صحة : لقاء حول "تعزيز و تطوير الخدمات الطبية و الجراحية بمصالح الاستعجالات"    رئيس الجمهورية يشرف رفقة الوزير الأول السلوفيني على التوقيع على إعلان مشترك بين الجزائر وسلوفينيا    إسبانيا: تفكيك شبكة إجرامية متورطة في تهريب الحشيش من المغرب    "فيلونيون" معرض للفنان معمر غرزيز يعكس جزائر قوية وموحدة    مؤتمر البرلمانيات المسلمات: إبراز جهود الجزائر في حماية المرأة وترقية أدوارها السياسية والاجتماعية    تزايد خطر المجاعة في غزة في ظل الحصار المستمر    فلسطين: الاحتلال الصهيوني يواصل عدوانه على طولكرم لليوم ال 107 على التوالي    رئيس الجمهورية يواصل زيارة دولة إلى جمهورية سلوفينيا    نحو إعلام جزائري مبتكر وريادي … شراكة استراتيجية بين اتحاد الصحفيين الجزائريين و حاضنة التعليم العالي    ترشيح ممثلة النظام المغربي القمعي لجائزة "نيلسون مانديلا"    المقاربة الجزائرية شاملة عكس الروىء الأجنبية المغرضة    حذار.. التوقعات والاحتمالات مقبرة نجاح المقبلين على البكالوريا    وفاة 6 أشخاص وإصابة 165 آخرين بجروح    حجز أكثر من 3200 وحدة من المشروبات الكحولية    السجائر الإلكترونية أكثر ضررا من التبغ    ثقل الجزائر يؤهلها لبعث روح جديدة في حركة عدم الانحياز    الذكاء الاصطناعي أداة حيوية لتحقيق التنمية الثقافية المعمارية    نحضر لوضع خارطة طريق الشبكة الجزائرية للوسيطات    كل الظروف مهيأة لاستقبال الحجاج الجزائريين    ترتيبات ومراكز إجراء الامتحانات الوطنية تحت المجهر    رئيس الجمهورية حريص على السيادة الرقمية لضمان تنمية عادلة    مستقبل واعد للعلاقات الاقتصادية بين الجزائر وسلوفينيا    سكيكدة تحيي الذكرى ال68 لمعركة وادي زقار    664 مليون دينار لتعميم المرجع الوطني للعنونة    مقرّرة إفريقية تؤكد ضرورة إيجاد حل دائم للاجئين الصحراويين    دعوة لمسيرات حاشدة بالمغرب لدعم فلسطين وإسقاط التطبيع    الجزائر استعملت حقّها السيادي ضد أجانب مشبوهين    الموازنة بين مكافحة الإجرام وحماية الحقوق والحريات    تحرير 500 عقد ملكية لسكنات ريفية    مستقبل غامض ينتظر آيت نوري مع ولفرهامبتون    دراجات/ البطولة الافريقية للمضمار: الجزائرية هند بن صالح ضمن طاقم التحكيم    المنتخب المحلي يتعرف على منافسيه في "الشان"    غويري يعد بالتأهل للمونديال والتألق في كأس إفريقيا    الأغواط تفتح قلبها للسماع الصوفي    احتفاء بصويلح ومواكبة الرقمنة    غزّة.. الإبادة تتواصل براً وجواً    أمن المدية يطيح بشبكات إجرامية    حجّاج الجزائر يتوافدون على البقاع المقدسّة    تعزيز التعاون الاقتصادي الجزائري-البريطاني: فرص استثمارية واعدة بالأغواط    وهران تحتضن ندوة وطنية حول اقتصاد الطاقة: دعوات لتسريع الانتقال الطاقوي وتعزيز النجاعة الطاقوية    بعثة الحج الجزائرية تؤكد جاهزيتها الكاملة لاستقبال الحجاج وتوزيع "بطاقة النسك" لتسهيل المناسك    كرة القدم: وفاة الرئيس الأسبق لفريق رائد القبة موساوي جرمان عن عمر 79 عاما    يوم دراسي حول "الذكاء الاصطناعي والتراث المعماري الجزائري"    إدراج نشاط جمع البلاستيك ضمن جهاز المقاول الذاتي في إطار مشروع نموذجي    الإعلان عن مضمون الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي لآفاق 2030    بلمهدي يبرز ضرورة المساهمة أكثر للجامعة في البحث حول القامات العلمية الجزائرية    هذه رسالة الرئيس للحجّاج    كرة القدم/الرابطة الأولى "موبيليس" : و.سطيف يعزز مركزه الرابع و ا.الجزائر يضع حدا لسلسلة النتائج السلبية    تسليم وثائق التوطين البنكي لعدد من مستوردي مادة الموز    كونوا خير سفراء للجزائر في بيت الله الحرام    يوم الذاكرة بتلمسان محطة لمواصلة البناء    للمخرج لطفي بوشوشي.. تقديم العرض الأولي لفيلم "محطة عين الحجر"    هل على المسلم أن يضحي كل عام أم تكفيه مرة واحدة؟    الخضر يقتطعون التأشيرة    يوم تصرخ الحجارة كالنساء    صادي يؤكّد تبنّي نظرة واقعية    أشهر الله الحُرُمٌ مستهل الخير والبركات    أخي المسلم…من صلاة الفجر نبدأ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



“على خط جرينتش” ل شادي لويس.. ما بعد مفترق العالم
نشر في الحياة العربية يوم 10 - 12 - 2019

تنتهي منها، تُغلق الكتاب وتضعه جانباً وتفكّر في ما بناه الكاتب المصري شادي لويس في روايته “على خط جرينتش”، هذه الأيديولوجيا من الشكل واللغة والصيغة التي اختارها وعلاقتها بما يحدث خارج الأدب، في ما نسمّيه الواقع الذي بات يحمل هويةً مزدوجة أيضاً، بصفته قد يكون افتراضياً.
دفع لويس (1978) في عمله الصادر مؤخّراً عن دار “العين” في القاهرة، بعالم مصاب بالخلل السياسي والاجتماعي والعنصري إلى الرواية عبر سلسلة قصص صغيرة تبدو وكأنّ لا رابط حقيقياً بينها، فقدّم من خلالها صورة لهوية عصرنا ومزاجه المتعصب وأدائه البيروقراطي.
كان لكلّ زمن سؤال انهمك به الأدب؛ كالشيوعية والحرب في الأربعينيات والخمسينيات، والثورة الجنسية والقيمية في الستينيات والسبعينيات.. إلخ. ولكن ما أكثر ما يشغل العمل الأدبي اليوم بوصفه انعكاساً لزمنه؟ تأتي رواية لويس لتقترح علينا أن لا شيء من حولنا سوى السقم الإنساني الذي يدفعنا إلى أن نهرب من مكان ما، أو ننتمي إلى شيء يبدو لنا محدَّداً؛ هذا المجتمع أو ذاك، ذلك الدين أو هذه الهوية أو تلك، ذلك اللون أو درجة أقلّ منه.
قلّما تشغل هذه الأمور الناس في حياتهم اليومية العادية إلى أن يشعروا بالتهديد، كأن يكونوا مهاجرين أو لاجئين، مثلما هي شخصيات الرواية التي بين أيدينا، المشغولة بتصنيف بعضها والتنظير لعلاقة العرق بالطبقة وطبيعة العمل وحتى درجة لون البشرة.
في رواية لويس الثانية، (صدرت روايته الأولى “طرق الرب” عن “الكتب خان” قبل عام فقط)، سبع حكايات أساسية، ومشاهد أكثر منها بُنيت على طريقة المشاهد المسرحية؛ حيث شخصيات بأدوار صغيرة لكنها مؤثّرة. هؤلاء هم المحرّكات المرحة للسرد، تلك التي تخفّف بسرياليتها من وطأة قصص ثقيلة معظم مصائر الناس فيها تراجيدية.
هناك قصّة الراوي نفسه، وغيّاث الشاب السوري الميت من الصفحة الأولى، والسيدة “أ” اللاجئة المشرّدة والمضطربة نفسياً، والجدة بديعة الحاضرة بقوّة، سواء كانت ميتة وتزور حفيدها في الأحلام، أو حيّةً بينما تخسر عقلها بالتدريج للزهايمر، وهناك الخال طانيوس الذي يمثّل في الرواية الجيل الأوّل من المهاجرين، ونايل الجندي المصري الذي لم يعد من الحرب في حفر الباطن، وكايودي مدير الرعاية النفسية والمهاجر من نيجيريا، والذي يستبسل في أن يكون جزءاً من المؤسّسة الرسمية الإنكليزية، حالماً في لحظة العودة إلى بلاده ليبني بيتاً ويصبح الرجل الأبيض فيها.
ثمّة أيضاً رجل يقف في مقبرة “رأس الراهبة”، جنوب شرق لندن، يقول إنَّ مئات الغرباء يموتون وحدهم كل عام، ولا يجدون من يمشي في جنازاتهم، في يده باقة من الزهور يناولها للراوي الذي وضع الكاتبُ على كاهله مهمّة ثقيلة وغريبة؛ أن يدفن غياث الذي مات وحيداً على سريره في لندن وليس هناك من يشيّعه.
من هذه المهمّة يبني لويس خريطة مسار الراوي؛ البيت، الوظيفة، المستشفى، الحديقة، مأوى المشرّدين، والمقبرة. وأثناء مهمّاته بين هذه المحطّات (الأماكن الأساسية في الحياة اليومية)، نقرأ وصفاً ل لندن، لفضائها العام والهايد بارك والوايت شابل وسنتمترية البيوت. ولولا أن المقال لا يحتمل، لكان من الممكن الحديث عن صورة المدينة ووجوهها في هذا العمل، ثمّة لندن البيروقراطية، ويظهر أيضاً طيف جميل لمدينة العمّال القديمة، وتأويلات لعمارتها وشكلها، بل إن ثمّة صورة سياسية للندن الثمانينيات نراها بعين الخالة الأمّية التي أحبّت مارغريت تاتشر من أخبارها على الراديو.
لا يقول لويس شيئاً مفصّلاً في هذا الخصوص، ولا يخوض في كل ذلك، لكنه أيضاً يقول الكثير بعبارات صغيرة هنا وهناك وأفكار تسقط من الراوي في تجواله طيلة النص من مكان إلى الثاني، وبحكايات يترك لك أن تقرأ أسباب التئامها.
وصف لندن في “على خط جرينتش” يحيل إلى صورة هذه المدينة كما ظهرت في الكتابات العربية عنها وعن مدن المهجر بالعموم منذ الستّينيات، فبقراءة رواية لويس وروايات أخرى صدرت في السنوات القليلة الماضية، يظهر أن الهوّة أصبحت واسعة بين المهجر بشكله القديم وما نقرأه اليوم، فلندن لويس مثلاً لا تشبه في شيء لندن الطيب صالح.
..شادي لويس
وربما بات من الممكن اليوم التفكير في أن الرواية العربية المعاصرة المكتوبة في هذا السياق خاصة في العقد الأخير، هي رواية ما بعد الهجرة؛ والتي تكاد تشترك في أنها سرد لا يفكر في العودة أو يتجاهلها كموضوع، وتتبلد فيه الشخصيات ويتباطأ بناء الزمن.
يقابل تجوال راوي لويس أو رحلته الإنسانية التي استغرقت ثلاثة أيام، رحلة أخرى أكثر تعقيداً استمرّت عشرة أشهر، خاضها غيّاث قبل أن يموت، فهو الذي حفر نفقين بيديه؛ الأول ليهرب من سجن النظام، والثاني ليهرب من سجن المعارضة، وقطع البلدان وأربع قارات وعشرات الحدود سباحةً ومشياً، وكادت أن تأكله الوحوش مثلما استطاع أن يصادق الحيوانات، ألا تبدو مغامرة غياث أختاً لمغامرات أبطال الأساطير أوليس أو هرقل، الفرق أن دافعها كان الهروب من الهزيمة والموت وليس بحثاً عن المجد.
ربما تقترح الرواية ضمنياً أنه لو كان هناك من تصوُّر أدبي لواقع إنسان اليوم، فإن له وجهين؛ الأوّل يماثل رحلةً معقّدة للإنسان العادي (يجسّده الراوي)، والآخر رحلة أوليس الأسطورية التي تكرّرت حتى فقدت فرادتها (يمثّلها الشاب السوري غياث).
كأن لويس يقول إن الرحلتين تحدثان في وقت واحد اليوم، إنما بنُسَخ تشبه كل شيء فقد حرارته من حولنا، وكل قصة بردت وكانت فوق عادية في زمن آخر، كل شيء عظيم جرى سحقه في عالم يعيش حالة الطوارئ منذ عقدين من الزمن، ومع بشر خسروا شيئاً حميماً من إنسانيتهم.
من العادي أن يُدفن الغرباء في أماكن مجهولة، غير أن هناك طرقاً أخرى لفعل ذلك يكشفها نص لويس، كأن تدفنهم أحياء بالإجراءات، بالسيستم نفسه، تحت سياسات الأمل التي تقوم عليها أنظمة الرعاية الاجتماعية والنفسية والإسكان، وهذه ليس لديها ما تقدّمه لهم تقريباً سوى الأمل الكاذب، وهذا قد ينتهي بهم إمّا إلى اليأس والقبول بالشرط اللاإنساني الذي يعيشون فيه أو بالانتحار.
يقيم المؤلف تسلسلاً سياسياً لأسباب الموت؛ يعيدنا إلى التسعينيات وحرب العراق ويروح ويأتي إلى أن يقع موت غياث، الناس في “على خط جرينتش” تختفي في الصحراء مثلما تختفي في الزهايمر، وقد تتحوّل إلى رماد في حريق أو نقرأ خبر وفاة من نحبّ في فيسبوك، الناس تختفي طيلة الوقت، تتلاشى في شيء ما، والأحياء مخدّرون عاطفياً ونفسياً، وال “إنفيرنو” قد يكون موجوداً في مبنى حكومي تعطّلت فيه التدفئة؛ كل شيء كان غريباً وخطراً في ما مضى أصبح عادياً ومبتذلاً في عصرنا؛ في هذه “الما بعديات” المخيفة؛ ما بعد الحرب، ما بعد الثورة، ما بعد المنفى…


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.