تربية: التسجيلات في السنة الأولى ابتدائي بداية من هذه السنة عبر النظام المعلوماتي    الفريق أول شنقريحة يشرف على افتتاح أشغال الاجتماع السنوي لإطارات العتاد    الرئيس يكرّم قضاة متقاعدين    انطلاق أشغال منتدى دافوس في الرياض بمشاركة عطاف    بوغالي يؤكد أهمية الاستثمار في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي    نريد ديناميكية ونجاعة وتلبية انشغالات المواطنين    مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري يثمن قرار خفض نسب الفائدة على القروض الاستثمارية    الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى    1000 مليار لتعزيز الأمن في المطارات    قسنطينة: السيد ديدوش يعاين عديد المشاريع الخاصة بقطاعه    الصهاينة يتوحّشون في الضّفة    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و454 شهيدا    الجزائريان مسعود وبلقاضي يُتوّجان بالذهب    الكرة الطائرة/ بطولة إفريقيا للأندية/سيدات: جمعية بجاية تتغلب على ليتو تايم الكاميروني (3-2)    الجزائر وفرت الآليات الكفيلة بحماية فئة المسنين وتعزيز مكانتها الاجتماعية    لحوم الإبل غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات    خلال زيارة تفقد وعمل إلى سكيكدة: دربال يحمل مسؤوليه المحليين واقع قطاع الموارد المائية غير المقبول    خنشلة: التوقيع على اتفاقيتي تعاون مع مديريتي الشؤون الدينية والتكوين المهني    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: طرح الصعوبات التي يواجهها المخرجون الفلسطينيون بسبب الاحتلال الصهيوني    بغالي: الإذاعة الجزائرية ترافق الشباب حاملي المشاريع والمؤسسات الناشئة من خلال ندواتها    وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ستواصل جهودها لمواجهة كل من يسيء للمرجعية الدينية للجزائر ولثورة نوفمبر    البليدة: إطلاق أول عملية تصدير لأقلام الأنسولين نحو السعودية من مصنع نوفو نورديسك ببوفاريك    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة بالنسبة لمطار أدرار    حج 2024: دورة تدريبية خاصة بإطارات مكتب شؤون حجاج الجزائر    مهرجان الجزائر للرياضات-2024: اختتام الطبعة الأولى بأصداء إيجابية في أوساط العائلات والشباب    كرة القدم/الرابطة الأولى "موبيليس" : مولودية الجزائر تعمق الفارق في الصدارة وشبيبة القبائل تبتعد عن الخطر    كرة اليد (البطولة الإفريقية للأندية وهران-2024): تتويج الترجي التونسي على حساب الزمالك المصري (30-25)    انطلاق أشغال منتدى دافوس في الرياض بمشاركة عطاف    فلسطين : العدوان الإرهابي على قطاع غزة من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ    فلاحة/مؤسسات ناشئة: اطلاق الطبعة الرابعة لمسابقة الابتكار في قطاع الفلاحة في افريقيا    تسخير كل الإمكانيات البشرية والمادية لإنجاح الإحصاء العام للفلاحة    غرداية : اقتراح عدة معالم تاريخية لتصنيفها تراثا ثقافيا    ممثلا لرئيس الجمهورية.. العرباوي يتوجه إلى كينيا للمشاركة في قمة المؤسسة الدولية للتنمية    اندلاع مواجهات مع قوات الاحتلال في الضفة الغربية    الإقبال على مشاهدته فاق التوقعات    إياب نصف نهائي كأس الكونفدرالية: الاتحاد متمسك بموقفه وينتظر إنصافه بقوة القانون    لا صفقة لتبادل الأسرى دون الشروط الثلاثة الأساسية    10 % من ذخائر الاحتلال على غزّة لم تنفجر    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    مباشرة إجراءات إنجاز مشروع لإنتاج الحليب المجفف    استئناف أشغال إنجاز 250 مسكن "عدل" بالرغاية    مظاهرات الجامعات يمكن البناء عليها لتغيير الموقف الأمريكي مستقبلا    دورة تكوينية جهوية في منصة التعليم عن بعد    حساسية تجاه الصوت وشعور مستمر بالقلق    إنجاز جداريات تزيينية بوهران    15 ماي آخر أجل لاستقبال الأفلام المرشحة    أكتب لأعيش    هدم 11 كشكا منجزا بطريقة عشوائية    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    الاتحاد لن يتنازل عن سيادة الجزائر    رياض محرز ينتقد التحكيم ويعترف بتراجع مستواه    بيولي يصدم بن ناصر بهذا التصريح ويحدد مستقبله    فتاة ضمن عصابة سرقة بالعنف    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجم عابر للأوطان
نشر في النصر يوم 09 - 12 - 2013

غاب الثلاثاء الماضي الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم وبقدر ما صدم رحيله الأوساط الثقافية المصرية صدم الوسط الثقافي الجزائري، حيث كان نجم يتمتع بحب المثقفين والجماهير الجزائرية التي عرفته كمنفي دخل القلوب بلا استئذان وأقام في الجزائر التي منحته بيتا ظل يحمل اسمه لسنوات طويلة، ومعلوم أن نجم أقام رفقة صديق العمر الشيخ إمام العيسى في الجزائر وتزوج فيها، وفيها انقطع حبل المودة بينه وبين إمام و سنكتشف في هذا العدد من "كراس الثقافة" أسباب الخلاف بين الرجلين.في هذا العدد يسترجع كتاب جزائريون، أيضا، نجم كما عرفوه. كما يقدم كتاب مصريون شهاداتهم عن هذا المغني الثائر الذي اجتمع العرب في حبه، والذي اختار أن يعيش بسيطا ويموت بسيطا ولم يبع ولم يشتر كما فعل غيره ممن ركبوا قطار اليسار في طريقهم إلى أقصى اليمين. غاب نجم، في ظرف زمني حساس يحتاج فيه العرب التائهون في ظلام الصحراء إلى أكثر من نجم.
ساهم في إعداد الملف: نوارة لحرس- عبدالحكيم أسابع- محمد عدنان
الشاعر والكاتب عبد العالي رزاقي
أنا من أحضر الإمام لعقد قرانه على الفنانة صونيا ولم أكن السبب في خلافه مع الشيخ إمام
'' التقيت بالشاعر أحمد فؤاد نجم الذي يعد أهم شعراء العامية في مصر وأحد أبرز ثوار الكلمة، وتعرفت عليه عن قرب خلال زيارته في الثمانينيات إلى الجزائر وإقامته بها خاصة وقد كانت أول دولة عربية تستقبله بعد خروجه من السجن وتمكنت من مرافقته وحضور العديد من المناسبات التي قدم فيها أشعاره بصحبة رفيق دربه المطرب الشيخ إمام، عندما كنت أشغل وظيفة منشط ثقافي لدى وزارة التعليم العالي استقبلته في بيتي ولم أكن سببا في الطلاق الفني مع الملحن والمغني الشهير الشيخ إمام كما أشيع عني لأن اصل الخلاف بينهما كان منطلقه ماديا.
جاسوس تونسي هرب 60 ألف دولار منحتها وزارة الثقافة لنجم وإمام
لقد كان فؤاد نجم ظاهرة شعرية وقد تمكن بفضل موهبته المتدفقة في الشعر الشعبي السياسي الساخر والملتزم الذي عبر من خلاله عن رفضه للظلم، وجسد فيه روح الاحتجاج الجماهيري الذي بدأ بعد نكسة 1967، أن يتوغل إلى قلوب الملايين بسرعة، وخاصة إلى قلوب طلبة الجامعات وهو أول من فتح باب الغناء في الأحياء الجامعية.
وقد لعب الشاعر دورا كبيرا في إيقاظ الوعي في أوساط طلبة الأحياء الجامعية عبر الوطن وفتح أعين الكثيرين منهم رفقة الشيخ إمام على العلاقة الوطيدة بين الإبداع الأدبي والسياسة، وعلى مسؤولية الكلمة في التعبير عن القضايا سيما وأن شعر نجم يأخذ منحى سياسيا في قالب ساخر وكان شعره أكثر انتشارا.
وقد كان الثنائي نجم وإمام سببا في ظهور توجه جديد في الساحة الأدبية – الفنية، تمثل في مرافقة الفنانين للشعراء في إلقاءاتهم الفنية مثل ما فعل الفنان والموسيقي الراحل محمد بوليفة الذي رافق الشاعر العراقي مظفر النواب في إلقاءاته عندما زار الجزائر.
وبخصوص وما ذكرتم عما يتردد من كوني كنت سببا في الخلاف الذي وقع بين فؤاد نجم والشيخ إمام وانفصالهما عن بعض فنيا، فهذا غير صحيح لأن أصل الخلاف بين الطرفين كان ماديا و متعلق بالجانب المادي، وسببه حسب علمي هو قيام مدير أعمالهما وهو مناجير تونسي يحمل الجنسية الفرنسية، واسمه الصادق على ما أتذكر، بتهريب مبلغ 60 ألف دولار نحو تونس وهو المبلغ الذي سلمته وزارة الثقافة الجزائرية ضمن '' شيكا بنكيا '' كمقابل مادي للحفلات التي نشطها الثنائي الشاعر والفنان، عبر التراب الوطني، علما أن هذا المتعهد عندما هرّب الشيك نحو تونس أخذ معه الفنان الشيخ الإمام لكن السلطات التونسية منعت دخوله فحول المناجير وجهتهما إلى فرنسا من أجل صرف الشيك، دون أخذ فؤاد نجم، وهو الأمر الذي دفع بهذا الأخير إلى تحريك دعوى قضائية من باريس ضد '' المناجير '' لاسترجاع حقوقه المادية وقد ساعده في رفع الدعوى الكاتب رشيد بوجدرة.
وتعود خلفية فرار '' المناجير '' التونسي – الفرنسي الجنسية '' نحو تونس، إلى افتضاح أمره بعد شروعه في القيام بنشاطات جوسسة، لفائدة جهة أو جهات أجنبية في الجزائر، وكان لي الفضل في اكتشاف أمره وفضحه ضمن نص حوار أجريته مع الشاعر أحمد فؤاد نجم نشرته في صفحتين في أسبوعية '' أضواء '' وتطرقت فيه إلى بعض الدلائل التي تؤكد بأن هذا الشخص المزدوج الجنسية، كان يسعى للتغلغل في الأوساط الرسمية الجزائرية باستغلال صفته كمدير أعمال فني، لغرض الجوسسة.
التقى بكاتب ياسين في بيتي و صارا صديقين
وأشير هنا إلى أن هذا '' المناجير '' كان قد اشتاط غضبا مني ذات مرة عندما منعته من حضور مأدبة نظمتها شخصيات جزائرية، على شرف فؤاد نجم، وقلت له لا شأن لك برجال السياسة ولقاءاتهم فأنت مجرد مدير أعمال فني مهمتك التنسيق مع الجهات المعنية بتنظيم الحفلات والتفاوض بشأن الحقوق المادية المترتبة عنها وليس شيئا آخر.
وأشير هنا إلى أنني أجريت عدة حوارات مع الشاعر فؤاد نجم وهي مسجلة في عدد معتبر من الأشرطة السمعية لم تنشر من قبل وسأسعى لنشرها لاحقا ليطلع القراء على مضمونها التاريخي ، كونها تتطرق إلى التجربة الشعرية لهذا الشاعر المتميز الذي انتشر في الأوساط الشعبية قبل انتشاره إعلاميا.
كما لا يفوتني التنويه إلى أن فؤاد نجم كان يحب الجزائر حبا كبيرا كما لو أنها هي موطنه الأصلي وأحب شعبها حتى بعد عودته إلى بلاده خاصة وأن الجزائر كانت أول بلد احتضنته بخروجه من السجن كما أسلفت وتزوج فيها بالفنانة المسرحية صونيا وتحصل على سكن اجتماعي وكنت من بين الذين حضروا عقد قرانه على صونيا بل وأنا الذي أحضر إمام مسجد الرحمة لقراءة الفاتحة على العقد الشرعي، وقد ظل عقد المسكن باسمه ولم يتنازل عنه لهذه الأخيرة إلا السنة الماضية عندما زارته في مصر التي توفي بها في الثالث من شهر ديسمبر الجاري.
وكان '' الفاجومي '' وهو من أشهر كنياته سببا في بروز العديد من فناني الكلمة الملتزمة على غرار مارسيل خليفة وعدلي فخري، قد التقى بكاتب ياسين في بيتي وربطته به علاقة طيبة جدا ''، كما كان شديد التعلق بلعبة '' الكوتشينة '' الورقية وكان صريحا مع محيطه لا ينافق ولا يجامل من يكرههم''.
سأله: عبد الحكيم أسابع
الطاهر بن عائشة للنصر
كان يصفني بإمبراطور النميمة وهو أحد ملوكها
في آخر ديوان له تحت عنوان "أهيم شوقا" أهداه لصديقه الكاتب والصحفي الطاهر بن عائشة كتب الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم على صدر الصفحة الأولى يقول " الإمبراطور العظيم.. المجد للإنسان في إمبراطوريتك والهزيمة لأعداء الحياة.. -مع حبي نجم-"، هكذا كان يسمي أحمد فؤاد نجم الذي رحل عنا قبل أيام فقط الطاهر بن عائشة أقرب الناس إلى قلبه هنا في الجزائر التي أحبها كثيرا وأحب ثورتها بشكل أكبر.
لم يستطع الكاتب الصحفي والرحالة الطاهر بن عائشة استرجاع شريط الأحداث ولملمة ذاكرته ليحدثنا عن صديقه الحميم الشاعر المصري احمد فؤاد نجم الذي غادر هذا العالم قبل أيام قليلة فقط، ونحن نطلب منه ذلك قبل يومين ببيته بالعاصمة، فقال انه التقاه عشرات المرات هنا في الجزائر ومرة واحدة في القاهرة..ويقول انه تعرف إلى نجم في إحدى المناسبات هنا في الجزائر لكنه لم يتذكرها بالتدقيق، وكان ذلك في المسرح الوطني الجزائري الواقع بساحة بورسعيد، وبالضبط بمقهى "طانطانفيل" الشهير المحاذي للمسرح، هذا المقهى الذي يجلس فيه المثقفون و مرتادي المسرح الوطني في المناسبات الثقافية، والذي لا يزال إلى اليوم يحتفظ بهذه الشهرة الثقافية.
ويقول الطاهر بن عائشة الذي تجاوز الثمانين سنة بكثير اليوم وهو يحاول استرجاع ذكريات الماضي مع أحمد فؤاد نجم أن اللقاءات الأولى بينهما تناولت العديد من المسائل، وكانت ايضا لتصحيح بعض المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي كانت في ذهن نجم عن الجزائر، وكثيرا ما يتشعب النقاش والحكي بينهما ليصل إلى أمور اليسار العربي، وهموم العرب بصورة عامة وقضايا الأمة وصولا إلى أزمة اليسار العالمي.
من بين الذكريات الجميلة التي يحتفظ بها عمي الطاهر عن احمد فؤاد نجم والتي أعجبته كثيرا وصفه له بإمبراطور النميمة بعد جلسات انتقد فيها بن عائشة افكار نجم، وبعدما عرف هذا الأخير طبيعة نقاشات الطاهر بن عائشة وعدم تساهله في التحليل والنقد، والنميمة هنا عند الرجل هي النقد والانتقاد، وليس النميمة بالمعنى السلبي الديني الشائع في المجتمع، ويقول بن عائشة أن نجم قال له بعد ذلك " كنت اعتقد أنني ملك النميمة فإذا بك أنت إمبراطورها" مند ذلك الوقت صار يصفه دائما بإمبراطور النميمة وهو- أي نجم- احد ملوكها فقط.
ويصف الطاهر بن عائشة صديقه فيقول أن شعره كان هو لسانه وهو روحه وهو كل شيء فيه، وحتى اسمه شاعري.. كان يتمتع بروح دعابة وروح رياضية عالية حتى أن من لا يعرفه جيدا يمكن أن يصطدم به..كان أحمد فؤاد نجم -حسب شهادة الطاهر بن عائشة- يساريا حتى النخاع، يؤمن حق الإيمان بالثورة وبالأفكار الثورية، وبأنه يمكن تغيير العالم بهذه الأفكار، وكان بن عائشة في المراحل الأخيرة يختلف معه ويحاول إفهامه أن العالم تغير كثيرا ولم يعد ذلك الزمن الذي تربى فيه نجم وأمثاله، رغم اعتقاده- أي بن عائشة- أن اليسار حقق الكثير للعالم في مناحي عدة، وأعداء اليسار موجودين دائما فوق هذا الكوكب وهم الذين يعيشون على أكتاف الطبقات الأخرى. و يصل الحد بعمي الطاهر إلى وصف أحمد فؤاد نجم باليساري المتطرف لأن تمسكه بأفكاره اليسارية تبعده في بعض الأحيان عن المنطق، فتتجمع عنده أحاسيس غريبة.. فيصبح يحب لله ويكره لله ويحب للوطن ويكره للوطن.
لكن أحمد فؤاد نجم أحب كثيرا الثورة الجزائرية ويحب الشعب الجزائري، وكان يدافع عنها بقوة ويعتبرها رمزا للعرب وإحدى مفاخرهم وعلى هذا الأساس كان يعامل الجزائريين، ولما كان ينزل بالجزائر كان دائم الحرص على مقابلة شخصين هما الطاهر بن عائشة وجميلة بوحيرد، في كل مرة يزور فيها بلادنا كان لابد أن يرى بوحيرد وبن عائشة وكأنهما فرض عين عليه. ومما يذكره الطاهر بن عائشة في هذا المقام أيضا انه قابل أحمد فؤاد نجم مرة واحدة فقط في القاهرة ومرات عديدة هنا في الجزائر، فلما نزل بالقاهرة لقضاء حاجة هناك طلب من مجموعة من الشبان الصغار أن يوصلوه عند نجم فكان له ذلك، وقد فرح به كثيرا ونظم له ندوة هناك تبادل فيها مع الحضور النقاش حول قضايا عدة تهم العالم العربي. وخلال حدوث الأزمة الكروية بين الجزائر ومصر زار احمد فؤاد نجم بعدها الجزائر وقدم للجزائريين اعتذارا باسم مصر وشرفائها..ففد كان رجلا طيبا متمسكا بأفكاره وبحبه للجزائر أيضا.
محمد عدنان
أُخذ بجمال الجزائر واندمج في صميم الطبقة المثقفة الجزائرية
عندما خرج الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم من سجون السادات منفيا إلى فرنسا، تحايل الشاعر وحول طريقه إلى الجزائر التي استقبلته استقبال الأبطال، كانت أشعاره قد ذاعت بسرعة وصوته قد سبقه إلى الجزائر قبل ذلك بحوالي عقد من الزمن، وكانت قصائده على ألسنة الطلبة والمثقفين الجزائريين، كما سبقته إلى الجزائر أسطوانة من 33 دورة تحمل مجموعة من القصائد من تلحين وأداء رفيق دربه الملحن الشيخ إمام عيسى. في هذه الفترة كانت دائرة النشاط الثقافي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي تحتضن أصوات المثقفين والأدباء والشعراء من كافة أنحاء العالم، وقد أرسى هذا المنحى المرحوم مصطفى كاتب.
أقام رفقة الشيخ إمام عدة أمسيات (ثورية) في عدة مدن جزائرية لقيت نجاحا منقطع النظير، بيد أن أحمد فؤاد نجم قد أُخذ من جهته بجمال الجزائر واندمج في صميم الطبقة المثقفة الجزائرية حيث سنت عادة حميدة إذ صار ضيف شرف في بيوت الجزائريين، وعلى ما أذكر كانت أول سهرة في بيت كاتب ياسين المشهور بفوضاه، لكن زوجته زبيدة شرقي كانت تقوم بكل كبيرة وصغيرة وختمها الشيخ أمام بصوته الأجش فتفطن الجيران فتقاطروا على البيت (حي ميسوني) الذي اكتظ على آخره ودامت السهرة إلى الصباح وتكررت العملية بالتقريب في بيت المرحوم الطاهر وطار.
أصبح دائم الحضور في مقر اتحاد الكتاب، رفقة وطار والطاهر بن عيشة، ورزاقي وحرز الله محمد الصالح،، قرر نجم أن يبقى في الجزائر بينما عاد رفيق دربه إلى مصر لأنه لم يكن متابعا مثله، وعن طريق اتحاد الكتاب ومن خلال رئيسه الدكتور محمد العربي الزبيري تم توفير سكن حيث استقر وتزوج من الفنانة صونيا.
سافر إلى سوريا ولبنان لإحياء أمسيات شعرية، حضرت إحداها في صالة تشرين كانت مملوءة على آخرها وفيها تعرف على الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب الذي لم يعد يفارقه، وتم إحياء سهرات على شاكلة سهرة كاتب ياسين لكن هذه المرة في دمشق ودون الشيخ إمام لكن مظفر النواب كان يقوم بالدور، إنه عازف ماهر، أصبح نجم مأخوذا بثلاث مدن، القاهرة، الجزائر، دمشق وآخر مرة زرته في القاهرة في حيه الشعبي، كان منهك القوى لكن ذا عزيمة صلبة، رحمه الله.
مرزاق بقطاش
هذا القطار الذي يرفض أن يصل في الوقت المحدد!
أحمد فؤاد نجم شاعر حقيقي، أي إنسان متمرد. والمتمرد في هذا السياق لا يعني أبدا الخروج عن الطوق وأعراف القبيلة، بل هو ذلك الذي يثور على ما هو فوقي ظالم على غرار ما يحدث في الأرض العربية على امتداد رقعتها. وما يتميز به الشاعر الراحل هو أنه قال الحقيقة طيلة حياته. أتذكر أنني التقيت به مع الروائي الجزائري الطاهر وطار في مقر اتحاد الكتاب الجزائريين في أواسط الثمانينات من القرن المنصرم. لأول وهلة عرفت فيه إنسانا لا يعرف كيف يضبط لسانه، أي إنه ما كان يعرف سبيلا إلى المجاملة. تبادلنا الرأي في الرواية المصرية، فقال لي إنه يفضل يوسف القعيد على جمال الغيطاني. اعترضت عليه وقلت له إن أسلوب الغيطاني أفضل بكثير، أما القعيد فإنه لا يعتني بلغته، بمعنى أنه يكتب الرواية تماما مثلما يكتب المقالة الصحفية في مجلة "المصور" التي يشتغل فيها. لم نتحدث في شؤون الشعر، لا العامي منه ولا الفصيح. ثم راح يتحدث عن حياته الشخصية وعن زوجته الأولى التي كانت تتحمل ضرباته. وبدا لي عندئذ أنه نادم على سلوكه الأرعن حيالها ذلك لأنه، وهو الفلاح المصري الأصيل، إنما تمرد على واقعه المرير من أجل أن يستعيد الكرامة التي حرمتها منه الملكية المتخلفة والأنظمة الجائرة. ثم حدثني عن زوجته الفنانة عزة بلبع حديثا مقتضبا ما عدت أتذكر تفاصيله على وجه التحديد حتى وإن أنا فهمت منه أنه كان مزواجا. ولما لاحظت تبسطه في الحديث معي سألته عن الأديبة صافيناز كاظم فأجابني بنبرة استغراب: ومن أين جئت بهذه المعلومات كلها؟ قلت له أنا قارىء نهم لا أريد أن يفلت مني شيء. وبدا عليه أنه رضي كل الرضا بجوابي ذاك فأردف قائلا: لقد كانت زوجتي أيضا. قال لي بالحرف الواحد إن زواجه بها تم في ظرف دقائق معدودات في أحد المقاهي القاهرية. كان هو خارجا لتوه من السجن في مطالع السبعينات، وتبادل كلمات بسيطة معها وإذا بها توافق على أن تصير له زوجة ثالثة أو رابعة. وفي اليوم التالي من لقائي بالشاعر أحمد فؤاد نجم استقبلت صحفيا مصريا جاء إلى الجزائر في نطاق مهمة إعلامية مع صحفيين آخرين. قلت له بحسن نية: ابن بلدك، الشاعر أحمد فؤاد نجم، موجود هذه الأيام بين ظهرانينا. وكان أن أبدى امتعاضه قائلا: أنا لا أرتاح له. إنه إنسان مشاكس!.
صححت قوله: بل هو شاعر مشاكس! وهذا الفرق هو الذي يقوم بين الإنسان المستكين والإنسان المتمرد.
وعاد يسألني: هل تكتب النقد الأدبي إلى جانب القصة القصيرة والرواية؟
أجبته بقولي: كلا، وإنما أكتب مجرد خواطر إذا ما تعلق الأمر بإبداء الرأي في إبداع الآخرين. أنا قارىء تأثري، أي انطباعي. أقرأ فأحب أو قد لا أحب ما قرأته. وذلك شأني، ولا أحب أن يناقشني فيه أحد.
قال لي: هذه قساوة من جانبك. فرددت عليه: بل إن الكرة في مرماك، يا هذا، كما يقول المثل الفرنسي. كيف تنكر على شاعر في عظمة أحمد نجم أن يكون شاعرا مشاكسا؟ ما فائدة الشاعر إذا كان ملاينا مهادنا؟ أين تكمن عظمة المتنبي والمعري وبول فرلين وآرثر رامبو وفلاديمير ماياكوفسكي وإميلي دكنسون والعشرات من الشعراء الذين خلخلوا الوجود البشري وزعزعوه؟ أليست هذه العظمة كامنة في تمردهم جميعا على كل ما يحول بينهم وبين الإنطلاق الحر في دنيا الله؟
وأحسب أن الحديث بيننا توقف عند هذا الحد. وأتذكر أنني أضفت بقولي: القطار الذي يصل في الموعد المحدد له لا فائدة ترتجى من ورائه ولا يأتي بجديد. والشاعر أحمد فؤاد نجم قطار يخترق المدن والضواحي ولا يلوي على شيء. إنه أشبه بذلك القطار الذي تحدث عنه الروائي العظيم نجيب محفوظ في قصة قصيرة له نشرها بصحيفة الأهرام وتحمل عنون "السائق المجنون". وتعلمت في ذلك اليوم أن الكثير من المثقفين في هذا العالم العربي هم الذين يعرقلون مسيرة التحرر لأنهم يسيرون في ركاب أسيادهم من الحكام.
لا أحب التحدث في أمور شخصية، ولكن أحمد فؤاد نجم كان أسير شاعريته الشعبية الفياضة، تلك التي جعلته ينطلق في دنيا الله على سجيته، ويتزوج أيضا على سجيته، ويدافع – وهذا هو الأهم - عن المنبوذين والفقراء ونزلاء السجون. رحمة الله عليه.
إنه ليس بميت
شأن كل البشر الكبار وكل النصوص الكبرى، تتعدد الزوايا التي يمكن النظر منها إلى أحمد فؤاد نجم وإبداعه، وقد تناوله الكثيرون كتابة وشفاهة خلال نصف قرن من وجوده الباهر والمحرض، هو الشجاع إلى حد التهور، الحسي إلى حد الجنون، البسيط إلى حد المسكنة، المستغني إلى حد السلطنة، الشهير كالشمس.
وخلال هذه الأيام الأخيرة، أيام عبوره إلى الضفة الأخرى من الحياة، أقامت العديد من العواصم العربية والعالمية أمسيات لتأبينه، والعديد من الفعاليات عدلت برامجها لتنعيه، ليس أداءً لواجب العزاء في مبدع "نجم" بل إحساسًا حقيقيًا بأن الحياة صارت بدونه ناقصة.
كنت في روما لحظة وفاته، وكان من المقرر إقامة أمسية شعرية في الأكاديمية المصرية بالعاصمة الإيطالية في اليوم التالي، سرعان ما تحولت إلى احتفالية بحياة نجم وشعره، تحدثت عنه جيهان زكي مدير الأكاديمية، واستفاضت المستشرقة فرانشيسكا كراو في الحديث عن ذكرياتها مع نجم والشيخ إمام، عندما وصلت إلى القاهرة في السبعينيات ووجدت نفسها في قلب الحراك المصري ضد السادات، الصديق حسين محمود أستاذ الأدب الإيطالي الذي قدم الأمسية جعل البداية بقصيدة "مصر يا امه يا بهية" بصوت الشيخ إمام، والشعراء المشاركون: محمد يوسف، مجدي سرحان، هشام فياض ومنال سري، أفسحوا للأب، وأحدهم (مجدي سرحان) قدم قصيدة قصيرة في حب نجم كتبها في الليلة نفسها.
صحيفة لاريبوبليكا أفردت كغيرها من صحف عالمية كبيرة، مساحة للحديث عن الشاعر الذي استطاع أن يجمع العرب من خلال قصائده المكتوبة بالعامية المصرية.
ربما كانت العامية المصرية محظوظة بسبب قوة صناعة السينما المصرية التي بدأت يومًا بيوم مع السينما في الغرب، مما جعلها مفهومة في كل البلاد العربية، مع ذلك فانتشار نجم يعود في جانب كبير منه إلى شخصه الذي ترسخ كأيقونة للنضال، كذلك يضع انتشاره سؤالاً كبيرًا حول دور اللغة في الشعر، فمهما كانت اللهجة المصرية مفهومة من العرب الآخرين ما كان لقصائد نجم أن تصبح بهذه الألفة لو لم يجد فيها المتلقي العربي تلك القوة في الصورة الشعرية وذلك الوضوح في الرؤية الذي يتمتع به شاعر اعتاد اللعب مع الحياة وليس مع الشعر.
وإذا كانت التجارب قد علمتنا التأني في الحكم على الإبداع إلى ما بعد وفاة صاحبه، أي بعد تعرية الفن من الأسطورة الشخصية والعلاقات الاجتماعية للمبدع، فالأمر مختلف مع إبداع نجم، لأن الرجل كان يطلق القصيدة ويتركها لحال سبيلها، وكانت القصيدة تعرف طريقها أو بالأحرى تعرف مكانها في القلوب. ويمكننا بثقة أن نتنبأ بالعمر الطويل لشعر نجم.
كتب نجم العديد من القصائد التي مهدت لثورة 25 يناير 2011، بينما كان الشباب يستعيدون قصائده الأقدم التي تقدمت مظاهرات 1977 العارمة ضد السادات. ودائمًا وأبدًا كانت هناك نبوءته وأمنيته الجميلة ببقاء مصر شابة بعد أن يشيب الزمان. يغنيها المصريون بوصفها روح مصر ويغنيها العرب استبشارًا لأن مصر هي القلب الذي يرمز لحياة كل الأمة.
شاعر التحريض الدائم وما حققه هو تحويل القصيدة إلى منشور فني سياسي
الرحلة التي قطعتها قصيدة العامية المصرية بدأت في التبلور عبر مربعات ابن عروس، ودواوين فؤاد حداد المقاومة للقهر، مرورا بأغاني صلاح جاهين المعبرة عن فترة الصعود الناصري، وفي سياق آخر حقق سيد حجاب قصيدة تقترب مع أجواء الشغيلة في البحر حيث عوالم الصيادين، وقريب منه أجاد عبد الرحمن الأبنودي رسم الصعيد بآهاته وأحلامه عبر صور شديدة الجدة، وحين حدثت هزيمة 5 يونيو خرست الألسنة فيما صعد إلى واجهة المشهد صوت مقتحم يعلن رفضه التام وتمرده، وهو أحمد فؤاد نجم.
اختار هذا الشاعر أن يلعب لعبته الفنية بقواعد جديدة، فهو لم يتجه للأشعار المركبة والمعقدة، بل حاول المزج بين الروح الثورية المتأججة في الصدور وبين بساطة التركيب عند الفنان الشفاهي حين يرتجل الموال ويصعد بالآهات درجات حين يردد "يا عين يا ليل". لقد طور تجربة نجيب سرور التي اهتمت بالدراما وتمكن من فهم المزاج الشعبي مع نصوص في غاية القوة والرهافة معا.
الحقيقة أن مظاهرات الطلبة خلال عام 1968 وما بعدها كانت الحاضن الرئيسي ليصبح لهذا الصوت جمهوره العريض، وهو ما تحقق بالفعل عبر نوع من القصائد التحريضية التي وجهت همها الأكبر لفضح "تنابلة السلطان"، وكان نصه الشعري جارحا ومؤلما، وهو يتغنى "جيفارا مات"، "أتجمعوا العشاق في سجن القلعة"، "بقرة حاحا النواحة" ثم وهو يوغل في لجة السياسة "شرفت يا نيكسون بابا"، و"فاليري جيسكار ديستان"، و"هما مين واحنا مين"، وغيرها. ما حققه نجم هو تحويل القصيدة إلى منشور فني سياسي مع القبض على حالة من السخرية التي تتهادى في جنبات النص. لقد استطاع هذا الشاعر بنجاح فهم المزاج الشعبي وارتكز على إدراك عميق وأصيل للروح العابثة الساخرة من الحكام المرتبطين بولاءات خارجية، كما انتهج طريقة مختلفة في الآداء حين ارتبط برفيق رحلته الشيخ إمام فصارت هناك أغنية سياسية فنية لها تقاسيم شديدة الخصوصية، واضحة التأثير، وقد اختلف نجم عن غيره أنه بطبيعته فوضوي فصعب على السلطات تدجينه وإخضاعه لمظلتها، فقد دخل المعتقل مرات عديدة فكان يكتب أشعاره سرا ويسربها لمريديه فتموج التجمعات الطلابية والعمالية بمقاطع من قصائده تحفظ وتردد في المظاهرات.
كنت آخذ على نجم أن مثل هذه النبرة المحرضة والمباشرة، سرعان ما تسقط بالزمن لكنني لاحظت أن شباب ثورة 25 يناير 2011، قد أعادوا قصائده وتغنوا بها مما يعني أن هناك عناصر فنية وجمالية أصيلة حققت لها البقاء. أحمد فؤاد نجم شاعر مشاكس وكانت فضيلته أنه ظل على عهده لم يتغير مهما اختلف الحكام وتقلبت الأجواء، فحياته هي مسيرة رفض دائم للتدجين والصمت والرداءة!.
كان عاشقا كبيرا للجزائر
كان اسم الشاعر أحمد فؤاد نجم متداولا في الأوساط الأدبية الجزائرية في السبعينات من القرن الماضي وكانت قصائده وأخباره تصلنا من مصر أولا بأول، كما كانت تصلنا أخبار المضايقات التي يتعرض لهل برفقة الشيخ إمام من طرف السلطات المصرية وخاصة دخولهما السجن بسبب القصائد والأغاني وما تحملها من مواقف بخصوص الفقراء والمحرومين والشغيلة وكذا بسبب الوقوف دفاعا عن القضية الفلسطينية. ولأن المرحلة التي أتحدث عنها هي مرحلة انتشار الفكر اليساري سياسةً وإبداعا، المرحلة المشحونة بقيم النضال من أجل الحرية والتحرر والالتزام بقضايا الشعوب المضطهدة، فلم تكن الحركة الأدبية الجديدة التي حمل لواءها جيل السبعينات في الجزائر لتشذ عن الهموم العامة للمجتمع، فالاشتراكية على لسان كل الجزائريين يتغنون بها ويعتنقونها بدون تردد أو تحفظ. فحالة الفقر فاقت التصور، ومطالب العدالة والمساواة تملأ العقول والقلوب وتتغنى بها الحناجر، وقد آمن الناس جميعا بأن الاشتراكية منهج اجتماعي للخروج من وضعية بائسة ترك الاستعمار كل الجزائريين عليها، في الأرياف وفي المدن. وكانت الشعوب العربية في مستوى متقارب، ولم ترقَ إلى مستوى المطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية سوى قضية واحدة هي قضية فلسطين. هذا هو باختصار شديد الجو العام الذي ظهر فيه اسم فؤاد نجم والشيخ إمام في وسط ثقافي مصري تتجاذبه قوى سياسية وصفت بالتقدمية اليسارية والقوى الوطنية في مواجهة الرجعية العربية وحلفائها في الداخل، حيث بدأ فكر التطبيع مع إسرائيل والحديث عن سلام ثنائي بعيدا عن التسوية الشاملة من منظور حركة التحرر العربي يأخذ مكانه في بعض المنابر بمصر.
هذا هو السياق الثقافي والسياسي العام الذي كانت أخبار الشاعر فؤاد نجم والشيخ إمام تصل فيه إلى الجزائر كما كانت تصل في نفس الوقت أخبار جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وأحمد عبد المعطي حجازي فضلا عن نجيب محفوظ ونجيب محمود وغالي شكري ويوسف إدريس ومعظم هؤلاء زاروا الجزائر واحتكوا بأدبائها ومثقفيها وأعجبوا بالمستوى الذي بلغته الحركة الأدبية الجديدة في الجزائر. ولأني كنت في مطلع الثمانينات في الجزائر العاصمة عضوا في الأمانة الوطنية لاتحاد الكتاب فقد سنحت لي الظروف أن أحضر وأعيش زيارة فؤاد نجم والشيخ إمام، ولا أتذكر الجهة التي استقدمتهم أو دعتهم للجزائر وأغلب الظن أنها كانت وزارة التعليم العالي من خلال شخص مصطفى كاتب الذي كان مسؤول النشاط الثقافي بالوزارة المذكورة، وهذا لكون الشاعر والإعلامي عبد العالي رزاقي الذي كان يعمل مع مصطفى كاتب هو الشخص الذي كان مسؤولا عن تنقلات نجم وإمام، وهذا معروف لدى الجميع في ذلك الوقت بما في ذلك تنقله إلى قسنطينة. وقد وجد الثنائي نجم وإمام كل الترحاب والجو العام المرحب والمضياف الذي أراحهما كثيرا، فقد كان الروائي الطاهر وطار يوميا مع نجم يحضران لمقر اتحاد الكتاب ويقضيان اليوم كله في جو ثقافي وأدبي وفكري وكان مقر الإتحاد وقتذاك يتميز بالحضور المكثف للكُتاب في حركة كبيرة من الصباح إلى المساء فضلا عن الولائم الليلية في الفنادق والمطاعم والصالونات والتي كانت بمثابة موائد أدبية وفكرية في تلك المرحلة. ولا يمكنني أن أنسى يوما دعاني فيه الطاهر وطار وكان برفقة فؤاد نجم لزيارة الفنانة الكبيرة صونيا وشربنا نحن الثلاثة القهوة في بيتها الواقع آنذاك ب "ميسوني" بالجزائر العاصمة قريبا من الإتحاد. ومعروف أن الشاعر نجم والفنانة صونيا قد تزوجا فيما بعد ولكنهما وبعد فترة انفصلا، وأذكر أن الطاهر وطار قال لنجم في بيت صونيا هذا محمد زتيلي يقول عن نفسه أنه أفضل شاعر معاصر في الجزائر، فضحكنا، ولكن الشاعر نجم راح يسألني، هل تقول ذلك حقا؟ قلت له على الفور نعم، فقال، هذا جميل لأنني أقول عن نفسي أنني أفضل شاعر في مصر، فأنا مثلك مغرور، والغرور صفة المبدع، وضحكنا. وفي جلسة بصالون اتحاد الكتاب حضرها عدد كبير من الكتاب والأدباء تحضرني اليوم أسماء بعضهم كالطاهر وطار ورزاقي عبد العالي وأحمد حمدي وبقطاش مرزاق وحرزالله محمد الصالح ومصطفى نطور وأزراج عمر، وفي هذه الجلسة قرأ نجم شعرا وطلب مني أن أقرأ شيئا فقرأت قصيدة "المستشفى" وبمجرد ما انتهيت أسرع أحدهم، لا أريد ذكر اسمه، يعلق مازجا تعليقه بضحكة مفتعلة صفراء وهو يقول، هذه قصيدة في رثاء أمه، ثم ضحك. فأعترض نجم وقال: لا لا هذه قصيدة طالعة من خرم إبرة. وكان الشاعر نجم عاشقا كبيرا للجزائر ممتلئا نشاطا وحيوية وشبابا، يقيم الأمسيات برفقة إمام هنا وهناك للطلبة والجمهور الواسع، وكانت أمسياته تعرف إقبالا كبيرا مثلها مثل تلك التي أقامها نزار قباني ومحمود درويش والبردوني والبياتي ومحمد مهدي الجواهري وأحمد عبد المعطي حجازي وأدونيس ومحمد بنيس وسعدي يوسف وعز الدين المناصرة وآخرون. ولم تقل زيارة نجم تأثيرا عن زيارة هؤلاء الشعراء العرب الذين أعجبوا بالجمهور الجزائري وبحسن الاستماع المبدع له. كما كان يشارك في الندوات والنقاشات الدائرة بإقبال ورغبة إلى الدرجة التي ينتزع فيها الكلمة ولا يطلبها فهو ثائر حتى في سلوكه اليومي.
شاعر الفقراء والفن الجميل وهو مؤسسة فنية وسياسية كاملة
عرفت أحمد فؤاد نجم مع نهايات عام الهزيمة 1967، أي تماما في بدايات انطلاقته الشعرية -الغنائية- المشتركة مع الشيخ إمام عيسى وأغنيات "حاحا النطاحة" و"جيفارا مات". أحمد فؤاد نجم من يومها شاعر القاع الاجتماعي، المسحوق والمغلوب على أمره، وهو لذلك بالذات شاعر لا تقترب منه الإذاعات ووسائل الإعلام الرسمية ولا يقترب منها .منذ تلك الأيام وحتى رحيله قبل أيام قليلة ظل نجم يعيدني بشعره لمحطات سياسية واجتماعية كبرى شهدتها مصر والمنطقة العربية عموما، وإن كانت مسيرته الشعرية تذكرني بمحطتين هامتين، مظاهرات الطلبة المصريين عام 1972، وانتفاضة 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977، ففي المحطتين كان صوته هو التعبير الجمالي الثوري عن حركة المجتمع المصري صعودا من القاع الاجتماعي نحو القمة، وقد استطاع تحقيق ذلك بتألق واضح من خلال عاملين أساسيين لا ينفصل واحدهما عن الآخر، الالتزام العميق بأحلام وطموحات ملايين الفقراء المصريين والعرب، ثم الموهبة الفنية الكبرى، التي مكنته من مواكبة الأحداث الواقعية بلغة شعرية بسيطة ومباشرة ولكنها عالية الجمالية، تصل لأوسع قطاع من القراء ومن المستمعين خصوصا وأن غالبية قصائده قد أطلقها الراحل الشيخ إمام بصوته الغنائي وبألحان حققت هي الأخرى إبداعا عاليا .
أحمد فؤاد نجم مؤسسة فنية وسياسية كاملة، ظل حاضرا بحسه الشعبي البسيط والأصيل يربط حاضر مصر بماضيها ولكن من أجل استشراف مستقبلها كما يراه هو من حدقات الفقراء والمقهورين من أبنائها. عاش حياته كلها في الحارة والشارع، لم يقترب من حاكم أو مسئول، وهكذا وجه نقدا لاذعا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكنه رثاه بقصيدة جميلة يوم رحيله، على أن عداءه الأكبر كان للرئيس الراحل أنور السادات، والذي في عهده دخل أحمد فؤاد نجم السجون والمعتقلات، وكتب من هناك بعضا من أجمل قصائده وأكثرها تعبيرا عن رفض الطغيان والقمع. هو بين شعراء العامية أحد أبرزهم إلى جانب الراحلين فؤاد حداد وصلاح جاهين والشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي. نجم الذي عاش ثورة يناير المصرية كان فرحا بشباب مصر، بل إنه أعلن أنه لم يكتب شعرا لأن الجيل الجديد كما قال جاء لميدان التحرير بعدَته وعتاده كاملين ولم ينس أن يقول للمذيع أنه بات يعتبر نفسه ماضيا، فيما أولئك الشباب هم اليوم
وغدا .
رحل أحمد فؤاد نجم بجسده وبقيت لنا آثاره الشعرية التي لا تموت والتي سنظل نرددها من بعده وترددها معنا أجيال القادمين الذين لم يعيشوا عصره، ولم يتعرفوا عليه لأن ما كتبه نجم من قصائد ينتمي بقوة للإبداع الحقيقي القادر على عبور الأزمان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.