مع حلول تاريخ 14 جوان 2022 تكون قد حلت الذكرى 18 لرحيل عميد الأغنية التارقية عثمان بالي، الذي كانت له لمسة خاصة على هذا النوع من الفنّ فأخرجه من محليته إلى العالمية. بأقصى الجنوب الجزائري ومن عاصمة الأهقار ومنطقة التوارق، هذه المنطقة الساحرة التي تحتاج للغوص في أعماقها والبحث فيها لكشف أسرارها بداية من تاريخ المرأة الأسطورة الملكة تنهينان إلى خبايا الرجل الأزرق والمعروف عالميا بقامته، إلى الطبوع الفنية التي تشتهر بها هذه المنطقة خاصة الأغنية التارقية أو التيندية التي فرضت نفسها بقوة خلال العشريتين الأخيرتين، حيث حاول مطربوها ونجومها إيصالها للعالمية وهي التي مثلت الجزائر ورفعت رايتها في عدة مهرجانات دولية ومن هؤلاء الفنان الكبير، الشاعر والمطرب والعازف البارع على آلة العود " عثمان بالي " الذي استطاع أن يخرج هذه الأغنية من نفق الأهقار إلى كل بقاع المعمورة، عثمان بالي الذي كان يردد بصوته المستمد من أفق الأهقار الواسع نصوصا كان يكتبها بالترقية أو العرقية استحالت إلى ألحان وتيبة تترجم قوة الصحراء في سكونها. عثمان بالي اسم انبثق من عمق الأهقار بالجنوب الجزائري الكبير اسمه الحقيقي : مبارك عثمان من مواليد ماي 1953 بجانت تاسيلي ولاية إيليزي ينحدر من عائلة فنية، حيث أنّ والدته السيدة خديجة تغني التيندي في الأعراس والحفلات العائلية والمناسبات الوطنية والدينية، والتيندي هو نوع من الموسيقى المحلية التارقية أي موسيقى تشتهر بها مناطق الجنوب الشرقي الجزائري، فبدأ عثمان يتعلق بهذا النوع ويتذوقه شيئا فشيئا خلال أوقات فراغه خاصة وأنه كان يدرس الطب ليمارسها بعد ذلك كتقني سامي في الجراحة مع مطلع السبعينات، وإلى جانب مهنته هذه بدأ يكتشف هذا النوع فأصبح يردده هو الآخر بل أصبح يفكر كيف يخرج هذا الطابع من محليته الضيقة إلى الوطني ليفرضه كنوع من الطبوع الفنية الجزائرية فانخرط في فرقة محلية كعضو ناشط وراقص فيها وأرادها أن تكون فرقته فسماها باسمه أي فرقة " عثمان بالي " سنة 1987 فأصبحت هذه الفرقة تفرض نفسها وبقوة على المستوى المحلي، وتطمح إلى الوطنية فأصبحت تتفنن في عزف موسيقى التيندي، هذه الموسيقى كانت من قبل تعزف من قبل النساء فقط فأصبحت تؤدى من قبل الرجال كذلك وعملت هذه الفرقة كل جهدها على إيصال الأغنية الترقية إلى مستوى راق جدا لتصبح أغنية عالمية، وأصبح " عثمال بالي " سفيرها فأوصلها إلى كل الجمهور الجزائري الذي حفظ أغاني جديدة كانت إلى وقت قريب غير معروفة بل لم يسمع بها مثل : جانت بين جبال، دمعة، أمين .. أمين ... وغيرها من الأغاني بالرغم من جهله لمحتواها ومفهومها غير أنه تألق بموسيقاها. عثمان بالي مغني التيندي أو الأغنية الأمازيغية الجنوبية أو التارقية كلها مصطلحات لأغنية واحدة أو نوع واحد قادم من أقصى الجنوب الشرقي الجزائري فكانت والدته تكتب له الأغاني أو تتلوها عليه وهو يكتبها وقد شكلت أسرته كمجموعة تعمل وراءه وتشجعه وتدير أعماله من جانت، كما أن للفنان عثمان بالي نصوص مشهورة لكن أشهرها على الإطلاق نص : اساروف " المعذرة " وهي من بين 170 أغنية أداها هذا الفنان وأخرجها من المحلية التارقية إلى الجمهور الجزائري بل العالمي، حيث أحيا عدة حفلات في عدة عواصم غربية وشارك في عدة مهرجانات دولية وأعطى للأغنية التارقية صيغة عالمية يسمعها الأوربي، الإفريقي، الأمريكي والآسيوي. كما تعامل مع فنانين عالميين مثل ستيف. بيتر غاربيا وآخرين تعاونوا مع بالي في تقديم فنا أمازيغيا جنوبيا مصحوبا بالجاز والبلوز وكان عثمان بالي قد أدرك ضرورة تحديث الموسيقى التارقية وبدأ يطعم نصوصه وألحانه بشيء من الحداثة، الأمر الذي جعل فنانين كبار يستسيغون الألحان بعمقها التارقي في شكل حديث. عثمان بالي مغني التيندي الجزائري الذي فرض نفسه ووجوده الحقيقي على الجميع من عالمه المرتمي على بقاع التاسيلي جعل منه رجلا مغريا وساحرا بنغماته المنبثقة من عمق الصحراء. وبعد أن أوصل الأغنية التارقية إلى العالمية كانت له أهداف وطموحات كبيرة. كان يسعى إلى تحقيقها ومن بين الأهداف الرئيسية التي كان يسعى إلى تحقيقها هي إنشاء مدرسة مختصة بتعليم موسيقى التيندي تعرف بمدرسة عثمان بالي. وكان ابنه نبيل بالي يسعى بعده إلى تحقيق هذه الأمنية مع جدته التي كانت ترافقه أينما حلّ ضمن فرقته الموسيقية، خاصة وأنّها شاعرة بالفطرة وهي التي زوّدها الخالق بذاكرة موسيقية خارقة. فلا يمكن تصور قعدة من قعدات عثمان بالي من دون رفيقته الدائمة والدته خديجة. للإشارة، فإنّ عثمان بالي يعد من عشاق الشيخ مولاي دعامي جيباوي أحد أبرز العازفين على آلة العود في الجزائر. هذا وبعد مسيرة حافلة لهذا الفنان الذي سطع نجمه في سماء الأغنية الجزائرية الذي أبهر العارفين بالنوع الجديد الذي أوصله إلى العالمية وتألق فنيا به جاء أجله وتوقفت مسيرته الفنية مثلما توقفت حياته، حيث اجتاحت عاصفة رعدية الجنوب الكبير للجزائر وأدت أمطار طوفانية إلى عزل منطقة جانت بولاية ايلزي عن العالم الخارجي أدت إلى خسائر مادية معتبرة فأسرع عثمان بالي رفقة زملائه إلى قلب الحدث لمساعدة ما يمكن مساعدته غير أنّ هذه الفيضانات جرفت عثمان ليلة الجمعة 14 جوان من سنة 2004. وقد عثر عليه يوم السبت على بعد 2 كلم من مدينة جانت بعد أن جرفته فيضانات واد ثينجينات بتاسيلي ناجر الذي يقطع مدينة جانت إلى قسمين ليدفن في اليوم الموالي بمقبرة " دوغوم " بحضور كبير لأهل الصحة والفن ومن مختلف أنحاء الوطن وبذلك تنطفئ شمعة أضاءت فن رمال الطاسيلي عن عمر يناهز 52 سنة وهو الذي كانت حنجرته حلوة كالتمر احترم تقاليد ومثل الرجل الأزرق أحسن تمثيل. حافظ على تقاليد المنطقة وأخرجها إلى العالمية. رحل عثمان بالي وترك فراغا رهيبا في الموسيقى الجزائرية خاصة نوع التيندي وهو الذي وصفه رئيس الجمهورية السابق في رسالة تعزية بعثها إلى عائلته وكل محبيه بالفنان الذي ساهم في التنمية المحلية ورفع راية الأغنية التيندية محليا ووطنيا وحتى دوليا. فعثمان أعطى للموسيقى الترقية الصبغة العالمية وكان سفير الأغنية التيندية عبر عدة عواصم من العالم. وأضاف الرئيس في هذه التعزية أنّ وفاة هذا الفنان مسّت الجزائريين في الأعماق وهي خسارة للفنّ الجزائري. فموسيقاه جدّ حسّاسة وسيبقى في قلب كل الجزائريين.