''لايجوز للمؤسسات أن تقوم بسلوك يخالف الخلق الإسلامي''. محتوى هذه الفقرة في عمومه... ينسجم ما قررته المادة الثانية من الدستور من أن دين الدولة هو الإسلام... وهو يشرح جانبا منها. غير أن الجانب المعتم منها يصنعه غياب نصوص تتكفل بتفسير هذا المحتوى... كأن تبين المقصود بالخلق الإسلامي... ماهو... من أين يبدأ... وأين ينتهي... ماهي المؤسسات المعنية... وكيف تتحدد مسؤوليتها حال مخالفتها هذا السلوك..؟ لذا يبدو مجال المضاربة السياسية والفكرية هنا واسعا... فيأتي من يسحب هذا النص على القيم الإسلامية كلها... ويأتي من يضغطه في حيز ضيق حتى لايكاد يسع شيئا. وقد يبلغ التمييع حده الأقصى... فلا تعود هذه المؤسسات تلتفت إلى ماتعنيه هذه المادة تحديدا... كأنها في حل منها!! ٌٌٌ النص في ذاته أصيل وجميل بكل المقاييس... فمن منا لايرغب في رؤية مجتمع فاضل... طاهر المشاعر... نظيف العقل. ولن يكون ضد هذه المعاني إلا مسلوب الروح... ممن يمتد خارج هويته الحقيقية. الشيطان وحده يسبح في المستنقعات الطافحة بالقذارة... لأنه الكائن الذي يتقن فن الإغواء في البيئات الملوثة. لكن ماذا لو تحول العبث بعقول الناس... عموم الناس... إلى ثقافة... وإلى نوع من القيم التي تحظى بالرعاية؟ في 1990نشرت وكالة الأنباء الجزائرية بيانا بعنوان ''مخاوف المثقفين الجزائريين''... ورد فيه ان بعض هؤلاء يأسفون لأن الحزب الفائز بالانتخابات (... سيبادر إلى حظر الكحول وغلق الحانات!!). كان ذلك عنوان ثقافة اختارت لنفسها الإزراء بالعقل... فغاصت في تخاريف الكؤوس...! وإذا حكمنا أن العبث بعقول الناس سلوك غير سوي... ألا يصبح الترويج للخمور... وترخيص استيرادها وتصديرها... عدوانا صريحا على هذا النص... وعلى الفضيلة قبل ذلك...؟ ٌٌٌ لأول مرة في تاريخ الجزائر... وتحديدا في 2003شرع البرلمان الجزائري قرارا يحظر استيراد الخمر... باعتبار ذلك مما يخالف الشريعة الإسلامية ويضر بالأخلاق... فما فائدة تجارة تضر ولاتنفع... وقد تتيح حصادا وفيرا.. تكسب منه شياطين الإنس المليارات على حساب أخلاق المجتمع. كان تطورا لافتا للنظر... أن يصدر قرار المنع في هذا المستوى ليكسر إحدى حلقات الإرث المسموم الذي خلفته فرنسا في بلادنا. طبعا... القرار لايشير إلى إنتاج وتسويق الخمور في الداخل.. بدليل أنه لم يقترب من المنطقة الممنوعة... حيث يفترض أن يسري الحظر على الإطلاق. كان انتصارا مؤقتا ورمزيا... وصحوة ضمير لنواب قرروا اختبار قدراتهم الذاتية في عبور منطقة محرمة... تكثر فيها الوحوش. في المستوى الرسمي... تبقى ''الغرائبية'' سيدة الموقف.. حيث لا يمكن قراءتها بالوسائل العادية... (فقد وصف وزير الشؤون الدينية آنذاك تصويت البرلمان على القرار بالشعبوية... ودعا إلى احترام طقوس الجالية المسيحية والرعايا الأجانب الذين يستهلكون الخمر ولحم الخنزير في الاحتفال بأعيادهم... فالنبي - ص - والخلفاء من بعده - كما قال الوزير - كانوا لا يمنعون معتنقي الديانات الأخرى الذين يعيشون بين المسلمين من استهلاك المواد المحرامة)!! وزير المالية بدوره (اعتبر المصادقة على هذا المشروع خرقا للالتزامات الدولية)... لكنه قدر أن هذا الإجراء (لاتأثير له في الواقع، لأن الجزائر مستورد صغير للخمور بأنواعها وهي مصنفة ضمن الدول الإسلامية التي لاتعد ذات أولوية في هذا المجال). يبدو أن التمييز بين مايعنيه ''الإسلام دين الدولة''... وماتفرضه الالتزامات الخارجية للدولة لم يتحقق بعد... ففتوى التحليل تقع في نطاق ماتريده الحكومة... بينما تقع فتوى التحريم خارجه. ٌٌٌ بالنسبة إلى اللائكيين... ثمة تكييف جاهز لإصدار الأحكام... فكل دعوة لاحترام الأخلاق الإسلامية... هي ممارسة أيديولوجية متطرفة... واعتداء على حرية الناس... وتدخل في شؤونهم الخاصة...!!! أحيانا يسمون هذا ظلامية... ويمعنون في السب والشتم!! الغرابة في تأويل المواقف... وردت على لسان أحد نواب التجمع الوطني الديمقراطي... الذي اعتبر هذا التصويت بمثابة تأكيد (لحقيقة عدم تراجع الأصولية في بلادنا، رغم تراجع الإرهاب الذي لقي مكافحة من قبل الدولة)... ليضيف (إذا تم التغلب على الإرهاب، فإن الأصولية لاتزال هنا... وهي الخطر المحدق بالجزائر)!! لعلهم لم يتوقعوا هذه الهزة الخفيفة... فتوخوا الحذر من حدوث هزات أقوى. يجب أن نفهم أن الحزب غير المرئي يمارس طقوسه... حيث لاينتبه إليه أحد... من مواصفاته أنه كائن ليلي حتى وإن تحرك نهارا. ٌٌٌ لم يعمر قرار الحظر طويلا... والذين بادروا به اكتشفوا أنهم بصدد مواجهة أشباح تبرز فجأة... فهي تظهر حيث لايتوقع أحد.. تضرب ثم تختفي... لتسجل الجريمة على مجهول يخفي أوراق هويته. وقع التراجع بسرعة... وارتد البرلمان في أقل من سنة عن قراره السابق... وتبين أن الاحتفاظ بالنتيجة الإيجابية ليس أمرا سهلا. هكذا يعالج الصواب بالخطأ... وتعاقب الفضيلة لأنها كذلك. ويبرز السؤال مرة أخرى: من يقف وراء الانتكاسة؟ هل هي اليد الخفية التي عودتنا على اللعب تحت الطاولة؟ أم مصلحة الاقتصاد الوطني؟ استدار البرلمان مائة وثمانين درجة... ونسي من يكون... جمع أوراقه وطار إلى الضفة الأخرى... لعله مارس شيئا من التكفير عن الذنب. بمجرد دخول اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ (منحت إدارة الجمارك أربع عشرة رخصة للمستوردين في ظرف أسبوع.. لاستيراد 500ألف هكتولتر، أي مايعادل 50مليون لتر من الجعة). لا أعتقد أن مسيحيي الجزائر سيشربون كل هذه الكمية.. أو أن الفنادق ذات النجوم الكثيرة هي المعنية بها... أم إن حرب الأخلاق هي التي ستتكفل بتعيين الوجهة الحقيقية لكل هذه الكمية أليست هذه قطعة من الصورة... ويجب أن تضاف اليها