شاهدت الأحد (قبل) الماضي، شأني شأن أكثر من مئة مليون شخص مقيم في الولاياتالمتحدة، المباراة النهائية في دوري كرة القدم الأميركية ”سوبر بول”، وقد تنافس فيها أهم فريقي كرة قدم أميركية في البلاد. ومثلي مثل الكثيرين بينهم، شعرتُ ببعض الذنب بعد أن اتضح أن عدداً كبيراً من هؤلاء المصارعين العمالقة، الذين يضعون خوذات على رؤوسهم ويتلقون أعلى الأجور، إما يعانون، أو سيعانون عما قريب اعتلالاً دماغياً رضحياً مزمناً، وهو خلل دماغي خطير ناتج عن التعرض المتكرر لضربات رأسية مسببة للارتجاج، علماً بأنه لا تمكن معرفة الطبيعة المحددة لمصابهم إلا من بعد وفاتهم. وعلى ما يبدو، تتفاوت أعراض هذا الخلل إلى حد كبير، بدءاً بالخرف الحاد، ومروراً بالإحباط والانتحار، وتترافق مع نوبات غضب مفاجئة، غالباً ما تتحمل تداعياتها الزوجة أو الحبيبة. بنظر الجميع، تحولت كرة القدم الأميركية إلى مثال عن الرياضة الوطنية. فمن جهة، هي من أنواع الرياضة الصاخبة، والوحشية، والباهظة التكلفة، والمسببة للتبجح. ومن جهة أخرى، تُعتبَر إلى حد كبير وليدة رأس المالية المتقدمة التي نشأت في هذه الدولة بالتحديد، كونها رياضة متخصصة جداً، وشديدة التنافسية، وخاضعة لتحليل إحصائي متقدم، وتنطلق وتتوقف أوقات اللعب فيها بانتظام كبير، ما يتيح عرض فواصل إعلانية باهظة التكاليف، وقد ناهز سعر فاصل الثلاثين ثانية خمسة ملايين دولار خلال هذه السنة. أما الأهم، فهو أنه بالنظر إلى تركيبة هذه الرياضة، حيث يدفع مالكون أثرياء المال لرجال بيض البشرة بمعظمهم، كي يدربوا لاعبين سوداً من أصول أفريقية أميركية، نرى أكثر من مجرد تلميح إلى العبودية، التي أحال إليها الرئيس أوباما على أنها الخطيئة الأصلية في البلاد. اليوم، تواجه كرة القدم الأميركية مخاطر قادمة من مصادر متعددة، أبرزها الطريقة غير المُرضية التي اعتمدها روجر غوديل، المفوض أو كبير الإداريين الجبان الذي عينه المالكون، كي يحاول غض النظر عن مسألة ارتجاج الدماغ، عبر انتقائه لجنة أطباء اختصاصيين آخرين، كي يعملوا على إعداد التقارير، ويسعوا بموازاة ذلك لشراء لاعبين مصابين بعروض نقدية لا تشكل جزءاً حتى من نفقاتهم الطبية. وكذلك، نجح غوديل في إدارة مباراة ”سوبر بول” النهائية من دون أي إحالة إلى ارتجاج الدماغ، باستثناء لحظة مضحكة، رأى فيها المشاهدون لاعباً يغادر الملعب للحظة بعد تعرضه لضربة قاسية، ليسأله مدرب إن كان قادراً على عد الإصبعين اللذين رفعهما، قبل أن يرسله إلى الملعب مجدداً، كي يتلقى المزيد من الضربات. ولا شك في أنه أمر ينبذه أهالٍ كثيرون ممن كانوا يشاهدون المباراة بمئات الآلاف، إذ راحوا يدرسون احتمال تحويل أبنائهم إلى نوع رياضة أقل خطورة هو كرة القدم التقليدية، ناهيك عن عدد من لاعبي كرة القدم الأميركية الناشطين، الذين سبق أن أعلنوا تقاعدهم قبل الأوان، خشية مضاعفة حدة إصابتهم التي يعالجونها في الوقت الراهن كارتجاج خفيف في الدماغ لا تمكن معرفة مداه الفعلي إلا عند فتح دماغهم بعد وفاتهم. ثمة موقع فقد فيه غوديل وأتباعه السيطرة الفعلية على المضمون النهائي لمباراة ”سوبر بول”، وهو العرض الذي تخلل استراحة منتصف المباراة، حيث كان الأداء الأخير للفنانة السوداء الشهيرة بيونسيه، التي وطأت المسرح برفقة فرقة راقصات من العرق الأسود، وسرعان ما حولت اعترافها الغنائي وغير الخطير بدور اللاعبين السود في نجاح معظم الفرق، إلى احتفاء بالنفوذ السياسي للعرق الأسود، بمجرد تذكيرها بدور عدد من الشخصيات الذكورية البارزة عبر التاريخ، من مالكولم إكس الذي أردي في ستينات القرن العشرين، إلى ما يسمى بحزب الفهود السود، الذي تأسس منذ خمسين عاماً في أوكلاند، كاليفورنيا، على مسافة مرمى حجر من الملعب الذي نُظِمت فيه مباراة ”سوبر بول” النهائية. وما حصل هو أن رجالاً يعتمرون قبعات، كتلك التي كانت على رؤوس الفهود، ويضعون على أجسامهم أحزمة تبدو وكأنها مدججة بالرصاص، ظهروا أولاً ككتيبة تتحرك على شكل X، ومن ثم كفرقة تنشد أحدث أغنية لبيونسيه، وعنوانها ”كتيبة”، في إحالة مباشرة للتحرك الذي يحمل تسمية ”حياة السود مهمة”، ولتهجّمه المباشر على وحشية رجال الشرطة. لا شك في أن ما سبق أثار حفيظة عدد كبير من الناس، على اختلاف أعراقهم، وهذا ما كان مقصوداً بالتحديد، فأولاً ندد رئيس بلدية نيويورك السابق المحترم رودي جيولياني، بأغنية بيونسيه باعتبارها مشينة، وبالتالي خطط لإطلاق احتجاج بمحاذاة مكاتب الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية في أول يوم تبدأ فيه مبيعات بطاقات جولتها العالمية الجديدة، التي تشتمل على أربعين تاريخاً، في نيسان (أبريل) المقبل. ولا شك في أن آخرين أعربوا عن آرائهم علناً أو عبر ”تويتر”، مطلقين وجهات نظرهم السامة بمعظمها. وتماماً كما هو الوضع بالنسبة إلى دونالد ترامب أو أي عدد من المشاهير الإعلاميين الآخرين، لا يكتفي هذا النوع من الغضب بزيادة مبيعات الصحف، بل يوفر أيضاً كماً هائلاً من التسويق المجاني للمشاهير أنفسهم. ثمة شخص مسكين ضاع وسط هذه الجلبة، هو كام نيوتن، المهاجم الأسود العجيب في فريق ”كارولاينا بانثرز” الذي يستحق اسمه، بعد أن تعمد لاعبو الدفاع الرشيقون في الفريق المنافس، ”دنفر برونكس”، دفعه باستمرار خلال المباراة. مع أنها لم تكن أول مرة يشارك فيها مهاجم أسود في مباراة ”سوبر بول”، كثرت الرهانات عليه وسط الجلبة التي سادت قبل المباراة، إلى حد جعله يظهر خائر القوى بعد انتهاء هذه الأخيرة، ويجيب الصحافيين بكلمة واحدة عن كل سؤال طرحوه، قبل أن يتوارى بكثير من الامتنان إلى غرفة الملابس. ولا شك في أنه سيتعافى في الوقت المناسب. لكن أحداً غيره لن يتمكن من إخبارنا بما سيفعله بالإهانة التي تعرض لها كرجل أسود في اللحظة ذاتها التي حققت امرأة سوداء نصراً مدوياً.