يقول ابن عطاء الله السكندري:”لا يكن طلبك تسبباً إلى العطاء منه، فيقلَّ فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية”. سبق أن أوضحت لك الفرق بين الطلب الذي هو لون من السعي للوصول إلى المطلوب، وبين الدعاء الذي هو عبادة من أجلّ العبادات، وأستزيد هذا الفرق إيضاحاً في شرح هذه الحكمة. عندما تعدّ الدعاء سبباً من الأسباب التي لابدّ منها للوصول إلى مطلوبك، فتقبل إلى الدعاء كما تقبل إلى الأسباب المختلفة التي تمارسها، سعياً إلى غرضك فإن كلماتك التي تتوجه بها إلى الله، تعدّ طلباً ولا تسمى دعاءً. إن الشاب الذي تعلق قلبه بفتاة بقصد الزواج منها، يعلم أنه لابد للوصول إلى هذا الذي يبتغيه من التسبب إليه، أي من اتخاذ الأسباب إليه وأهم هذه الأسباب كلها، أن يتقرب إلى أبيها وأن يتحبب إليه، ثم أن يتلطف في خطبتها إليه..وإنه لمن المعلوم أن هذا الشاب إنما يستخدم التقرب إلى والد الفتاة والتحبب إليه ثم خطبتها منه، سبباً لبلوغ غايته، ومن ثم يسمى عمله هذا طلباً للفتاة من أهلها. كذلك الشأن في هذا الشاب عندما يفاجأ بتأبيّ والدها عليه، ويعجز عن الدخول إلى قلبه والتحبب إليه، فيجد من ينبهه إلى أنه لو انصرف إلى الله بالدعاء أن ييسر زواجه من فتاته هذه، فإنه سينال مطلوبه وينال بغيته منها..إنه من المؤكد أنه سيسرع إلى تنفيذ هذه النصيحة، ويقبل إلى الله بالدعاء أن يزوجه من تلك الفتاة. فما الفرق بين السبب الأول الذي اتجه إليه، وهذا السبب الثاني الذي أقبل إليه بعد أن خاب أمله في السبب الأول؟ إنَّ كلا العملين منه استخدام لسبب يأمل أن يوصله إلى المطلوب، والدافع إليهما في كل الأحوال، منطق التعامل مع الأسباب. فهذا التسبب الذي يسمى طلباً هو أبعد ما يكون عن أن يدخل في معنى الدعاء. إذن الدعاء عبادة مقصودة لذاتها، أو يجب أن تقصد لذاتها، أما الطلب فهو مجرد تسبب إلى غاية.. فهل يجمل بالعبد أن يجعل غايته في الحياة الوصول إلى رغائبه، وأن يجعل دعاءه الذي يتوجه به إلى الله مجرد تسبب به إلى رغائبه؟ ليس في عباد الله المؤمنين بعبوديتهم له وبباهر سلطانه عليهم، من يستسيغ هذا النهج أو يستعذب هذه النظرة أو هذا التصرف. فالدعاء في حياة المسلم يجب أن يكون غاية بذاتها لا مجرد وسيلة إلى شيء. وربما استشكل كثير من الناس هذا الكلام، وذلك نظراً إلى أن الذي يقبل إلى الله بالدعاء، إنما تحدوه إلى ذلك حاجة شعر بأهميتها أو مصيبة أَلمَّت به، وعندئذ لابدّ أن تنشأ بين الدعاء وتلك الحاجة علاقة السبب والمسبب.ولعل الداعي يجد نفسه، شاء أم أبى، أمام هذا الذي يحذرنا ابن عطاء الله منه، ويكشف لنا عن وجه بشاعته. والجواب عن هذا الإشكال من عدة وجوه: 1/ أن الإشكال له وجه سائغ لو كانت حاجة الإنسان إلى الله جزئية، وعارضة شأن الحاجات الطارئة..ولكن الإنسان محتاج إلى الله في كل لحظة..إذ أنه في كل لحظة معرض لفقد ما يتمتع به من النعم والآلاء التي لا حصر لها، وإنما الذي يمده بها ويبتليه بنقائضها عندما يشاء واحد لا ثاني له هو الله. انطلاقاً من هذا الجانب يصبح الدعاء غاية لا وسيلة عارضة وتسبباً طارئاً. 2/ أن المسلم إذا أذعن بعبوديته التامة لله، وتشبع بمعرفة صفات الله وحلاله وباهر سطوته وعظيم قدرته وجليل حكمته وواسع رحمته، طاب له -وقد أذعن بعبوديته له- أن يتذلل في محراب عبوديته لله، معلنا له عن فقره المطلق أمام غناه المطلق، وعن عجزه المطلق أمام قوته التي لاحد لها، وعن سوء حاله أمام واسع رحمته وعفوه، وعن جهله المطبق أمام علمه المحيط بكل شيء وعن حاجته الدائمة إليه في كل شيء مقابل كونه الصمد الذي يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج هو إلى شيء. وإنما يكمل التذلل، وتسري فيه نبضات العبودية، بأن يتوج مشاعره هذه بإعلان الحاجة الدائمة إليه.. فهذا هو الدعاء المستقل كل الاستقلال عن معنى الطلب الذي شرحت وبسطت لك معناه. ومن هنا كان الدعاء هو العبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3/ أن العبد مهما ضايقته الآلام، واشتدت عليه المصائب، واستهوته الرغائب، فإنه يثق بأن ما اختاره الله وقضى له به هو الخير... فهذه الوجوه الثلاثة هي التي تحل الإشكال الذي قد يخطر في البال.. وإني لأعجب لأناس يدركون هذا الذي أقول، ويشعرون به، عندما تكون العلاقة بين اثنين من عباد الله:محب ومحبوب، أو عاشق ومعشوق، إذ يخاطب المحب محبوبه منتشياً بذلّ احتياجه متلذذاً بموقف مسكنته جاعلاً من ذلك هدفه ومبتغاه، قائلاً: لي لذة في ذلتي وخضوعي وأحب بين يديك سفك دموعي. ثم لا يدركون هذا الواقع ذاته عندما لا تكون العلاقة ما بين عبد وعبد مثله، بل تكون ما بين العبد وربه، بين العبد ومولاه وخالقه!.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي