لا شكَّ أيضًا أن حياة الرسول كانت تطبيقًا عمليًّا لكل حُكم من أحكام الشريعة، فخرَّجت لنا هذه الحياة في شكلٍ بديعٍ، شمل كل المتغيرات التي من الممكن أن تقابل الفرد أو الجماعة، أو الأمة ككل. فالرسول تعامل في حياته مع كل الطوائف التي من المحتمل أن يتعامل معها المسلمون، ومر بكل الظروف التي من الممكن أن تمر بها الأمة الإسلامية؛ فهذه ظروف حرب وهذه ظروف سلم، وهذه أيام غنى، وهذه أيام فقر، وهذه فترات قوة، وهذه فترات ضعف. ولقد شهدت السيرة النبوية إعجازًا إلهيًّا واضحًا جليًّا في تكثيف كل الأحداث التي من الممكن أن تواجه المسلمين في أي زمان وفي أي مكان، وذلك في ثلاث وعشرين سنة فقط؛ حتى يتحقق التوجيه الرباني الحكيم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21]. ولقد تعامل رسول الله مع كل الأمور التي واجهته بطريقة فذة، وبسنة مطهرة أخرجت لنا كنوزًا هائلة من فنون التعامل، ومن آداب العلاقات، وبرز في كل ذرة من ذرات حياته العنصر الأخلاقي، كعنصر مؤثر تمامًا على كل اختيار من اختياراته ، فلا يخلو -حقيقةً- أيُّ قول أو فعل لرسول الله من خُلُقٍ كريم، وأدب رفيع، بلغ إلى هذه الذروة، ووصل -بلا مبالغة- إلى قمة الكمال البشري، وهذا الذي نستطيع أن نفهم منه قوله : «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ». وهكذا فلا يخلو موقفٌ ولا حدثٌ ولا قولٌ، ولا ردُّ فعلٍ من بروزٍ واضح لهذه الأخلاق الحميدة، حتى في المواقف التي يصعب فيها تصور الأخلاق كعاملٍ مؤثرٍ، وذلك كأمور الحرب والسياسة، والتعامل مع الظالمين والفاسقين والمحاربين للمسلمين والمتربصين بهم.