تم الاحتفاء بكتاباتي بمدينة أغادير بشكل دافئ يشبه أغاني القطن في التلال البعيدة عن مدن الموت، وبحب أيضا. لماذا يتمنى الجزائريون لبعض كتابهم الفناء العاجل؟ كنت أشعر بذلك في أغلب الأحيان عندما أتابع كثيرا من الجدل الباهت والنقاشات التعيسة التي تتعبك إلى هدأتك في القبر. عليك في هذا البلد أن تختار ما بين أمرين: أن تتخندق أو أن تقاوم كالندى، هادئا ودالا. وكذلك فعل الكثيرون، وأظنها أحسن طريقة لاحترام النفس والكتابة. سأعود إلى الموضوع في يوم ما، وسأكتب عن هذه الأحقاد المدمرة، عن هذه الضغينة المرة التي تجعلك تكفر بالإبداع وأتباعه. هناك صناعة محترفة للإقصاء والتبجح والمرض والاستعلاء والغرور. ثم ماذا؟ كان علي أن أنسى قليلا كل هذه السفاسف التي كذباب المناقع، كذلك ظللت أفعل عندما أكون معي في المدن البعيدة. يجب أن أكتشف أغادير وناسها الطيبين وأحياءها الراقية وفقراءها الميامين الذين من سلالتي وجنسي البشري. من يزور مدينة ما دون أن يعرج على أحيائها الشعبية فكأنما لم ير شيئا، وسيعود بخفي حنين بعد التسكع في الحارات الجديدة التي لا تعكس حياة الناس وحقيقتهم العميقة. الوقت في هذه الأماكن أكثر حمولة، وأكثر دلالة لأن ذاكرته مليئة بالأحداث والحكايات السحرية القادمة من سفر الأزمان التي شحذت بصيرتها وذاتها لتكون كما هي، تلالا من الذكريات التي لا حد لها. أغادير العليا تحيل على المأساة، على شيء ما يعكسه المكان والعلامات التي كالأطياف والأرواح التي لم تغادر المكان. السياح ينظرون إليها بكثير من الاحترام والإجلال لأن ترابها مختلف وله حرمته، مقدس إلى حد كبير. لا يمكن أن تسير هناك دون أن تتذكر ما حصل قبل اثنين وخمسين عاما. كان الزلزال من العنف بحيث جعل عاليها سافلها. لم تبق سوى آثار السقوف متناثرة على السطح، أما المنازل فقد غرقت عن آخرها. عليك أن تضع في رأسك عندما تمشي في أغادير العليا بأنك تمشي فوق الجثث التي طمسها الزلزال في لحظة ما، كما يهال التراب على الموتى، أما هؤلاء فكانوا أحياء ولهم مشاريع قبل أن يباغتهم الموت. استعدت قصيدة أبي العلاء المعري وأنا أمشي على الرفات، أو على تراب يخفي هياكل عظمية لبشر كانوا هنا ينسجون عناقيد الأمل مطمئنين حالمين. كانت هناك أجزاء من السقوف المبعثرة شاهدة، أما الباقي فقد ارتشفته الأرض في غضبة. لا يمكن عدم الإحساس بالرهبة في هذا المكان، رغم أن أضواء المدينة تبدو من علٍ راقصة، وغير مهتمة بالجهة العلوية، حيث عبر الموت مزدحما، وبالجملة. لم يفهم الناس كيف شربت الأرض ناسا مثلهم، وفي عجالة يتعذر وصفها. حدث ذلك قبل أعوام، لكن السكان لم ينسوا، إنهم يعيشون هناك: في الستينيات من ذلك القرن الذي بقي موشوما في شرفات الرؤية. شرح لي الدكتور عبد النبي ذاكر، من جامعة ابن زهر، تفاصيل الزلزال وآثاره، وكيف اغتنت فئة اجتماعية مستغلة ألم الناس وبؤسهم. كانوا ينبشون القبر الكبير كالجرذان ويسطون على الذهب والأموال، كما يحدث في أغلب الثورات التي عرفها العالم، قديمها وحديثها. هناك فئات ليست جديرة بصفة الإنسان إطلاقا، لكنها هي المستفيدة دائما من تعاسة الآخرين وخسارتهم، وهي التي تعيش جيدا وتخطط لمستقبل الإنسانية. جوهر العالم مضحك حقا، لكننا لا ننتبه إلى هذه المحنة اللصيقة بنا، كأن ذلك قدرنا جميعا، هنا وهناك في أرض ملطخة بعار الإنسان وقذارته. مع ذلك، فقد استيقظت أغادير من موتها، بعثت كما الورد في بساتين الله. ربما كان للموت دوره في ولادة مدينة جديدة محفوفة بالموسيقى والضياء المنبعث من ليلها ونهارها الرائعين. مقاهي المرفأ وساحاته التي تتوضأ باكرا لتصلي صلاة الحياة، العمران المنسجم مع نفسه ومع الوقت، التصميم الدقيق لمدينة ذاهبة إلى المستقبل باعتزاز وأنفة. ثم الموسيقى، الموسيقى الصاعدة إلى الأفق من كل المحال والمقاهي ذات السطوح والباحات التي نسجتها ذائقة راقية شكلتها المعرفة الكبيرة بنفسية المدن. لا بد أن للمدن نفسية ما، مثلها مثل قاطنيها. لا يمكن عدم الشعور بالطمأنينة في مدينة من هذا الطراز الاستثنائي، وبتلك الأبهة التي تشبه الربيع عندما يأتي موشحا بالألوان والأسرار، غير آبه بأحد، لا بالغراب ولا بالأحقاد التي تغرق أناشيده في مجاريها. مدينة أغادير هي أم الربيع أو أخته أو جدته أو عمته، وأتصور أنه يأتي إليها بنوع من الحنين والاحترام والتبجيل والتواضع الصوفي. هناك أيضا علاقة قربى بينها وبين الضوء، لا أدري تحديدا أين تكمن العلاقة، لكنها قائمة. الضوء في أغادير له لون خاص وتأثير مختلف. لعلها من المدن القليلة في العالم التي لا يأتي إليها الشتاء في وقته، لا تأتي الغيوم والعواصف، ومع ذلك لا تعاني الجفاف، كما يحصل في المدن الغارقة في المطر وتبحث في الصيف عن قطرة ماء. تلك الخرائب التي لا تستحق الحياة، لا تستحق الموت، لا تستحق حتى أن تنظر إليها باحتقار شديد اللهجة، تلعنها لعنة بطول الزمن وتتمنى لها أن تنخسف بسرعة، أو أن تبتعد عن طريقك لأنك لا تريد رؤية وسخها وناسها المنتفخين كالطبل. لم أفهم جيدا لغة الضوء ولهجته، كان علي أن أقيم طويلا هناك، أن أفكر بكل العلامات الممكنة لأعرف لونه وما يريد أن يقوله لأغادير العلوية، حيث غرق الناس في الظلام قبل سنين. لا بد أن السكان مدينون لهؤلاء ببعض أبهة المدينة ووقارها، فلولا الموتى الذين غدرهم الزلزال لما كانت المدينة بهذا البهاء، من المرفأ إلى الأحياء الراقية إلى السوق الشعبية التي كعنقود فرح. مدينون لجهدهم وللقرارات الحاسمة التي اتخذها آنذاك الملك محمد الخامس رحمه الله. يجب رؤية سينما الأمل التي نجت من الدمار بقدرة قادر، ثم السوق التي تبتسم للزائر بالدارجة وبالعربية وبالأمازيغية، وبلغات أخرى يفهمها الأجانب الذين يشكلون جزءا معتبرا من هذه المدينة السياحية التي ولدت من الرماد وعقدت العزم أن لا تنسى ماضيها عندما تكون في المستقبل. لم تبق في الماضي، لكنها لم تغفل تلافيف الذاكرة، كما تقص ذلك عدة علامات. تعجبني الأسواق الشعبية في سوريا وتونس وتركيا والمغرب، هناك يمكن أن تقرأ جيدا ما لا تعلمه وما لا تعلمه المرافئ والأرصفة الشاسعة والأضواء والفنادق. أما سوق أغادير فلها نكهتها وخطابها وألوانها. سوق أغادير هي مرآة للملكة، أو لجزء منها: الخضر والفواكه المحلية والصناعات التقليدية والتمر والعسل والزيت والحضور القوي لليد العاملة التي تسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي، رغم شح المطر وفصول الجفاف التي تحداها المسؤولون بوسائلهم، وبأفكارهم أيضا، حيث تجسد الأفكار النيرة لا خوف على الرعية، مهما كانت متاعب الطبيعة ونقص المال، أما إذا غابت الأفكار أو بقيت في الرؤوس وعلى الورق فلن يكفي مطر الدنيا ومال العالم لإعالة قط. الأمر كذلك كما قالت السوق المتناغمة ذات الطراز المغربي الأصيل، هناك حيث يمكن رؤية الجهد البشري يتراءى في عدة أشكال بارزة، بالأسود والأبيض وبالألوان، من الحذاء الجلدي إلى الفستان إلى الحناء إلى البرتقال والجزر والأقمشة، إلى النسيج والدباغة... وإلى التراث الشامخ والاستقبال الدافئ الذي يميز هذا الشعب السخي. لم تظهر عبثا فرق بحجم ناس الغيوان والمشاهب وجيل جيلالة... هناك مادة مركبة، وهناك قدرات على استثمارها، في الوقت المناسب، وبالطرق المناسبة، ودون ضجيج. في أغادير ستشعر ببعض الضيق من شدة السعادة. الأساتذة والناس يدعونك إلى بيوتهم كواحد من العائلة. لا يشعرونك بأنك لست من هناك. وعليك أن تبحث عن الحلول لعدم إزعاجهم. أن تكذب أو تتظاهر بعدم وجود الوقت الكافي لزيارتهم. عبثا ستحاول. السكان مضيافون إلى درجة أنك ستحس أنك صاحب البيت وهم الغرباء. كذلك شعرت في الأيام القليلة التي قضيتها هناك. وتلك قراءة قابلة للتطوير في وقت ما. لقد أتعبني الدكتور عبد النبي ذاكر بحضوره اللافت، بنكتته وسخائه وعلمه، مثله مثل الدكتور عبد السلام الفزازي والدكتور عبد الرحيم جيران والروائي عبد العزيز الراشدي والآخرين... لقد كنت نصف ملك تقريبا. ما بين الدار البيضاء وأغادير أفضل أغادير. الدار البيضاء، رغم بهائها وحسن ضيافتها، تبدو لي ضاجة في السنين الأخيرة، مقارنة بمطلع الثمانينيات حينما زرتها لأول مرة. كأنها تسابق الوقت دون أن تدري لماذا. مدينة قلقة من نفسها، كمن أصابه الجرب فراح يهدد أضلاعه. في حين أن أغادير تبدو أكثر اتزانا وحكمة. لقد خلتها مريدا يعيش حالة صوفية بنوع من الوقار السماوي النادر: البحر والشمس والبهاء والذاكرة التي تشتغل دون توقف. سأعود إلى هناك ثانية قبل أن تنمحي بعض العلامات التي دونتها في حقل الرؤية. هناك مدن تشدك إليها وهناك مدن مكشرة تنبذك كما ينبذ الغرباء لأنهم من مساحات أخرى رغما عنهم. أما أغادير فمن الفصيلة الدموية الأولى، ساحرة ومهذبة. يحدث أن تكون هناك مدن قليلة الأدب، بجدرانها وعماراتها وأسواقها وفنونها وكلامها. لكن هذه المدينة هي شيء آخر، علامات أخرى، مشاهد أخرى واستقبال بلون القطن وموسيقاه. ثم إن بيننا تاريخا وملحا. سأزور في أول فرصة التاريخ والملح، ثم أبحث عن زوايا أخرى في هذه المدينة المسالمة التي احتضنتني كأبنائها وأفضل، هي المقيمة في الجنوب، حيث مواويل الدنيا وألقها، مثل مرابط يصنع شيئا ما: يصنع الحياة من الموت الذي زرعه الزلزال، يفعل ذلك بالجهد والعبقرية الخالصة. أغادير، المغرب، ديسمبر 2013.