المسارعة إلى النوافل والتكاسل عن الواجبات يقول ابن عطاء الله السكندري: ”من علامات اتباع الهوى، المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات”. في الناس من يتلاقون للحديث عن شؤون الإسلام والمسلمين.. ويسهرون الليالي الطويلة في سبيل ذلك ثم إنَّهم يتفرقون كلٌ إلى مضجعه مستسلماً للرقاد إلى طلوع الشمس، وقد فاتته صلاة الفجر في ميقاتها. وفي الناس من تكون ذمته مشغولة بفوائتٍ من الصلوات المكتوبة، يتكاسل عن قضائها، ويُشغل نفسه بدلاً عن ذلك بنوافل الصلاة كالتراويح وقيام الليل، ونحوها مما يجتمع له الناس اليوم في المساجد، في رمضان وغيره من المناسبات. وفي الناس أيضا من يستهويهم الخروج للدعوة وتعريف الناس بالإسلام، دون أن يبالي الواحد منهم أنه قد أهمل –من جراء ذلك-واجب رعاية أهله ومهمة الإشراف عليهم، وربما واجب الإنفاق عليهم. وفي الناس أيضا من إذا خرج إلى السوق ولقي الناس، في مجال عمله المعيشي وعلاقاته الاجتماعية أو المالية بهم، قابلهم بالبشاشة والبسمة ورقة الجانب ودماثة الخلق، حتى إذا انتهى من عمله وعاد إلى داره، طوى تلك البشاشة والأخلاق اللطيفة الوادعة، وأقبل إلى زوجته وربما أولاده أيضا بوجه متهم وخلق فظ، وكلمات قاسية. يقول ابن عطاء الله:إن علامة اتباع هؤلاء الناس-وأمثالهم كثير-أهواءهم وحظوظهم النفسية، إعراضهم عن الواجبات المنوطة بأعناقهم والمسارعة إلى النوافل التي لا حرج عليهم في تركها.. ولعل من أهم ما تدل عليه هذه الحكمة، أن اتباع الهوى لا يتمثل بالضرورة في ارتكاب المعاصي والتورط في المنهيات.بل كثيراً ما يتمثل ذلك في غطاء من الطاعات والقربات وفضائل الأعمال، وعلامة ذلك ألا يراعي صاحب هذه الطاعات والقربات في أعماله سلّم الأولويات المرسوم في أحكام الشريعة الإسلامية. كأن يضحي بمصالح الدين في سبيل مصالح المال، أو كأن يضحي بالضروريات في سبيل الحاجيات، أو أن يضحي بالحاجيات في سبيل التحسينيات.. وإنما يتم تجنب الوقوع في هذا المحظور بوسيلتين اثنتين:علم وحال. أما العلم فأعني به التبصر بقواعد التعارض والترجيح، والوقوف على ما يسمى بسلَّم الأولويات في تصنيف أحكام الشريعة الإسلامية.. وأما الحال-وإنما يأتي دوره بعد العلم-فأعني به فراغ القلب من التعلق بالأغيار، سواء على وجه المحبة لها أو الخوف منها أو الاهتمام بها. وقد علمت أن السبيل إلى ذلك كثرة الذكر والإكثار من مراقبته وتجنب الوقوع في المحارم وأكل الحرام جهد الاستطاعة. ولا حظ ما عبرت به من كلمة”التعلق”أي فالمطلوب هو تحرر القلب من التعلق بالأغيار، أما التوجه إليها على سبيل الاستخدام لها لقضاء الحاجات والوصول بها إلى الغايات، فذلك لا ضير فيه ولا مندوحة للإنسان منه. فإذا أحرز المسلم ضوابط العلم، وتحقق بهذا الحال، فلن يقع إذن في المغبّة التي يحذر منها ابن عطاء الله، لن يسارع إلى النوافل معرضاً عن الواجبات، ولن يهمل الضروريات سعيا وراء الحاجيات أو التحسينيات، وستُقصيه عن ذلك كوابح العلم بأحكام الشرع، وستجنبه آفةَ الاستجابة لأهوائه نعمةُ الحال التي وصفتها لك إذ يمتعه الله بها. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي