النّاشر لا يبذل جهدا للتعريف بالكتاب ثم يعلق فشله على نكتة أن الجزائريين لا يقرأون لم يبق لنا سوى الفعل الثّقافي كحصن أخير بعد السّقوط المدوّي لقطاعات أخرى قدم الكاتب الصحفي، سعيد خطيبي تجربته الأولى في مجال أدب الرحلات، ودعا إلى ضرورة فتح الباب لحرية الرأي والتعبير مهما كان حاملها ومهما كان فحواها. ويدافع في الحوار الذي جمعه ب"البلاد"؛ عن ضرورة فتح معرض الجزائر الدولي للكتاب وباقي التظاهرات، على جميع المثقفين الجزائريين مهما اختلفت توجهاتهم وأفكارهم. تحدّثت في كتابك الجديد عن مستعمرات الدّولة العثمانية، وتشعبت في بلاد "الصقالبة" وغيرها، أين الجزائر من الكتاب؟ في الحقيقة، كتاب "جنائن الشّرق الملتهبة" ينتمي لأدب الرّحلة، ويسرد تفصيلات رحلة بريّة، قادتني، بالسّيارة، عبر دول البلقان، وجمهوريات يوغسلافيا السّابقة، من سلوفينيا إلى صربيا، مرورًا بكرواتيا والبوسنة والهرسك، وكوسوفو "التي سأعود إليها لاحقا في موضوع منفصل، مع مقدونيا"، ثم أوكرانيا، التي وصلت إليها في عزّ "ثورة الميدان" الأخيرة، بداية 2014، وهي دول يجمع بينها كلّها عامل المشترك، أنها تحتضن العرق السلافي، سلاف الجنوب، في يوغسلافيا سابقا، وسلاف الشّمال، في أوكرانيا وروسيا وما جاورهما. من يقرأ الكتاب سيجد أن الجزائر كانت حاضرة، في كلّ واحد من فصوله. فمن الصّعب أن ينفصل الفرد عن البيئة التي وُلدت وكبر فيها، على الأقل في حالتي. كانت مشاهداتي وملاحظاتي وكتاباتي على كلّ واحدة من المدن والقرى التي زرتها تعيدني إلى الجزائر العاصمة ووهران وقسنطينة وبوسعادة، وجنوب البلاد الفسيح وشماله. ويمكن القول إن "جنائن الشرق الملتهبة، رحلة في بلاد الصّقالبة" هو تقاطعات بين مدن شمالية، وتراكمات حياة جزائرية مرتبكة، كما لا ننسى أن هناك تاريخا مُشتركًا يقارب بين هذين الفضاءين الجغرافيين، هناك نقاط متشابهة في الحياة العادية للنّاس، في عاداتهم وطهيهم وثقافاتهم. وفي مآسيهم أيضا، تاريخهم كان ملطّخا بالدمّ وبالخيبات، تماما مثل تاريخ الجزائر الحديث. صدرت روايتك الأولى عن المؤسسة الوطنية للنشر والاتصال والإشهار، ويصدر اليوم كتابك "جنائن الشرق الملتهبة" ببيروت، هل يمكن ربط ذلك بما يصفه البعض بضعف دور النشر الجزائرية في إعطاء الكتاب حقّه؟ في الحقيقة، كتاب "جنائن الشّرق الملتهبة، رحلة في بلاد الصّقالبة" هو الكتاب الحائز على جائزة ابن بطوطة للرّحلة المعاصرة 2015، والجهة المنظّمة "مركز الأدب الجغرافي – ارتياد الأفاق" هي من تكفّل بنشر الكتاب. والواقع يفرض علينا الإقرار أن النّشر في الجزائر بات أمرا غير محفّز تماما، فأن تجد كاتبا يشقى، ويتعب في الاشتغال على مخطوط، بغض النّظر عن النّوع، ثم يصطدم بناشر لا يهمه سوى تحصيل مساعدات صندوق الدّعم من وزارة الثقافة، فذلك أمر مؤسف فعلا. في الجزائر، النّاشر لا يبذل أدنى مجهود للتعريف بالكتاب والتّرويج له، ثم يعلق فشله على نكتة أن الجزائريين لا يقرأون. كلا، برأيي أن هناك جمهور واسع من القُرّاء، خصوصا في الجزائر العميقة، ولكن الناشرون غير مبالين بالبحث عن القارئ، هم متكفون بتحصيل الشيكات من وزارة الثّقافة، والخاسر في النهاية هو القارئ بالدرجة الأولى، الذي صار يكابد من أجل الوصول إلى الكتب الجيّدة. هل سيكون كتابك حاضرًا في معرض الجزائر الدولي للكتاب، وهل ستكون حاضرًا في واحدة من المحاضرات التي تُقدّم على هامش التظاهرة؟ من المفروض أن يكون الكتاب نفسه متوافرًا في جناح "المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر". بالنسبة للشقّ الثّاني من السّؤال، يجب أن نتّفق أولاً على أن معرض الجزائر الدّولي للكتاب هو ملك لكلّ الكُتّاب والمثقفين والأدباء والقراء، وليس حكرًا على وزارة الثّقافة ومحافظة المعرض، ومن صالحنا جميعًا أن ينجح المعرض، ويقدّم صورة إيجابية عن البلد، في هذه المرحلة التي تكرّرت فيها الفظاعات والخسارات، على أكثر من صعيد. اليوم، لم يبق لنا سوى الفعل الثّقافي كحصن أخير للاحتماء به بعد السّقوط المدوّي لقطاعات أخرى في البلد. شخصيًا، يهمني أن ينجح المعرض، سواء بحضوري أو عدمه، رغم أني لست متفائلا كثيرا بسياسة الوزير الجديد للقطاع، لقد قلت رأيي فيه، عشية تعيينه في منصبه، وواجهت سيلا من الانتقادات ومن الاستهجان ومن الرّسائل المسيئة لشخصي بسبب موقفي منه، الذي جاء عكس التّيار. هو نفسه يعلم أن المثقف، مهما كان، يصلح أن يكون مستشارًا أو ناصحا في تنظيم الأحداث الكبرى مثلا، ورأيه مهمّ جدًا، ولكنه لا يصلح أن يكون وزيرًا، المثقف تغلب عليه الذاتية، وهو أمر طبيعي. في الدّول المحترمة، التي تولي اهتماما فعليا للثقافة، يوجد تخصّص علمي اسمه: الإدارة الثقافية، ومن يمتلك تكوينا عاليا في هذا المجال سيكون مرشحا لتسيير قطاعات ونشاطات متعلّقة بالثقافة. في الجزائر فقط، نجد شاعرًا مسؤولا عن حدث شعري، ومغني الشعبي مسؤولا على تظاهرة في أغنية الشّعبي، وكاتبا يصير، بفعل التّراكم وزيرًا، والوزير ميهوبي يعلم أن رأيي فيه وفي سياسته لن يتغيّر، وأن معرض الكتاب هو ملكنا جميعا، وليس حكرًا على طرف على حساب الآخر، هو مسؤوليتنا ككُتّاب ومثقفين، ونجاحه هو إضافة للمشهد الثقافي المتذبذب في الجزائر، وسيكون حدثا ذو شأن أكبر لو تصالح فعلا مع المبدعين الحقيقيين، وهم كثر، تعرضوا للإقصاء وللتهميش بسبب مواقفهم والتزامهم ودفاعهم المستميت عن استقلالية رأيهم. "الكاتب في سطور" سعيد خطيبي، كاتب وصحافي. درس في الجزائر ثمّ واصل دراساته العليا في باريس. صدر له "بهجة الأعراف"، بيروت، 2011، "كتاب الخطايا"، الجزائر، 2013، و"جنائن الشّرق الملتهبة"، رحلة في بلاد الصّقالبة"، بيروت – أبوظبي، 2013، "أعراس النار"، وحاصل على "جائزة الصّحافة العربية"، 2012، و"جائزة ابن بطوطة للرّحلة المعاصرة"، 2015. ويعد كتاب جنائن الشرق مغامرة جديدة لخطيبي يتوجّه فيها إلى بلاد الصقالبة "السلاف"، فيتنقل بين دول بلقانية، كانت في زمن مضى من مستعمرات الدولة العثمانية في أوروبا، لتشكّل في مرحلة لاحقة جمهورية يوغوسلافيا قبل انفصام عقد تيتو. في خضم رحلته في بلاد الصقالبة وتنقله بين مدن ليوبليانا، غراد، زغرب، ساراييفو، سريبرينيتسا، بلغراد، اشتعلت وهو في أوّج رحلته البلقانية هذه، الثّورة في أوكرانيا، فحطّ في كييف على رغم الأخطار، ليسجّل مباشرة وبلغة طازجة الحدث من مكانه وليشارك الثوار سهراتهم وبردهم وأحلامهم، وفرحهم بنجاح ثورتهم. الفصل المهم في الكتاب هو ما كتبه عن مدينة سريبرينيتسا، التي شهدت مذبحة المسلمين على أيدي الصرب في العام 1995، حيث قبور كثيرة لبشر من مختلف الأعمار؛ قبور أيضا مجهولةٌ هويات أصحابها، يجمع بينها أن القتلى ماتوا في ألم وحزن، وبدون وجه حق".