لم يكن مؤسسو مدرسة الصادقية بالمدنية في العاصمة يعلمون أن البذرة التي غرسوها ذات يوم من عام 1941 ستنمو، لتؤسس مسجدا بعد خمس سنوات من إنشائها فقط، فيحمل راية الانتصار للوطن واللغة العربية، ويشهد حوادث وتواريخ تجعله حقا اسما على مسمى، فهو العتيق في اسمه، العتيق في تاريخه، والعتيق في أصالته... طالب عالم الجزائر وأديبها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من أهل حي "صالامبي" بالعاصمة، بإنشاء مدرسة لتعليم القرآن الكريم واللغة العربية، في إطار النشاط الذي كانت قد بدأته جمعية العلماء المسلمين من خلال تأسيسها لما كان يعرف ب"المدارس الحرة"، إبان الاستعمار الفرنسي في أربعينيات العام الماضي، وحسب الأرشيف الذي استظهره إمام المسجد الحالي الشيخ أحمد الإبراهيمي، فإن " الدفاع عن اللغة العربية في هذه الديار، وتحصين أهلها من مخططات الاستعمار الذي يستهدفه" هو السبب الرئيس لتأسيس هذا المعلم، الذي لا يزال شامخا شموخ الأرض التي أوجد بها. وبالفعل، انطلق ثلة من أبناء الحي في تجسيد الفكرة التي تحققت بعد فترة وجيزة، فكان أول مدير لها الشيخ محمد الطاهر فضلاء، ثم العلامة رابح الهلالي الجزائري، الذي كان أول مدرس بها، وهي المدرسة التي تميزت بتعليم البنات، وهي "بدعة" جديدة في ذاك الوقت، لم تكن لتُستساغ بسهولة. وفي عام 1946 ، حوّل كل من الحاج صادق حساني، والحاج أحمد ياجوري، وصغير بومدين، وطاهر بالماضي، وبوشريب اعمر، وبوقصة علي، وزمام آكلي، ومسعودي عبد الحميد، وقرطبي عبد القادر، وبوقطاية عبد الرحمان، وسليماني اعمر، والحاج رابح بياز، حوّلوا مدرسة الصادقية إلى مسجد "العتيق"، وهي الأسماء التي خلّدت ذكراهم في مدخل هذا المسجد. مسجد العتيق، الذي صار جامعا يلف أبناء الحي، وملتقى لأبناء الحركة الوطنية، في أربعينيات القرن الماضي، ألقى به البشير الإبراهيمي صيف عام 1948 أول خطبة له، ألهبت حناجر المصلين بالتكبير والتهليل، حيث تركزت على الأقصى والقضية الفلسطينية عموما، جمع بعد الصلاة اشتراكات المواطنين لفلسطين. حادثة أخرى عاشها المسجد، بحسب رواية الإمام الحالي، بعد عقد اجتماع مجموعة ال22 التي خططت للثورة، وهي انتقال نصف المجتمعين إلى هذا المسجد لأداء صلاة العشاء فيه، في حين لم نتمكن من تحديد أسمائهم كاملة، لعدم توفرهم على الأرشيف الموجود هناك. وإبان الثورة، ساهم مسجد العتيق، في إذكاء نارها، بتجنيد طلبة مدرسته، وتخزين السلاح، وجمع اشتراكات المواطنين، حيث استشهد مؤذنه عام 1956 ، بعد مداهمة تفتيشية، قامت بها قوات الاحتلال، فقتلته رميا بالرصاص، واُريق دمه أمام محراب الصلاة بعد أن رفض إطلاعهم على مكان تخزين السلاح، ليُتبع بالقتل والتنكيل، كلُّ من رفض "التعاون " مع الاحتلال، كالإخوة مدني الثلاثة، والحاج سرير والحاج زواوي وعمر مرّاد وغيرهم ممن جعل المسجد العتيق خلية العمليات، لانطلاق جحافل الشهداء.. عند الاستقلال، حصل مسجد العتيق على شرف رفع أول راية جزائرية لدولة الجزائر المستقلة، حسب أرشيف المسجد، وتعالت الزغاريد في كل أحياء "المدنية"، ووزّعت الحلوى والورود، في مشهد مازال كبار السن من أهل الحي يتذكرونه، ويروونه، بكل فخر، لأجيالهم المتعاقبة. وتحولت مدرسة الصادقية تحت وصاية وزارة الشؤون الدينية آنذاك تحت ما كان يعرف بالتعليم الأصلي، فقدمت شهادات معترف بها، وذلك لنوعية الأساتذة الذين مرّوا بالمدرسة، كوزيرة التربية الأسبق زهور ونيسي، والشيخ العالم علي مهني وغيرهم، إلى غاية الشيخ الحالي حمو برحيل، الذي حمل المشعل منذ أكثر من 22 سنة. أما المسجد، فقد واصل رسالته، فاستقبل الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي فسر جزءا من القرآن الكريم فيه، وكذا عميد التجويد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذي أبدع في محرابه بآيات الذكر الحكيم، وهو اليوم عازم ،حسب إمامه وأهل حي صالامبي، على مواصلة المسير، والإبداع في نشر الخير، وبالمقابل، يأملون في أن يساهم كل أهل الحي، ممن يملك أرشيفا عن المسجد أو المدرسة، في أن يساعد القائمين عليه في جمع الأرشيف، حتى يبقى مسجدهم خالدا، ويُخلّد معه مؤسسوه. هشام موفق