كنت أعتقد أن الحضيض هو أقصى درجات الإذلال، ولكن ما شهدته خلال ليلة واحدة بأم عيني في بلدية "عين الترك" لم يخطر على بالي ولو لدقيقة واحدة، ولم أتصور أنني سأدخل الجحيم بإرادتي.. "عين الترك" بلدية صغيرة ساحلية تبعد عن مقر ولاية وهران ب 25 كيلومترا، يقصدها السواح لجمال مناظرها وطبيعة شواطئها وديمومة نشاطها. ما يميز المنطقة نواديها الليلية التي تستقطب معظم شباب المنطقة وما جاورها، ومن أكثر النوادي استقطابا "الجوهرة"، "الصنوبر الذهبي"، "السمك الذهبي"، "مزغنة"، "سان هاوس" و"عدن".. وجهتي إلى "عين الترك" لم تكن مقررة ولم يدفعني أي فضول للقيام بها لولا إلحاح مضيفي''جوزي'' وزوجته "مالكا"، اللذين تعرفت عليهما عن طريق صديق لنا، لم أكن أعلم عنهما شيئا سوى أنه كان عليا لقاؤهما كي أوصل إليهما أمانة من صديقي، رحب الزوج بي بوهران ودعاني الرجل إلى بيته للعشاء، رفضت الدعوة بحجة العمل لكن أصر على قضاء السهرة معا، فوهران مدينة المرح ولا يمكنني مغادرتها دون أن اكتشف ذلك، رغم التعب قبلت الدعوة مرغمة. في المساء وفي حدود الساعة التاسعة وصلا إلى الفندق فأسرعت للخروج إليهما، كانا ينتظران في سيارة فخمة وددت أن أعرف إلى أين الوجهة، لكن لم يتركا لي المجال في السؤال إذ أنهما لم يجتهدا كثيرا في إيجاد مكان اختاراه قبل مجيئهما إلي، وفهمت من خلال حديثهما أنهما يعتبرانه من أفضل الأماكن للاستمتاع، وجهتنا إذن كانت "الكورنيش" لم أجادلهما فطالما وددت معرفة المنطقة، وحسب ظني فالمكان عادي.. مطاعم ومقاهي ..أو هكذا بدا لي. انطلقت بنا السيارة ولم يتوقف "جوزي'' عن الكلام، وظل يحدثني عن ماضيه المؤلم وكيف تمكن من الهروب من قبضة الشرطة الفرنسية، التي طاردته في شوارع "باريس" بعد صدور حكم قضائي في حقه، يقضى بسجنه خمس سنوات نافذة، وهذا بعد أن أبلغت زوجته السابقة عنه، لكنه كما يقول كان شديد الحرص فقد تخطى الحدود الفرنسية وتمكن من الإفلات، هو الآن يعيش حرا طليقا ولم تعد فرنسا تستهويه، ولا حتى ابنته الوحيدة لديه لم يعد يهمه شأنها. من جهتها ''مالكا'' لست أدرى إن كانت تحاول مقاطعتنا لسبب ما، لكنها أبدت انزعاجا مفاجئا وبدأت تتحايل على زوجها وترغمه على الرجوع لم أفهم سبب تهكمها، هل كان ذلك دلع فتاة جميلة تبلغ 22 من العمر؟، ''مالكا'' لم تسلم من متاهات الحياة، فمنذ نعومة أظافرها كان والدها يحثها على الرذيلة من أجل كسب المال، لم تدخل المدارس طبعا لكنها تعلمت كيف تكون أنيقة، كانت ترتدي ملابس مثيرة تظهر مفاتنها، خاصة عندما تضع في عينيها العدستين اللتين زادتها جمالا، ما إن وضعت نظري عليها في المرة الأولى حسبتها ملاكا.. لكن خاب ظني .. تألمت لما كنت أسمع، لم أكن أعرف شيئا عنها لكن زوجها ''المصون'' كشف الأمر، احترت لأمر الرجل واستغربت أكثر لصمت المرأة التي كانت إلى جانبه تبتسم. ما هذا القوم الذي أنا بصدد اكتشافه؟ وبصوت خافت تذكر اسما معروفا حسبت فعلا أنها تحدثه عن القناة، لكنها في حقيقة الأمر كانت تصر عليه للذهاب إلى الفندق الذي سأطلق عليه "جزيرة الأحلام"، وبالفعل كان اسم ''جزيرة الأحلام'' قد أثار في نفسي بعض الارتياح لكن ثوان قليلة واكتشف أن المكان ناد ليلي، في صمت كاد الغيض أن يقتلني لأنني عادة لا أدخل مثل هذه الأماكن لسببين: الأول يكمن في كون الكباريهات لا تليق بمقامي والثاني أن اكتشاف الأشياء لم يعد يثير اهتمامي.. الساعة تقترب الحادية عشر ليلا ولم نصل بعد إلى "جزيرة الأحلام"، وكم بدا لي الطريق طويلا حتى أنني فكرت أننا قد خرجنا من ولاية وهران باتجاه ولاية مجاورة، السماء بدأت تمطر وودت لو أني عدت إلى الفندق لكن لا حيلة لدي، كيف يمكنني إقناع هذا الزوج بأن الأمر قد لا يعجبني في حين أنهما متأكدان بأن ما يفعلانه صحيح، وإن طلبت ذلك سيعتبران طلبي إهانة لهما، تمالكت نفسي وتركتهما يقودانني في ظلم الليل إلى مكان أجهله، بعد شد وجدب بداخلي تذكرت بأنني ببلدي ولن أرغم على شيء لا أريده، وقد يكون الأمر عكس ما أفكر فيه.. ما أدراني..؟ فالمدينة في الصباح بدت لي مضيافة وأكثر انفتاحا من العاصمة، ارتحت لوهران وارتحت لأهلها، الحياة فيها مرحة، محلات جديدة، شوارع نظيفة ووجوه بشوشة تبرز جهود السلطات في تحسين حياة المواطنين، شبابها ينبض حبا للحياة، يقودون سيارات من آخر طراز ويستمعون إلى أغاني آخر الألبومات.. يبدو أن الربيع قد حل قبل أوانه .. وأخيرا وصلت إلى فندق "جزيرة الأحلام" ،المكان مظلم كظلمة الوجوه التي أتت لاستقبالنا، رجال أمن تعرفوا على سيارة ''جوزي'' الفاخرة، وهللوا بقدومه وهو كمن يدرك بأهميته يخرج من جيبه كومة من الأوراق النقدية ويوزعها عليهم، نظرت مليا لما يدور حولي وأدركت أنني بشحمي ولحمي في مكان لم أتصور يوما أن قدمي الضعيفتين قد تطآه، فالعالم الذي أنا بصدد اكتشافه في ساعات كان مرا كالعلقم تلقيته كصدمة كادت أن تقعني أرضا أين أنا؟ ومن كل هذه النسوة اللاتي كن جميعهن بلباس شبه عاري بين السمراء والسمراء الشقراء لا تشبهن حتى ظلهن، هنا يمكن القول وبكل صراحة أنهن قبيحات قبح أفعالهن، وجوههن عابسة ومتعبة لعدم النوم أكيد. نساء من كل الأعمار شابات في عمر الزهور ما دون العشرين، مقنعات بكل أنواع المساحيق يجلسن على منضدات يحدقن في باب المدخل على وعسى أن يقع نظرهن على صيد كبير، وأخريات في الثلاثينيات والأربعينات وحتى الخمسينات أيضا، تجتهدن رغم حماقة تصرفهن إلى جلب الأنظار إليهن، قد بدت أكثر لؤما وأكثر سخطا وأكثر خبثا، تحاولن التودد إلى الرجال ومغازلتهم وفي أيديهن اليمنى كأس خمر وسيجارة باليد اليسرى، هلعت لهول ما أرى.. رجال ونساء، في ليلة واحدة وإن كنت على يقين أن الأمر لا يقتصر على ليلة واحدة بل ليال، يحاولون بمحض إرادتهم الخروج من جلدهم البشري، وتقمص جلد شيطان لا يهمه شيء سوى المتعة، كان ذلك انحطاطا بعينه، فكرت في الهروب ولكنني أدركت أنه من المستحيل الخروج منه، لقد أوقعت نفسي في فخ يصعب التخلص منه إلا بالحيلة، ما كان علي فعله سوى الانعزال في مكان دون إثارة الشكوك، الشيء الوحيد على الأقل الذي تفطن له الجميع كوني غريبة عن المكان من حيث تصرفي المنطوي، ومن حيث ملابسي المحتشمة، لقد كنت كتلميذة بمئزرها الوردي وسط زريبة تملأها الذئاب وبني آوى. كيف وثقت برجل لا أعرفه ولا تربطني به أي صلة .. وفيما كنت أفكر حول ما يدور إذا برجل يرتدي ملابس فاخرة يجرني إلى الطابق العلوي، لقد قرأ في وجهي الاندهاش ولم يترك لي الوقت كي أفهم ما الذي يجرى بين جدران المكان، في الأعلى كان الوضع مختلفا قاعة نظيفة ومجهزة كان بها أوركسترا وكنا نحن أول من يدخلها، بدأت الزبائن بالوصول بين دقيقة وأخرى، القاعة امتلأت عن آخرها، وبدأ ''جوزي'' يقهقه بصوت عال مناديا النادل الذي لم يتأخر في الرد، وبين يديه قارورتين من الخمر وكؤوس وضعها أمامنا، إنه يعرف جيدا عادات "جوزي" وزوجته، شعرت بالإحراج وفكرت حينها في والدي المريض، يا إلهي سترك خجلت من نفسي ولمتها لقبولي دعوة رجل لا تربطني به صلة، وكيف وثقت به ولكي أخفف عني تداركت الوضع وصرحت في وجهه قائلة، إنه علي أن أغتنم فرصة وجودي هنا وأقوم بروبورتاج خفي، نظر ''جوزي'' إلي ملحا إلى عدم ذكر الأسماء وعدم التقاط الصور، وإن أردت فعل ذلك يجب أن أكون أكثر حذر لأنهم يرفضون التشهير خاصة وأنه بين الحضور شخصيات اجتماعية، وإطارات دولة عالية كانت مختبئة في الجانب لا يمكنني التعرف عليها بسبب نقص الإضاءة، الروبورتاج بهذا الشكل بدا هاما وسآخذه بمحل الجد الدور لي، سأتسلل خفية علّني أتعرف على واحد فيهم. وفيما كنت أفكر في طريقة أستخدمها، كان مفعول الويسكي والفودكا باديا على ''جوزي'' و''مالكا''، فهذه الأخيرة راحت تصرخ وتغني وترقص بشكل فضيع فوق الكراسي، بينما يحاول "جوزي" بإقناعي بتذوق الخمر، آه كيف يمكن للمرء أن ينحط بهذا الشكل.. الكل ما عداي في حالة سكر حد الثمالة، لم أرى فيهم سوى الضعف والمسكنة يرقصون، يفرحون ويهللون للمغني الذي بدوره يغتنم فرصة سحب المال منهم بالتبراح، طريقة سهلة للنصب على أشخاص فقدوا القدرة على التفكير، لا يبالون لشيء.. من هنا شاب يقدم له 10 آلاف دينار مقابل أن يشتم كل النساء وآخر يقدم هو أيضا 10 آلاف دينار لنفس الغرض، ثم يليه آخر وآخر وتمتلأ المحفظة، أجل هي محفظة سوداء يجمع فيها الرجل في دقائق ما لا يمكن أن يتقاضه عامل بسيط في شهر، الجميع يرقص دون ملل على أنغام أغاني الراي الصاخبة التي تكاد أن تقتلع جدران الكباريه، المكان يبدو ساقطا متعفنا خمر ومجون.. لم يعد لبقائي معنى، فقررت الرحيل دون تريث ولو كان ذلك يمثل خطرا مباشرا على حياتي، فهو علي أهون من البقاء وسط قوم لا أعتبرهم مني. وأخيرا خرجت بعد أن أُخذت مني بطاقة الذاكرة، لأنني وإن لم أذكره من قبل فقد أخذت صورا ولم يعاتبني عليها أحد، لكن ما إن هممت بالخروج حتى طلب مني رئيس الأمن هاتفي النقال ونزع البطاقة، لم أناقشه الموضوع لأنني خفت صراحة على حياتي، وضعها بجيبه وتوجه نحو البواب آمرا إياه بإيجاد سيارة "كلوندستان" لتقلني حيث أريد، استقلت السيارة بصعوبة كبيرة أحسست بالإرهاق والخوف، ورجوت السائق بالإسراع في الخروج من هناك لأنه بالتأكيد ودون ريب تلك كانت أبواب جهنم مفتوحة على مصراعيها بشاطئ من شواطئ الجزائر..