في رواية كارلوس فوينتس الموسومة ب "كرسي الرئاسة" قال الرجل العجوز تحت القنطرة للسياسي الشاب نيكولاس بالديبا: « من الخطر أن تكون شريفا وصادقا في هذا البلد (يقصد المكسيك). قد تكون الاستقامة جديرة بالإعجاب لكن ينتهي بها الأمر بأن تصبح رذيلة. يجب أن تكون مرنا أمام الفساد، ...، تذكر أن الفساد يزيت النظام». يصدق هذا الوصف أيضا علينا، وربما على كل دول العالم، مع مراعاة الاختلاف الموجود في جودة الزيت المستخدم للحفاظ على الألة المسماة "الدولة" قادرة على العمل، بمعنى آخر، تستخدم الدول المصنفة في أعلى مراتب الشفافية زيتا عالي الجودة، بحيث أن قطرات قليلة منه يمكنها ضمان أداء حكومي جيد لسنوات طويلة، أما الدول الفاسدة، كالتي في ذهنك عزيزي القارئ، فيلزمها عملية "ضخ" مستمرة للزيت، وتظافرا لجهود المجموعة الوطنية كلها،حتى لا يتوقف المحرك، وذلك بسبب النوعية الرديئة للزيت محلي الصنع. هل فهمت الأن لماذا سميت أحداث شتاء 2011 بانتفاضة الزيت والسكر؟ ... نعم بالضبط، فالزيت ضروري لما تقدم وصفه، والسكر ضروري لعملية الاحتراق الداخلي، ليس لمحرك الدولة بالطبع، ولكن لأحشاء المواطنين الذين لم يستطيعوا الظفر بوظيفة في هولدينغ التزييت الوطني. تأملت قول الرجل العجوز، وفهمت أن الشرفاء، ونظيفي اليد، وهؤلاء الذين يزعجوننا باستمرار بأحاديثهم السمجة عن خطورة الفساد وضرورة محاربته، إنما يشكلون خطرا محدقا على البلد ووجوده... إنهم يريدون ضرب الأمة في أحد أكبر ثوابتها، حتى وإن كان الساسة مضطرين لعدم التغني به على الملأ كما يفعلون عادة مع ما يسمونه "ثوابت وطنية". كما فهمت أيضا لماذا تقوم الدول في كل مرة، حتى تضمن بقاء آلتها سليمة وقادرة على الاستمرار، بالتخلص من السذج الذين يعتقدون، بدافع الشرف والاستقامة، أنهم يزرعون الحياة في أوطانهم بمحاربة ما يعتبرونه خطأ "فسادا"، وهم بذلك يعرضون الآلة كلها لتلف مميت. وبت الآن أشفق على أولئك الذين يستغربون، مثلا، من الحكم على مرسي بالإعدام، وعلى مبارك بالبراءة؛ لقد كاد الأول أن يتسبب في كارثة، بينما عمل الثاني بتفان، طيلة ثلاثين سنة، على سلامة قطع الآلة وتروسها ومفاصلها، بواسطة التزييت المنتظم. وحتى لا نبدو مستوردين لأفكار الأخرين كما نتهم كل مرة، أود أن أؤكد أن الشيخ العجوز تحت القنطرة لم يأت بنظرية جديدة... لقد سبقه أسلافنا إلى هذا الفقه بقرون طويلة، وقد ورثنا عنهم الحكمة الشهيرة: «ادهن السير يسير»، والتي خلدها الشيخ المجدوب نظما حتى يسهل حفظها على العامة: ادهن السير يسير و به ترطاب الخرازة النقبة تجيب الطير من باب سوس لتازة إن "الدهن" و"التزييت" قيم مجتمعية أصيلة، والدولة بصفتها منشأة اجتماعية، لا يمكنها السير في فصام عن المجتمع وقيمه. ولذلك حان الوقت كي نعلنها بصراحة: إننا حريصون على استمرار الدولة، وكلنا مجندون لضمان استمرار تزييت قطعها حتى لا تتعرض للعطب، لا قدر الله. وفي حال نفاذ الزيت الذي يحفل به باطن أرضنا، فإن شعارنا حينئذ سيكون: ... "شحومنا فداء الوطن".