ربما لم تعد الصين مصدرا لقلق الغرب في مجال ترويج مشروعها الأيديولوجي، ولكن توسّع قوتها الاقتصادية في العالم أصبح مصدر قلق من نوع آخر. هذا القلق يتمثل بقدرتها على تنويع قدراتها التصنيعية من جهة وتوسيع وتنويع أسواقها الدولية من جهة ثانية وقدرتها على الإبداع والتطوير التكنولوجي من جهة ثالثة، وكذلك القدرة على الإنتاج بتكاليف أقل كثيرا من الغرب. هذه العوامل ساعدتها على تصدّر السوق العالمية في مجالات عديدة بالاعتماد على الذات في أغلب الأحيان. وربما من أهم نتائج تلك السياسة خفض التفاعل مع أمريكا بشكل خاص، بعد أن شعرت الأخيرة بتهديد وجودي مختلف عما كانت تخشاه خلال الحرب الباردة. هذا في الوقت الذي ما يزال صنّاع القرار في أمريكا يتداولون مسألة افتراضية من نسج الخيال اسمها «عزلة الصّين» وما بين الموقفين بون شاسع. قد يقول البعض إن التاريخ يعيد نفسه، وأن ما يحدث إنما هو امتداد ل «الحرب الباردة». ولكن الأمر ليس كذلك. هذه المرّة لم تدخل الصّين في صراع أيديولوجي مكشوف، بل فضّلت التركيز على تثبيت سياساتها وترسيخ مشروعها التصنيعي لتصبح ثاني أكبر مصدّر للعالم، بدون أن تجد نفسها مضطرة لأن تخضع للضغوط الأمريكية. ولم تكن زيارة الرئيس الأمريكي، نيكسون، لبكين في ذروة الحرب الباردة في العام 1972 ذات أثر على المسار الصيني، بشقيه الأيديولوجي والتكنولوجي، بل ربما كانت أمريكا هي الخاسر الأكبر من تلك الزيارة، فقد فتحت أبواب الغرب على بلد كانت تسعى لعزله، وإبقائه مصداقا لما كان يسمّى الستار الحديدي. ربما يعتقد البعض أن العقيدة الشيوعية التي انطلقت النهضة الصينية في كنفها كانت وراء تلك النهضة، إلا أن سياسة الصين التي بدأت قبل عقد من الزمن بمعارضة الأمركة تحوّلت تدريجيا إلى سياسة للاعتماد على النفس بموازاة سياسة التعددية في التعامل العالمي. وبرغم الدعاية الغربية ضد الصّين حتى بعد زيارة نيكسون، خصوصا في حقبة ما كان الغربيون يطلقون عليها «حقبة العصابة الأربعة» فقد قطعت أشواطا جادّة على طريق التصنيع وكان لذلك انعكاسات في مجالات عديدة. أولها سياسة الاستقلال الاقتصادي عن أمريكا وتوسيع التعاون العالمي. ففتحت الصين في إثر ذلك معابر اقتصادية إلى آسيا وأوروبا وكذلك مع دول «الجنوب العالمي». فمثلا كانت أمريكا تمثل 20 بالمائة من واردات الصين. ولكن تلك النسبة تراجعت في الشهور الأخيرة إلى حوالي 9 بالمائة. بينما توسعت الصادرات الصينية إلى أمريكا حوالي 45 بالمائة. وكانت الصين تستورد 85 بالمائة من احتياجاتها من حبوب الصويا من الولاياتالمتحدة. أما الآن فهي تستورد 68 بالمائة من البرازيل، ومن أمريكا 22 بالمائة فحسب. وهبطت الصادرات التكنولوجية المتطورة إلى 28 بالمائة من صادراتها الكلية. وقفزت الصادرات الصينية إلى الدول المجاورة ضمن التعاون الإقليمي إلى 41 بالمائة. هذا لا يعني أن الصين تسعى لوقف التعامل الاقتصادي مع أمريكا وإنما تحاول خفض المخاطر الناجمة عن التعويل المطلق على خيار دون آخر. أما الجانب الآخر للقضية فيتصل بقدرة الصين على تهميش دور الحصار الأمريكي عليها وتحويله إلى عامل لتحفيز الاقتصاد. فمنذ سبعة أعوام حاولت أمريكا ضرب الاقتصاد الصيني بمنع أكثر من 1700 مؤسسة صينية من الحصول على التكنولوجيا المتطورة. فكان ذلك محفزا لمشروع حكومي لتوفير بدائل محلّية لما تقدمه تلك المؤسسات. فأصبحت الآن تشغل قرابة 5 ملايين محطة تشغيل لنظام 5G، وهو ما يعادل 60 بالمائة من المجموع العالمي. ونجم عن ذلك توسع الإنترنت الصناعي وإنترنت السيارات. كما قطعت الصين شوطا كبيرا في عالم الذكاء الاصطناعي. ولديها الآن أكثر من 60 بالمائة من القدرات العالمية في هذا المجال. بل أنها تخطّت الولاياتالمتحدة في مجال بحوث الحاسبات الكمّيّة التي تنشر على المستوى العالمي. وتنفق الصين 2.5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي على البحوث والتنمية، وهذا يعكس إصرارا على الاستثمار في مجال البحوث وعدم الاقتصار على المجال التجاري. في تطور الصين دروس للعرب بشكل خاص، وهم الذين يملكون المال بلا حدود، ومساحات جغرافية واسعة وإمكانات مالية هائلة وثروة بشرية عملاقة أما البعد الثالث لسياسة التطوير الصيني فيتمثل بالسعي لتقليص الاعتماد على الدولار الأمريكي في معاملاتها التجارية العالمية، وتسعى لتطوير نظام مالي عالمي أكثر مرونة وأقل اعتمادا على إرادة أمريكا وسياستها. وليس جديدا القول أن أمريكا اعتمدت على الدولار لبسط نفوذها العالمي من خلال تحويلات «سويفت» ونظام «آيبان» وما يصاحبها من تشريعات توفر لأمريكا مجالا واسعا للهيمنة على التجارة الدولية. وقد طوّرت نظاما للدفع النقدي المصرفي للتعامل مع 185 دولة. ولديها اتفاقات مع 40 دولة للتعامل بالعملات المحلية. فهي لا تسعى لاستبدال الدولار بشكل كامل ولكنها أنشأت نظاما يحافظ على محورية الدولار في التعامل مدعوما بالعملات الأخرى. إذ لم تكن مساعيها لاستحداث عملة بديلة للدولار ضمن منظمة «بريكس» ناجحة حتى الآن. البعد الرابع للسياسة الصينية يتمثل بمحاولة توفير بديل عملي للنموذج الاقتصادي الأمريكي كطريق للتنمية. فبدأت بطرح نماذج إدارية وعلمية وفي مجال التعامل الدولي. وبرغم الضغوط الغربية لتسويق «النظام الديمقراطي» والدفع به في مجالات التفاوض الدولي كنهج ثابت، إلا أن السياسة الصينية التي رفضت ذلك تميزت بوضوح. وقامت سياساتها في دول العالم الثالث على أساس الدعم الإنساني لانتشال أكثر من 100 مليون شخص من حالة الفقر الشديد في تناغم مع الأهداف التنموية التي وضعتها الأممالمتحدة. هذا في الوقت الذي ما يزال فيه 15 بالمائة من السكان الأمريكيين غير قادرين على توفير تأمين لضمان دخلهم وصحتهم، الأمر الذي أدّى لغلق الحكومة أكثر من مرّة. وتروّج الصين نموذجها الذي يمازج بين ضمان حياة المواطنين واحتياجاتهم والتزاماتهم. كما تروّج مقولات العمل الجماعي (مالتيلاتيراليزيم) للتعاطي مع القضايا والأزمات الدولية وتعارض تشكيل المجموعات التجارية والأمنية الخاصة. وتركز الصين على دورها في نظام «بريكس» الذي توسعت عضويته من 5 إلى 15 دولة، وكذلك منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم دولا تمثل 40 بالمائة من سكان العالم. العامل الآخر للتميّز الصيني السعي لإعادة تشكيل نظام التعليم العالي لديها لتقليص الاعتماد على الجامعات الأمريكية وتشجيع القدرات التي تنمو محليا. وتعتمد الجامعات الغربية خصوصا في أمريكا وبريطانيا على الطلاب الصينيين الذين يدفعون أجورا عالية بأعداد كبيرة. وعانت الصين في السنوات السابقة من ظاهرة بقاء طلابها في أمريكا وبريطانيا بعد إنهاء دراستهم، وتحاول الصين عكس تلك الظاهرة بتقوية مشروعها التعليمي. وفي العام الماضي هبط عدد الطلاب الصينيين في أمريكا من 400 ألف إلى نصف ذلك العدد. وقد سجل 180 ألف طالب في الجامعات الصينية على مدى خمس سنوات في مجالات مثل علوم الذرّة والموصّلات.هذه الرحلة الصينية الطويلة لها أبعاد عديدة: أولها أنها في الوهلة الأولى تمثل قفزة صينية هائلة في مجالات التصنيع التكنولوجي، ليس هناك ما يوازيها في بقية بلدان العالم. ثانيها: أنها تعتبر شهادة لفشل المنظومة الأمريكية التي ربطت مساهماتها التكنولوجية لتطوير العالم بشروط تعجيزية واعتبرتها جانبا من مشروعها الثقافي العالمي. والواضح أن المارد الصيني تمرّد على تلك المنظومة واستطاع صياغة مشروع تكنولوجي آخر لا يقلّ تطورا إن لم يتفوق على المشروع الأمريكي. الثالث: أن في هذا التطور دروسا للعرب بشكل خاص، وهم الذين يملكون المال بلا حدود، ومساحات جغرافية واسعة وإمكانات مالية هائلة وثروة بشرية عملاقة. فكيف لا يقرأون التجربة الصينية بحماس عن قرب، بعيون فاحصة ورغبة أكيدة في تطوير الذات؟ رابعا: أن الصينيين أظهروا عدم رغبتهم في التوسع الجغرافي أو السياسي، وأنهم مستعدون للتعاون مع من يريد التعاون معهم ضمن أطر الاحترام المتبادل والتعاون المشترك. أليست هذه فرصة للعرب للاستفادة من هذه الفرصة من أجل تحسين فرص وجودهم السياسي والأمني بلحاظ ما يمثله الاحتلال الإسرائيلي من تحدٍّ وجودي لا ينكره أحد؟ خامسا: أن تجميد الصين تاريخها الشيوعي يجعل العرب في موقع المستفيد من إقامة علاقات ذات معنى مع الصين، وإعادة إحياء تلك العلاقات التي نمت في ذروة الحرب الباردة. هذه القراءة لنهضة الصّين تكشف أن أبواب العلم مفتوحة، وأن ولوجها متاح للجميع، وأنّ الحصار الخارجي لا يعوّقها، بشرط وجود الإرادة والرغبة في الارتقاء الحضاري. كما أن التأخر عن اللحاق بركب العلم لا يُلغي القدرة على التقدّم. كما تكشف قصة الصّين تجارب أخرى مماثلة، في مقدمتها تاريخ أمّة المسلمين التي نهضت بالعلم فحقّقت الكثير لأبنائها وشاركت في دفع المسار الإنساني على طريق العلم والرقيّ. القدس العربي