عرقاب يلتقي الأمين العام لمنتدى الطاقة الدولي    واضح يُشدّد على أهمية المؤتمر الإفريقي للمؤسسات الناشئة    هذه تفاصيل ضربة الاحتلال الصهيوني في لبنان    لبنان وفلسطين في عين النار    العلامة الكاملة في كأس الكاف و صِفر في دوري الأبطال    موجة البرد تُنعش تجارة الملابس الشتوية    تنطلق يوم الأحد المقبل عبر كامل التراب الوطني    سكري الأطفال محور ندوة علمية تحسيسية    الوزير الأول يترأس اجتماعا للحكومة    مسيرة الجزائر الجديدة ماضية قدمًا ولن يتمكن أحد من إيقافها    عجال يترأس اجتماعا تقييميا استراتيجيا مع مسؤولي الوزارة    توقيف 8 مهربين متخصصين في الاتجار بالأقراص المهلوسة بالوادي    أمطار مرتقبة بعدة ولايات شمال البلاد    حرفة متأصلة حافظت على خصوصياتها    سعداوي ينصب اللجنة المكلفة بالوقاية من تعاطي المخدرات    ضرورة تكثيف الرقابة التحليلية وتسهيل عمليات الاستيراد    رونالدو يكرّر هدفه    حجز طائرات درون بسطيف    ماندي يؤكد مع ليل ويدعم موقف فلاديمير بيتكوفيتش    لست قلقا على مكانتي مع "الخضر" وسأنتظر فرصتي    دينامو زغرب يطمئن بخصوص إصابة بن ناصر    تنافسية استثنائية تمتلكها الجزائر لإنتاج الهيدروجين المتجدد    سلطة وطنية للتصديق الإلكتروني وبيئة رقمية موثوقة    تمكين متربّصي التكوين من خدمات النقل الجامعي    حماية المعطيات الشخصية من رهانات السيادة الوطنية    حروب الجيل الخامس و السيبرانية تعمل على إفساد الأسرة    ترسانة من القوانين لحماية حرائر الجزائر    انطلاق المهرجان الوطني للمسرح الأمازيغي بباتنة    "جنازة أيوب".. حينما يفجر الميراث العائلة    استعداد للاحتفال بالذكرى ال193 للبيعة الأولى للأمير عبد القادر    عرض مسودة مشروع تعديل القانون الأساسي ديسمبر المقبل    المسجلون في "عدل3" مدعوون للإطلاع على نتائج دراسة الطعون    المؤسسات الاستشفائية تحت مجهر وزارة الصحة    الرادار يرصد 461 مخالفة سرعة    الولاة يُنصّبون الإطارات المحليّة    مئات المدارس الجديدة عبر الوطن    وقوف الجزائر مع فلسطين في صدر الأولويات    وزارة الصحة تطلق حملة وطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال عبر ثلاث دورات    هذه أسلحة بوقرة في كأس العرب    أفريقيا فعلا للأفارقة..؟!    مريبعي: الجزائر تتحمّل العبء الأكبر    هذه أضعف صور الإيمان..    شجرة الأخلاق تسمو بالبشر نحو الصفاء الروحي    لوحات ترقيم موحّدة للسيارات قريبا    "حماس" تنفي إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار    يوم تكويني للمشرفين على تربص طلبة السنة الثالثة    فتاوى : زكاة الذهب الذي ادخرته الأم لزينة ابنتها؟    المؤمن لا يعيش بين لو وليت    {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} …ميثاق الفطرة    البحث مستمر عن مفقودين.. حصيلة فيضانات فيتنام ترتفع إلى 90 قتيلاً    أوكرانيا في مرمى العاصفة الأمريكية    قرعة الحج تصنع أفراح آلاف العائلات    تخصيص 100 ألف يورو مساعدات للاجئين الصحراويين    الرئيس يترحّم على ابن باديس    توقرت تحيي الذكرى ال68 لاستشهاد البطلين محمد عمران بوليفة ولزهاري تونسي    يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار    تحسبا لكأس أفريقيا 2025.. 3 منتخبات إفريقية ترغب في إقامة معسكرها الإعدادي بالجزائر    عمورة ثالث هدافي العالم في تصفيات مونديال 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أجراس المكان.. رائحة «القنادسة»
نشر في الجمهورية يوم 19 - 10 - 2020

كما كل الأشياء البسيطة والعفوية كان اللقاء عشيّة أمس بعد الظهر ممتعا وفاتنا في جلسة على "الضيّق" كما يقال، لكنّها مثمرة في "الخزانة القندوسية"، كانوا ممتعين، حارس الخزانة العتيد الأستاذ "سي مبارك طاهيري"، الأستاذ "بوتخيل بن صافي"، الأستاذ المِعماري عبد العزيز بركاني. زاد في فتنة المجلس قيلولة " القنادسة " الصّاهلة بالرّوح، صهيل الأشياء ليس في دوي الصّوت وإنّما في الصّمت الذي يتكلّم، هكذا بدت لي تلك العشيّة في صحبة الأستاذ المعماري الجميل عبد العزيز بركاني وأنا أصاحبه في سيّارته إلى جمال الأمكنة وأسطوريتها، كانت المسافة تتكلم بشكل غير مفهوم، ما يحيطنا ويسير مع حركة السيّارة،ظهر وكأنّه يكشف أسرارا تتعلق بالمكان الأمتع، "القنادسة" سيّدة الأمكنة.
الأستاذ عبد العزيز معماري باحث ومفكر في مهنته، بل وتقوده في بحثه رومانسية المثقّف وأسئلته الحارقة في وجه السّكون الذي يلفّ حياتنا، ولهذا أدركت أنّ رؤيته جديرة بأن تحاط بالاهتمام، إذ يروم في بحثه اكتشاف اللامحسوس في علاقة المكان/القنادسة بالإنسان. ليس ما هو مادّي دوما الأهم في تشكلات المكان الظّاهرة، هناك صوت ورائحة الأمكنة، تلك المعايير التي توقظ في الفكر والوجدان علاقات جديدة في رؤية المكان.
ليس العيش في المكان هو الذي يفجّر خفاياه، إنّها الحياة فيه، تلك التي تجعل الإنسان في حوار دائم معه، وقرب أدوم في أنسجته وأشكاله المتجدّدة مع كل رؤيا تطلع من خيال ساكنه، تلك أهمّية رؤية المعماري/ الفنّان عبد العزيز بركاني، فهو يرى في القنادسة تلك الرّوح التي تسري في أعماق من مرّوا على ترابها وتركوا شيئا من ذاكرتهم فيها، والأهم من ذلك ما حاولت القنادسة دسّه في وجوههم وعقولهم ووجداناتهم، ولهذا فهو حريص على جمع المرويات الشفوية من أفواه وخيالات من توسّموا الحياة في القنادسة فتبادلت الحياة معهم.
تشعر وأنت تتحسّس "القنادسة" كأنّ شيئا طالعا من غموض رؤيتك في التغيّرات الطارئة على المكان، فتصمت القنادسة/الرّاهن لتتكلم القنادسة الذاكرة، ومن هنا كان التعليق على المكان وخصوصا صعوبة الحديث عنه، لأنّه في مرحلة من المراحل العمرية يتداخل حدّ الالتحام بالذّات، فلا نستطيع تفرقته عنها، لكن في فترات مفاجئة تتجلى انفلاتة سحرية نابعة من كينونة أخرى، تفتح فجوة في منطقة الالتحام فتنسرب القنادسة/الذات كما قطعة من عاطفة وكيان لا يُرى سواها في الأفق وفي الحقيقة الجوهر.
انطلق الأستاذ "سي مبارك" في حديث من عمق الذاكرة استرجع فيها "درب حجاوة" والممر التَّرِبْ حيث كان الشّيوخ يستلقون بعفوية الجسد المستريح إلى حاله وراهنه، فالمكان ملكه، وهذا ما نفتقد اليوم في علاقتنا بالمكان إذ أصبح وظيفيا أكثر منه تعبيرا عن الإنسان. كان الأستاذ رابح يفتح أقواسا في الحديث ليتسرّب عشق القنادسة من عينيه إلى دواخل أرواحنا، بينما راح الأستاذ بوتخيل بصوته الجهوري والنّاطق بسرّ القنادسة يحدّثنا كيف أنّ أحد المشايخ أخبرهم أنّ عقول القنادسة لا تجارى لهذا هو يتكلم بروية وذلك عند اختلافهم حول أصل قصيدة من قصائد المديح التي تتداول في القنادسة منذ أحايين غابرة في التاريخ، أمّا الأستاذ عبد العزيز فكان يحرّك دفّة الحديث في ارتجالاته الممتعة وانخطافاته الصوفية نحو المكان باعتباره "ذاكرة الأشياء" بخلاف "الفضاء" الذي هو عادي ومعتاد، وكان تمييزه هذا جدّ ممتاز في انطلاقة الحديث حول "المكان" باعتباره تحديد عند بعض الاتّجاهات الصّوفية للخلوة، وهو ما حدّده الأستاذ "سي مبارك".
ونحن نتكلم عن سوق القصر القديم، تساءل الأستاذ عبد العزيز إن لم يكن هناك حواري معيّنة للحدّادين والنحّاسين والجبّاسين.. في هذا التّعيين يبدو أنّه لكل قصر خصوصيته، فبعض القصور تنشأ منشأ نفعيا وظيفيا، لكن الحال بالنّسبة لقصر القنادسة فمنشأه روحيا انطلاقا من مسعى سيدي امحمد بن بوزيان الرّوحي. ظهر القصر حول حركة الناس في الواقع الروحي المميّز بالخلوة، ولهذا كان قصر القنادسة فنّيا ذا جمالية خاصّة بالمقارنة مع قصور المنطقة، ولهذا وجب البحث في هذا الجانب العميق.
تشمل رائحة المكان/القنادسة ذلك التّعبير الرّمزي عن استمراره في الحياة محاذيا للذّات وهي تحياه وتعيشه، أمّا رائحة القنادسة التي تتأكّد في أشيائها وتمنح المكان لحظته وهو يذاعب شمّ العابر للقنادسة بحالة أشبه بقرون الاستشعار وهي تتحسّس البعيد من الأصوات، غير أنّ الفرق شاسع بين الأنف وقرن الاستشعار، فالأول ينتبه إلى الرائحة باعتبارها محل سكنى المكان واستمراره، بينما الثاني لا يملك هذه النّباهة والإنتباهة الحضارية. سوق القصر والذي خُصّ بباب "باب السوق"، كانت تشهد لحظاته الصّيفية انتشارا واسعا ل "بَتِّيخ مَصْكِي"، كما يُنطق في المنطقة، "الرّملي" كما يعرف أو "لَمْنون"، كانت رائحته تمزج بين الحلو والحامض، حتى مذاقه لم يكن حلوا خالصا بل كانت حموضة خفيفة تخالطه، وتَحَسُّسِ مضغته والأسنان تلوكها، تمنح الإحساس برهافة المضغة وهي تتلاشى في يسر، تلك هي البقايا النّائمة في عمق الذاكرة والتي تكشف في القنادسة عن ذلك الجانب الرّوحي العميق في تلاشيها في وجدانات زائريها، وهو ما يثبته الزوّار العائدين إليها وإلى زاويتها الزيانية العتيقة، رائحة المكان هي ما ييسّر الهجرة في أبعاد المكان المتواطئة مع أثار المشي الحافي على أتربة القنادسة القادمة من زمهرير الرّوح في ترتيلات وكشوف الزهاد والمتصوّفة.
أذكر في طفولتي أنّ مواضئ المسجد العتيق "سيدي امحمد بن بوزيان"، كان أهمّ ما يميّزها السّطل المكثف بالسخام وهو معلّق فوق الكانون لتسخين الماء للمصلين، أول ما تشعره هو رائحة الفحم، ثم رطوبة المكان من شدّة تصاعد البخار، والضوء المعتم القريب من الأخضر الذي كانت تهيله على المكان تلك العتمة الخفيفة النابع ضوءها من الخيوط المتسرّبة من الباب ونافذة معلّقة في الأعلى، وهو ما جعل الأسمنت الذي يبلّط الأرضية مشتعلا في زرقته وملمسه وملاسته (من الأملس)، وهو ما كان يكثف الحنين في المكان إلى الماء والرّطوبة والخيال الذي لا ندركه سوى في تقدم العمر حين يتجلى المكان بعد أن نتحلّى في تخلّينا بذاكرة تقتنص من الماضي وحداته الأشدّ تعبيرا عن بصمة القنادسة في أجنحة الرّوح الحائمة حول رؤى العابرين إلى كثافة الخطى الروحية في وهج المكان، فأعبر إلى الخزانة وفي أذناي قرقعة السطل وفي شمّي رائحة الفحم، تلك قنادستي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.