جلسوا ينتظرون دورهم لولوج تلك القاعة المسمّاة: «قاعة النسيان». بين النّساء امرأةتُخفي وراء النظَّارة الشمسية،كيسين متورّمين تحت عينيها، تشيان بأرق لا يفارقها. والأرق يكشف النقاب عن مشاكل ووساوس، نتيجة عراكها مع طليقها. وهي هنالتفتحَ صفحة جديدة، وفتاةٌ تحاذيها قد خسرت امتحان شهادة البكالوريا، تريد نسيان لحظةِ صدور النتيجة. لكنّها تخاف الأعراض الجانبية لعملية المحو، ففي نفس اللحظة تقريبا، قد احتفل الأهل بفوز أخيها، وفي نفس اليوم أخذها والداها في جولة إلى مدينة الملاهي لتتسلى وتنسى، وكانت جولة عائلية رائعة...لكنّها رغم كلّ شيء تريد أن تنسى كل الذكريات التي أتلفتها الصدمة وضيّعتها الأحزان. بين الرجال، رجل أعمال فاحش الثراء أحضر ابنه المشوّش، والذي دهس عجوزا بدراجته فسقطت لتكسِر ساقا، تمدّدت على إثرها عاما على فراش المرض،لم تفارقه إلّا لفراش الردى.وأتى القدر بابنها إلى نفس الصالة، أتى هو كذلك ليزور دكتور الذكريات، فهو يريد نسيان رجل الأعمال وابنه، اللّذان كانا سببا في موت أمه، دون أن يسألا عنها أو يُواسِيا أهلها لكنّه حين رآهما، شعر بأنَّ النسيان خيانةٌ في حقِّ أمّه!فخرج يهذي قائلا: « ستنسى وينسى ابنك لكن الله لن ينساك، وستذهب أنت وابنك.. وهذا الدكتور.. للجحيم.» جئتُ لاجئا إلى هذا الدكتور الذي يختلف الناس في مدحه وذمّه، فهو تارةً يلعب دور الأُم تيريزا في تخفيف آلام البؤساء، وتارةً يبدو كدكتور جهنّمي أتىليُنسي الجُناةَ جرائمهم ليفترسوا من جديد. جئته لاجئا كما يلجأ ضحايا الحروب إلى بلدان أخرى هربا من أتون الدمار والتشريد. جئت لاجئا لأنّي أدمنت نشرات الأخبار حتّى تكدّست صور الجثث في عقلي وكدتُ أجنّ.، أريد أن أنسى..عليّ أن أنسى!سآخذ إحدى تلك الحقن الباهضة الثمن، التي تنسي ألف ذكرى وذكرى، يقولون أنها تقتفي أثر الذكرى الحزينة وتمحوها من جذورها.. ثمّ أستقيل من عمل البنوك المتعب، وأشتري قطعة أرض... « توقّفتُ عن التفكير، وأخذتُ وقتا مستقطعا لأقيّد هذه الخواطر.لقد سَرِحَت في عقلي كطيور جامحة، تُنازعُها بعض الذكريات الحالكة، شرعيّتَها في الاستحواذ بعقلي. واستدرتُ لأحد الجالسينوطلبتُ منه ورقةً لأكتب هذه الذكرى التي تبدو كقصّة. لا أريد أن أنسى خطّتي طبعا، وإلّا خرجتُ من هذه الجلسة كقشّة في مهبّ الريح. لقد بدا شابّاً فتيا، تعلو وجهه نظرةٌ مكسورة وصمتٌ يدلّ على انشغاله بذكرى يودّ لو يفتكّها الدكتور منه، يتمنّى لو يفارقها وتفارقه.. لولم تحدُث يوما..لو لم يخرج هو للوجود ليعيشها..لقد انشغل بذكراه لحدّ الجنون...ناولني الورقة دون أن ينبس بكلمة، بل دون أن ينظر إليّ لقد كان محموما يدور عقله في الفراغ، كمضخّة لا تجد ماءً تضخّه، ولم أكن أفضل منه حالا ورحتُ أكتب بعض هذه السطور. «...أستقيل ثمّ أشتري قطعة أرض، أستصلحها وتستصلحني، أغرسُها قمحا وخضرا وتزرعُهي في خلايا ذاكرتي بذور الأمل لتنمو وتتفتّق على أجمل الذكريات...» وها أنا اليوم بعد عامين، أستخرج من صندوقي هذه الورقة لأضيف بعض الكلمات:« لقد لامني الكثيرون على النسيان. ولِمَ يلومون؟! لم تكن تلك الذكريات التي يسمّونها «أخباراً» إلّا هموما أكلت خلايا مخّي كالجراد، وسموما تنفثها نشرات الأنباء كحيّات خبيثة، جعلتني أتخدّر وأقف أمام الواقع المريع الذي أُطالعه أمام عيني كلّ يوم، دون حول منّي ولا قوّة. وكان حالي في تلك الأيام مثالا حيّا للمثل القائل: العين بصيرة واليد قصيرة. أمّا اليوم فالعين لا تُبصر إلّا أخضرَ يانعاً، واليد طويلةٌ تفعل الكثير. تحرثُ وتبذر وتزرع وتغرس وتحصد وتجني وتربح أموالا وتصدِّق بل هي تأوي بعض اللاجئين وتَكسيهم وتشفيهم من غدر الدَّهر، وتَقِيهم عضّة الزمان...هي تفعل الآن ما كانت عنه في الماضي عاجزة...»