلوبه الأبوي الريفي، ولهجته الأريحية، وقد حوكم عسكريا وحكم عليه لقاء قصيدته تلك. ستبقى قصائد نجم باعتبارها شعارا سياسيا يتم استدعاؤها كلما لزم الأمر، وأظن أن الأمر سيلزم كثيرا في المستقبل القريب، بل والبعيد، في أمة تعاني من أزمات جمة لا يبدو لها انفراجا في الأفق.
سمير درويش -شاعر ورئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة
عن القفص والعصفور .. عن أحمد فؤاد نجم !
الموت، في النهاية، يحدث غير أن الناس لا يصدقونه مهما كان ثابتا ومستمرا ونافذا، يتعاظم تكذيب الحقيقة الأزلية حين تلف الأكفان جسدا حفظت ملامحه الناس وجل حركاته وإشاراته واعتادته كما اعتادت الطعام والشراب والنوم وممارسة الحياة، وحين تصعد إلى السماء روح أثرت الأرواح بأثرها البالغ فيها وغيرت العقول من فيوضاتها الألمعية تغييرا كبيرا ؛ كان موت أحمد فؤاد نجم حالة واضحة من حالات الموت غير المصدق على الرغم من مرض الرجل وكبر سنه وتوقفه الطويل عن الكتابة قبل الوفاة !
في السنوات الأخيرة التي سبقت رحيله، برز أحمد فؤاد نجم بروزا هائلا على الساحة الإعلامية المصرية (هو الذي كان أقرب إلى المنشور السري إلى ما قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير) ؛ فانفجار الأرض ببركان الغضب الشعبي هو اللحظة التي مهد لها شعره الغزير تماما كما لم يهد لها شعر شاعر آخر (ربما أستثني الراحل الكبير فؤاد حداد لكن لهذا حديث مغاير)، ثورة يناير كما لو كانت ثورة نجم نفسه، وقد شارك، في حر شمس وسط القاهرة قبلها (بينما قدماه لا تساعدانه على الوقوف)، في عديد من الوقفات الاحتجاجية مع حركات ككفاية ومع تيار اليسار المصري الذي عاش ومات ينتمي إليه بقوة ومجموع المثقفين الثوريين ممن كان يطمئن إليهم ويأنس بهم ويسامرهم … هذه الوقفات بالمناسبة، كانت، مع فعاليات شبيهة أخرى وعناصر داعمة، بمثابة اختمار العجين الثوري !
شعر نجم الذي كان الشباب يتغنون به في الميادين؛ هو الشعر الذي خطته الميادين نفسها بيديه، فلم يكن سوى ابن الحارة المصرية التي تفضي إلى شارع يفضي إلى ميدان يلم عشاق الوطن الشجعان :
الجدع جدع
والجبان جبان
بينا يا جدع
ننزل الميدان
عبد الرحيم طايع
.. يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.