جامعة بجاية، نموذج للنجاح    بحث فرص التعاون بين سونلغاز والوكالة الفرنسية للتنمية    ملابس جاهزة: اجتماع لتقييم السنة الأولى من الاستثمار المحلي في إنتاج العلامات العالمية    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    السيد مراد يشرف على افتتاح فعاليات مهرجان الجزائر للرياضات    قسنطينة: افتتاح الطبعة الخامسة للمهرجان الوطني "سيرتا شو"    الطبعة الرابعة لمهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : انطلاق منافسة الفيلم القصير    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    رئيس الجمهورية يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    السفير بن جامع بمجلس الأمن: مجموعة A3+ تعرب عن "انشغالها" إزاء الوضعية السائدة في سوريا    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    وزير النقل يؤكد على وجود برنامج شامل لعصرنة وتطوير شبكات السكك الحديدية    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    بطولة وطنية لنصف الماراطون    سوناطراك توقع بروتوكول تفاهم مع أبراج    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    الجزائر تحيي اليوم العربي للشمول المالي    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    ش.بلوزداد يتجاوز إ.الجزائر بركلات الترجيح ويرافق م.الجزائر إلى النهائي    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موسم الهجرة إلى القنادسة

إمتلأت نفسي برغبة الذهاب إلى القنادسة، لا أدري لماذا أغرتني من بعيد دون أن أراها من قبل، حتى من خلال الصور أو مقاطع الفيديو. أعرفها من خلال الاسم الذي كلما وقع على مسمعي أحدث في داخلي ريحا أسطوريا خفيفا. هناك دخلت ''الخزانة القندسية الزيانية'' وقلبت صفحات تاريخ المنطقة، رفقة الفنان العربي بسطام، دارت كؤوس الشاي بيننا، وكان سيدي مبارك الطاهري يكشف كتبا من ذهب وأخرى من نور تنتظر التفاتة جادة لحفظها من الزوال.
علمتني الأسفار ألا أبخل نفسي شهوة الاكتشاف، ألا أرضخ لعلامات التعب الذي يسكن ذاتي كلما حملت حقيبتي بعيدا عن العاصمة. نصائح المحيطين بي بتجنب لسعات الشمس ذهبت هباء منثورة. لم أعد أصغي سوى لنداء دفين في داخلي.
إذا أردت أن تعرف مدينة أو قرية فادخلها بأهلها، لا تستسلم للغربة، وكن واحدا منهم، تصرف كما فعل المستشرقون الذين مروا من هنا. مع العربي بسطام الصوت المنفرد في فرقة ''الفردة''، تسلمت مفتاح الدار، أصلا لولا مفتاح سيارته الزرقاء لما تنقلت بهدوء إلى هناك، وقطعنا الطريق السريع الرابط بين مقر الولاية بشار ودائرة القنادسة، في دقائق مكيفة وصامتة. حملت نفسي إليها وأنا أعلم أنني لن أرضي فضولي كاملا، وأني سأمر مرور الكرام على كهف ''قرقاب سطالي'' دون أن أدخله، ولن أتوغل في غار ''دقيوس'' بوادي مسور.
فكرت كثيرا في أصل تسمية البلدة، فوجدت لاحقا أنها تسمية عربية: ''قَندس'' بفتح القاف والدال بمعنى تاب بعد معصية. و''قندس في الأرض'' أي ذهب على وجهه ضاربا فيها. كما كانت تعرف في القديم ب ''العوينة''، وبهذه التسمية ذكرها العلامة الرحالة أبو سالم عبد الله بن محمد العياشي صاحب الرحلة العياشية التي يسميها غيره ب ''ماء الموائد''.
بركات الشيخ بن بوزيان...
كان رفيقي الفنان، بلباسه الأبيض مستعدا ليوصلني إلى أول وجهة وضعتها في خطتي، ضريح الولي الصالح أحمد بن بوزيان. لعلها الأغنية الشهيرة لفرقة ''الفردة'' هي سبب هذا الفضول في الاقتراب أخيرا من صاحب قصيدة حفظناها عن ظهر قلب: ''يا شيخ بن بوزيان في عارك راني، غيثني تتفاجي لمحان، يا ضي عياني...''. مع أنني لست من رواد الأضرحة والزيارات ''التبركية'' إلا أن اللحظة كانت جديرة بمعايشتها كما هي.
عند مدخل المسجد، كان بعض العمال يطلون من جدار المحيط الخارجي بصبغة خضراء وصفراء، لطخت جزء من ثوبي عند الخروج. الكل يشتغل في صمت، هنا العمال لا يتحدثون بأصوات عالية، لا يثرثرون كما زملائهم في مدينتي الصاخبة. في الداخل برودة منعشة تتملك جسدك، شيخان منزويان يكرران الاستغفار سرا، مباشرة عند القبلة أضرحة برداء أخضر تعرّفك بصُلاح المنطقة، وعلى رأسهم الشيخ سيدي أحمد بن أبي زيان وابنه سيدي أحمد البداوي، إلى جانب الشيخ سيدي بومدين ومعه عمه سيدي الحوسين.
ما زال هذا الجامع يستقبل المصلين والباحثين عن البركة، كهذه العروس المستغانمية التي دخلت بالزغاريد، قدماها مخضبة بالحناء، جاءت لتنال بركة ولي القنادسة الصالح، حيث ستتزوج. خرجت من المسجد بعدما تمنيت السعادة للعروس، واعتبرت ذلك بشرة خير، نوع من الترحيب، إشارة من إشارات الحياة، كما يقول الكاتب باولو كويلو: ''إذا تمكنت من قراءة الإشارات، سوف تتعلم كل ما تحتاج إلى معرفته لكي تخطو الخطوة التالية''.
يأسرك السكون في هذه المدينة الصامتة. يخيل لك أن أسوارها العالية شيدت عمدا لتسد كل منافذ الزيف وضجيج الحياة العصرية. أسوار ما تزال قائمة باسلة مقاومة، قرون متتالية، تواجه الزوابع الرملية، ولا تشتكي غرور شمس بشار الحارقة. ولكن يد الإنسان مدمرة ظالمة، فالضريح يقع في قلب قصر القنادسة القديم، أو بالأحرى ركام قصر فقد روحه بعدما خرجت منه الأسر القندسية تبحث عن حياة أكثر راحة ورفاهية. بكل أسف انهارت الأسوار القديمة، سقطت الأسقف، لكن روح بن بوزيان مازالت تقطع الدرب الطويل تطلب الخلوة. القصر اليوم مهمل، بعيدا عن عيون وزارة الثقافة، ومديرية التراث... ما زال العمال يشيدون أسوارا إسمنتية جديدة، ويغتالون السور العتيق.
القصر ليس مجرد بيوت قديمة أوت حيوات سالفة، هو طفولة شخصيات أدبية وفنية، حملت اسم الجزائر عاليا، وما تزال في أحاديثها تحن إلى وقت كان الأطفال يركضون من باب إلى باب يفتحونها على ألعابهم وأحلامهم. القصر هو طفولة مليكة مقدم، التي نادت أكثر من مرة بإنقاذ ما تبقى من رونقه. هو جزء من ذاكرة الروائي محمد بولسهول (ياسمين خضرة). هو الغرفة الضيقة التي أوصدت بابها اليوم للأبد، فيما كانت سابقا مقر عمداء فرقة ''الفردة''، يخبرني العربي عند عتبة المكان: ''هنا تعلمت أصول الغناء على طريقة الفردة، كنا صغارا نحاول الجلوس وسط الكبار نسمع تدريباتهم ونحضر خلوتهم، كان المشاغبين منا يجلسون عن العتبة وفوق أحذية الآخرين، لا يتقدمون خطوة إلى الداخل إلا بعد أن يتأكد الكبار من سلوكهم المقبول''، طقوس وقواعد كانت هنا، سيرة أفراد تراقبها عيون ساهرة على تداول دماثة الأخلاق واستقامة التصرف .
الخزانة القندسية الزيانية
تركنا الخطوات تقودنا حيث شاءت وشاء العربي بسطام، مررنا على بقايا منازل حزينة، لا تعرف بابها من نافذتها، واحتمينا بظل سور عتيق، لا تضاهيه أسوار الترميم الحديثة. وبين الحجرة والحجرة، تتراءى لك قطع من السكة الحديدية، استعملها السكان لتثبيت أساسات الأسوار، بعدما كانت سابقا خط يربط القنادسة بالمغرب فإسبانيا تنقل الفحم لأوروبا الصناعية.
تكافؤ القصر ببساتين خضراء مغرية، تخيب أمل من أساء الظن بالصحراء، فاتهمها بالفراغ. زينت دربنا أشجار زيتون، رمان بزهر جلناري على أهبة الانفجار الجميل، وكرمة تين سخية تعد بطيب الخريف المقبل، وسواقي ماء تروي خضار وأعشاب محلية مثل ''القطف'' التي تزين طبق ''البلبولة'' (الكسكسي بالشعير).
قبل أن نشبع من الاخضرار، وقفنا عند مدخل الخزانة القندسية الزيانية. طرقنا الباب وانتظرنا زمنا، قبل أن يفتح سيدي مبارك الطاهري قلبه ومكانه لانبهارنا. يعد الأستاذ الطاهري، القائم والمشرف على الخزانة القندسية منذ تأسيسها: ''الخزانة حديثة النشأة أسسناها في ,2006 وقبلها كانت المخطوطات مبعثرة هنا وهناك، بعضها ملك لأفراد وأخرى مخبأة في منازل القندسيين، وبفضل عمر رحمه الله، جمعنا كل هذا الكنز''. نظرة أولى على المكان، تكفي لتتيقن أنها مغارة ''علي بابا'' المعرفية للقنادسة، مكان بعيد عن الأنظار، يحفظ ذاكرة القندسيين جميعا، بكل طبقاتهم وأصولهم.
لا يمكن الحديث عن مكتبة الخزانة، بجديدها وقديمها، دون الوقوف عند منجزات المرحوم عمر فزيوي الذي سخر حياته لخدمة الخزانة والمدرسة القرآنية، حيث قام بتلخيص المؤلفات، فهرستها، وضع بطاقة تقنية، وترتيبها والإشراف على سلامتها، فالخزانة تضم حوالي 200 مخطوط نادر، حسب الطاهري.
في قاعة استقبال كبيرة، بها فرش وزرابي ملونة، دعانا سيدي مبارك للجلوس، اتخذ لنفسه ركنا به موقد صغير، إبريق ينتظر التحضير، علبة شاي أخضر، والثانية لسكر أبيض ناصع. يدان محترفتان تصنعان حلاوة قعدة تحزن النفس عن تركها. أخبرنا أن عمر البناية ثلاثة قرون، ما زالت ماثلة للعيان، سليمة صلبة، رغم فيضانات 2008 التي أحدثت شقوقا على العمارة. وقد تمكن القائمون عليها من إنقاذ القوس الكبير لغرفة الاستقبال. شرح الطاهري، المهندس المعماري والمدرس، أن الأقدمين كانوا يشتغلون وفق مخططات تسبق مرحلة التشييد، وكانوا يلجأون إلى رسم الزخارف على اللوح، قطعة قطعة، قبل أن يتم تركيبها وتثبيتها على السقف، ما يعطي في الأخير لوحة بهية جميلة، لم تمح نوائب الدهر رسوماتها. أما الجدران فهي عبارة عن مجموعة أطر تزينها نقوش كتب عليها ''الباقية العافية''، متداخلة ومكررة على طول الإطار.
تركنا الطاهري يرينا كنوزه، فوجدنا مخطوطات عتيقة للزاوية الزيانية، مؤسسها الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن أبي زيان القندوسي، مصحف صغير من حروفه من الذهب الخالص، ومخطوطات حول الفقه المالكي، اللغة العربية، التاريخ والتراجم والسير، متفرقات في طب الأعشاب وعلم الفلك وتحويل المعادن.
39 عنوانا ينتظر التزام الوزيرة
في قاعة المطالعة، ملفات حول تاريخ المعمّرين في بشار، وكذا المستشرقين الذين مروا بها، وأقاموا فترة بين قراها وواحاتها39 . عنوانا حول تاريخ بشار ينتظر نفض الغبار عليه، بإعادة طبعها في إطار برنامج من برامج وزارة الثقافة، حيث يؤكد المشرف على الخزانة، أن الوزيرة خليدة تومي، وعدته بإعادة طبع هذه الأعمال التاريخية والعلمية في الوقت نفسه، في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية .2007 ومن بين العناوين نقرأ: ''قبيلة بني غيل''، ''قصر بربري في الساورة''، ''زاوية كرزاز''، ''كتاب أعيان المرحاربة''، ''أولاد جرير''... وهي عبارة عن تقارير مفصلة ودقيقة أنجزها ضباط فرنسيون، في بداية القرن العشرين. في المكتبة الخزانة، نجد كتاب قديم يعود إلى ,1865 يتحدث عن مقاومة شعبية في القنادسة، وآخر كتبه نابليون الثالث بعنوان Royaume arabe dصAlgérie ''مملكة الجزائر العربية''، أعيد طبعه في الجزائر سنة 1977 لدى ''سناد''.
في قاعة مفتوحة على البهو، حيث لا أبواب توصد على الوافد إلى الخزانة، تغطي مجموعة من الصور الجدران، للوهلة الأولى ترى شخصيات غربية، نساء ورجال بيض في ديكور صحراوي، وبعد التدقيق تكشف كل صورة عن حكاية كل واحد منهم.
القنادسة.. طريق الفحم
لم أكن أعلم أن القنادسة، هي أول مدينة يوهج فيها مصباح منذ اكتشاف الفحم بها من طرف المستعمر الفرنسي، فاستخراج الفحم الحجري أعطى المدينة طابعا اقتصاديا، حيث كانت بداية استخراجه سنة 1918 وبواسطة السكة الحديدية المنجزة هناك عام ,1939 تطور استغلال هذه المادة من قبل شركات مصغرة سميت ب régie de chargement تحوّلت فيما بعد إلى شركات كبيرة سميت لاحقا ب houilléré du sud oranaais. وأصبحت القنادسة تستقبل آلاف العمال الباحثين عن مناصب شغل، جاءوا من إفريقيا وأوروبا أيضا. يظهر بعضهم في صور فوتوغرافية نادرة، علقت على جدار القاعة.
تروي وثائق الخزانة أنه في 1946 بلغ عدد سكان الدائرة 14000 نسمة منهم 1500 معمّر أوروبي من جنسيات مختلفة. كانت المدينة تصدر الفحم بكميات كبيرة نحو أوروبا بواسطة السكة الحديدية مرورا بالمغرب.
مع مطلع الثورة التحريرية، عرف إنتاج الفحم تدهورا كبيرا بسبب هجرة الكثير من العمال. في الفترة الممتدة ما بين 1959 - 1960 حدد استخراج الفحم فقط للمركزية الكهربائية ببشار الجديد، حيث كان أول منطقة على المستوى الإفريقي في استغلال الطاقة الكهربائية. في العام 1975 تقلص عدد العمال من 3000 إلى 300 عامل، بعد إحالة عدد منهم على التقاعد، ليتوقف استخراج الفحم نهائيا عقب ذلك بقليل.
مواسم الحج إلى الساورة
شخصيات كثيرة مرت من هنا: فريدريك غيرهاد رولف (1831 - 1896)، المؤرخة الفرنسية لوسي دولارو مارديس (1874 - 1945) مؤلفة ''العرب: المشرق الذي عرفته''، الكاتب والشاعر محمد ولد الشيخ (1906 - 1938) ابن المنطقة، كتب عنها أشعارا ونصوص نثرية، وصف فيها الأمكنة والناس. المارشال لوي هيبار ليوتي (1934 1854 -)، وكان عقيد مقاطعة عين الصفراء في أكتوبر ,1903 عاش في الجزائر سنتين متتاليتين، أولا في الشلف ثم الجزائر العاصمة، عرف بآرائه المنتقدة للسياسة الكولونيالية الفرنسية، وكان يدعو إلى إرساء ''نظام أكثر تحضرا وإنسانية''. عندما حل بالجنوب الجزائري، انبهر بالحياة هناك، وبآثار المستشرقين خصوصا، لدرجة حوّل داره إلى ما يشبه قصور الألف ليلة وليلة، مبديا احتراما للثقافة المحلية وللدين الإسلامي. أما زيارة ديغول لبشار في 12 مارس ,1957 فالتقطتها عدسة محترفة، فحولتها إلى صورة ناردة ما تزال محفوظة في الخزانة.
ازابيل إيبرهاردت ''سي محمود''
تكتب إلى صديقها أبي نظارة
توفر لك الخزانة فرصة قراءة نص مكتوب بخط يد المستشرقة السويسرية إزابيل إيبرهاردت، بلغة عربية مزيجة بين الفصحى والعامية، تعطي فكرة على العلاقات الأخوية التي ربطتها هذه الصحفية مع سكان المنطقة. بالخط رسالة باللغة العربية، استهلتها بالشهادة والصلاة على الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، تقول له: ''إني ما نسيتكم وفضّلكم عليّ، لكن في الوقت الذي وصلت فيه إلى بلاد واد سوف فما قدرت نطلب حتى جواب. إني سافرت كثيرا في الصحراء، وما بطلت من السفر لهذا الوقت. والسؤال منكم أن تكون بالخير والعافية، وهذا إن شاء الله، ونحن الحمد لله بالخير والصحة، ونريد أن نخبرك أنني ما نريد أن نرجع إلى فرنسا قبل ستة أو سبعة أشهر، بان عجبتني الصحراء واعلم أني إشتريت أحصان باقي وكريت دار عند بعض قايد، وعندي أحباب بين المؤمنين وهم أكثر ناس الوادي وبر السوف وبر الرمال.. ولكن فيها أجنة كثيرا وفيها من الأشجار الأنخال ورمان... واعلم أنه عن قريب إن شاء الله نبعث لك جوابا طويلا ونخبرك فيه على كل شي، والسلام التام عليك وعلى زوجتك وعلى والدتها وأولادك أخي وأختي، والسلام من كاتب الجواب'' . قبل أن توقع رسالتها ب ''محمود عبد الله السعدي'' باللغتين العربية والفرنسية. وقد خلدت ''سي محمود'' هذه الزيارة في كتاب وصفت فيه انبهارها بمدينة وادي سوف، وقد كانت صاحبة اللقب الذي ما زال يحمله المكان ''مدينة الألف قبة وقبة'' .
يؤكد سيدي مبارك المشرف على الخزانة، أن هذه الأخيرة تحتفظ بمخطوطات نادرة لإيزابيل، تركتها حين مرورها ببني عباس، وكان عمرها آنذاك 25 عاما، وهو يشكل ثروة لا مثيل لها، من شأنها الإجابة عن بعض الاستفاهامات التي تحوم حول هذه الشخصية.
جول كمبف.. إسلامه
هو كاتب وناقد فرنسي، عاش في القنادسة في ,1963 اختص في سيرة إزابيل إيبرهاردت، التي تعرّف عليها من خلال كتاباتها، خاصة ''عودة القطيع إلى القنادسة''، نص مبهر سرعان ما أسر المعلم الفرنسي، ودفعه للحفر في شخصية هذه المرأة.
في 12 أفريل ,1965 أعلن جول إسلامه، وأصبح يحمل اسم محمد رشد، في السنة نفسها تزوج من جزائرية، ويعترف أن سبب اعتناقه الإسلام هي إزابيل، وعشقه للجزائرية، منبعه الطيبة الفريدة لأهل المنطقة. وأمام جمع من هؤلاء، نطق محمد رشد بالشهادة، في مصلى ضم عدد غفير من المصلين في عيد الأضحى لذلك اليوم المصادف للعاشر من ذي الحجة.
الراهب شارل دوفوكو
ولد بستراسبورغ الفرنسية في 15 سبتمبر 1858 وتوفي بصحراء الجزائر في الفاتح ديسمبر .1916 هو في الواقع ضابط فرنسي، تحوّل فيما بعد إلى مستكشف وجغرافي، ثم إلى رجل دين كاثوليكي وباحث في اللغة. عاش طفولته يتيما، انخرط شابا في الجيش الفرنسي، لكنه لم يعمّر فيه طويلا، حيث استقال وراح يبحث عن دروب أخرى تسكنه. اكتشف الإيمان واقترب من دوائر دينية، اقتنع إثرها بجدوى الدفاع عن الفقراء وإفشاء السلام. سافر كثيرا من باريس إلى المملكة المغربية، فسوريا ثم إلى فلسطين، حيث أقام وشرع في كتابة أفكاره وآرائه، قبل أن يقرر الاستقرار في بني عباس العام ,1909 وهو راهب وناسك ومبشر أيضا. كان طموحه أن ينشئ في بني عباس تجمعا دينيا جديدا، لكنه لم يفلح في إقناع أحد. تواجده في المنطقة، دفعه إلى دراسة مجتمع التوارف، مكرّسا له 12 عاما من حياته ووقته، كان نتاجه أول قاموس ترفي- فرنسي نشره باسم مستعار. وكان كثير التجول بين مدن الصحراء، لنشر المسيحية، وإليه ينتسب ''إخوة يسوع الصغار''. توفي مقتولا بتمنراست سنة 1916م، بعد أن رفض الانخراط في إعلان أوروبا للحرب سنة ,1914 وفضّل البقاء إلى جانب التوارف على أن يصبح طرفا لمساعدة فرنسا وإسبانيا في الولوج إلى المنطقة.
فرانسين دومنيك شومبولت
عاشقة واحة تبلبالة
فرانسين دومنيك شومبولت (1927 - 2001)، باحثة أنثروبولوجية فرنسية، زارت بشار بداية الألفين، أحبت هدوءها وعشقت بوحها الخفي، كتبت لأجل عيون نخيلها ''واحة من صحراء الشمال الغربي، تبلبالة''، وهو عبارة عن رسالة دكتوراه دولة قدمتها شمبولت على ضوء سنتين من المعايشة اليومية لطبائع الصحراء (1961 1946 -)، تحدثت فيها عن واحة ''تبلبالة'' الممتدة على مساحة 1600 هكتار )1960(، تقع في الخط الرابع بين بني عباس وتندوف، على حواف عرق ''الراوي''، الذي تشكل ليكون مسارا رابطا بين ''الساورة''، ''توات'' و''تافيلالت''، في زمن كانت حركة القوافل في ربيع ازدهارها. يتميز كتاب هذه الباحثة، بالوصف الدقيق والملاحظة الشديدة، فهي تنتقل من مكان إلى آخر، وكأنها ترسم بكلماتها لوحة عن المنطقة آنذاك. عن حياة سكانها، تاريخهم، سكناتهم، لباسهم، حليهم، نشاطات الرجال والنساء، وكيف كانوا يتواصلون بالإشارات والحركات. كما لم تغفل الباحثة تقنيات النشاط الاقتصادي والاجتماعي وحتى الديني، ناهيك عن معارفهم في التداوي بالأعشاب والسحر أيضا. يضم الكتاب في أبواب أخرى تفسير الأحلام في منطقة الساورة وما جاورها، والتأويل بالحيوانات التي كان يستعين بها الأفراد. كما لم تنس الإشارة إلى التغيرات التي أحدثها الواجد الفرنسي على الصحراء، وتأثيرات ذلك على عادات وتقاليد الناس. المثير في شخصية هذه الأنثروبولوجية الفرنسية، أنها تعلمت اللغة العربية ولغة ''بلبالي'' التي كانت لسان حال السكان حينذاك، سمح لها بالتوغل في حميميات المجتمع النسوي، الاقتراب من دواخل النساء دون عناء، لكنها اعترفت بعجزها عن تخطي حدود عالم الرجال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.