يتّفق الجميع في الجزائر من خارج السّلطة وحتّى داخلها على أنّ الوضع الذي تمرّ به البلاد غير مريح ويستدعي تغييرا وإصلاحا عاجلا يستبق ما قد يعصف بمؤسّساتها من أحداث في عالم مُعولم ومتقلّب يؤثّر بشكل مباشر أو غير مباشر على الجزائر، وفي ظلّ وضع داخلي هشّ يشهد مزيدا من المناكفات والاحتراب السّياسي على كلّ الأصعدة بين عديد الأقطاب والعصب داخل النّظام السّياسي القائم ذاته، أو بينه وبين المعارضة بكلّ أشكالها وعلى اختلاف كياناتها، ومع انحراف الخطاب السّياسي عن الأخلاقيات والتّقاليد الموروثة في كلّ عمل سياسي ولدى رجال الدّولة في العالم وتحوّله إلى خطاب إقصائي فوضوي وشعبوي بعيد عن الواقع، ذي نزعة جهوية مناطقية في حالات عديدة، وذي انتهازية مقيتة بغطاء إيديولوجي يبحث أصحابها عن المصالح الضيّقة ويسعون لتكريس حكم الفرد الواحد القيّم على أمر الجماعة أو اقتسام أموال الرّيع مع باقي الأقطاب القويّة، ومن هنا وجب تحديد المقصود بالتّغيير وضبط آلياته ودراسة أرضية تطبيقه ووسائل التّنفيذ، وأوانه واحتمالات النّجاح والفشل مع طرح البدائل المناسبة لإيجاد الأنموذج اللاّئق لتصحيح مسار الدّولة التي تتّجه شيئا فشيئا نحو الهاوية. ماذا نغيّر؟وكيف نغيّر؟
يزعم المدافعون عن النّظام الحاكم أنّ البديل الحتمي الذي يمكن أن يحلّ محلّه هو الفوضى لا محالة؛ كما أنّ وجود منظومة حكم قويّة في نظر هؤلاء تشكّل تهديدا لوجودهم ومصالحهم لا لسبب إلاّ لأنّهم تورّطوا في أعمال أدّت لإضعاف الدّولة وتقزيم أهمّ المؤسّسات التي تُسهم في بنائها كالبرلمان والعدالة والإعلام والأحزاب و منظّمات المجتمع المدني، وتحريف البرامج التّربوية والتّعليمية من أجل مواكبتها مع توجّهات القائمين على المسؤولية، حيث تشكّلت من خلال ذلك بيئة مجتمعية شاملة تحافظ بالكاد على بعض مميّزات المجتمع الجزائري في ظلّ تشتيت الجهود في صراعات وثنائيات متضادّة من قبيل معرّب/فرونكوفوني،عربي/أمازيغي،علماني/إسلامي،…حتّى تمّ إغراق المجتمع بكلّ أطيافه في صراعات وهمية جانبية لا طائل من ورائها سوى إبقاء النّخب بعيدة عن النّقاش الحقيقي الجادّ والفعّال والهادف لتحقيق الوثبة المطلوبة وهو ما تمّ تحقيقه بنسبة كبيرة بعد أن انغلقت القوى الحيّة في المجتمع على نفسها وتركت المجال مفتوحا أمام قوى المال ولوبيات السّلطة وكبار قادة الجيش لتسيطر على الوسائل والآليات المؤثّرة في الوعي بشكل مباشر وموجّه وممنهج. في ظلّ هذه البيئة المتفتّتة يصبح من الضّروري معرفة ما الذي يجب تغييره داخل هذا النّسق السّياسي عموما، هل المطلوب هو تغيير النّظام الحاكم وشخوصه أم تغيير الممارسات والذّهنيات أم تغيير أساليب التّغيير نفسها؟
سنكون بسطاء جدّا لو اعتقدنا أنّ تغيير النّظام القائم هو المطلوب وبعده ستصبح الأمور على ما يرام، وسنكون سذّجا إذا اعتبرنا التّغيير عملية ارتجالية يمكن أن تُصنع بين عشيّة وضحاها، فالوضع الرّاهن لا يحتمل المغامرة ولا الارتجال بحكم الذّهنية التي تميّز القائمين على السّلطة من جهة، واستنادا إلى ضعف الخطاب المعارض من جهة ثانية، حيث تركّز الأصوات المطالبة بالتّغيير على جزئية واحدة وهي عزل رؤوس النّظام من خلال الانتخاب والمضيّ نحو انتقال ديمقراطي وفق تصوّر أقلّ ما يقال عنه إنّه سطحي وخطاب دوغمائي موغل في إبراز عيوب النّظام والتّشهير بها، وكأنّ الطّبقات الشّعبية لا تدرك هذه الحقيقة البادية للعيان أصلا، فنحن إذ نقوم بهذه الممارسة الدّوغمائية نحاول أن نطحن الطّحين وهو مطحون أصلا، ونعيد إنتاج الخطاب نفسه الذي يتبنّاه الطّرف المراد تغييره في ثوب جديد بعيدا عن التعمّق في الفكرة والنّبش في تفاصيلها وأبعادها المختلفة. إنّ نظاما قديما كالنّظام الذي يحكمنا اليوم يحتاج من أجل تغييره إلى القيام بجهد كبير على ثلاثة مستويات تعتبر أساس التّغيير وحاضنته: أوّلها فكري، وثانيها اجتماعي، والثالث سياسي، يكون السّعي لتحقيق الطّفرة المرجوّة في كلّ مستوى مواكبا بالدّرجة ذاتها لمسار النّشاط في المستويين الآخرين، ومن هنا يصبح القيام بثورة فكرية ضرورة ملحّة شرط أن تقوم على القطيعة مع الأفكار والممارسات البالية والشّعارات المشروخة من خلال تكرار البديهي والمتعارف عليه في ثقافتنا المحلّية كشعار"الإسلام هو الحلّ" و "الدّولة المدنية الدّيمقراطية"، إذ إنّ هذه الشّعارات لا تعبّر في الواقع إلاّ عن إفلاس منظومة فكرية بأكملها انطلاقا من كون من يرفعون هذه الشّعارات عجزوا عن صياغة البديل الأنسب وفق برامج سياسية واقتصادية ومجتمعية، تتلاءم مع مكوّنات المجتمع وثقافته وتاريخه، لذا يصبح التحدّي هو كيفية إقناع الفرد بجدوى المشاركة السّياسية، وتكريس قيم العدل وتجاوز النّقاشات السّطحية للقضاء على بعض الأفكار السّائدة وتقويم المعوجّ منها من قبيل فكرة الشّرعية التّاريخية، حيث يصبح بعدها القضاء على شرعية التّاريخ كممارسة شيئا سهلا حين يتحرّر العقل منها. يقول المفكّر مالك بن نبي:"إنّ الحريّة عبء ثقيل على الشّعوب التي لم تحضّرها نخبتها لتحمّل مسؤوليات استقلالها"، ومنه يصبح من واجب النّخب المثقّفة في هذا الصّدد ابتكار البديل المناسب لما تمّ الاتّفاق على تغييره من الأفكار من خلال السّعي إلى طرح مجموعة من الصّيغ الجديدة المستمدّة من روح المجتمع بثقافته وتاريخه دون أيّ إقصاء أو تعصّب أو شوفينية، فيغدو بذلك تحريك المجتمع متيسّرابشكل تدريجي بعيدا عن استثارة العواطف سواء كانت دينية أو عرقية وهويّاتية من أجل القضاء على القيود الوهمية المتجلّية في الثّنائيات المذكورة آنفا. يؤدّي تحقيق الحراك الفكري المتّزن إلى نشأة حراك اجتماعي يواكبه لهالاتّجاه والشدّة نفساهما، يصبح المغزى منه إيجاد أطر تنظيمية اجتماعية تهدف إلى تنسيق الجهود ووضعها موضع التّنفيذ، فيصبح من واجب قوى المجتمع المدني الحقيقية أن تعزّز هذا المسعى وتحرص على بثّ الوعي داخل الكيانات المجتمعية باللّجوء إلى النّشاط الفعلي الميداني، فيتوارى بذلك الخطاب ليترك المجال للفعل باعتبار أنّ قناعة الفرد تتأتّى في الأساس ممّا يراه أمامه مجسّدا على الواقع المتّسم بالمصداقية، استنادا إلى أنّ أساس فهم الظّاهرة المجتمعية يتمّ بالملاحظة وأساس تغيير الفكرة يبدأ بتطبيق فكرة مغايرة يمكن ملاحظة مفعولها عيانا، ومن هنا يقف الفعل في مواجهة الفعل المعاكس،أي يصبح ما تعارف عليه النّاس من ممارسات كرّسها النّظام باليا وغير فعّال في نظرهم عند قياسه بالبديل الجديد، ولا يمكن أن يتمّ هذا إلاّ من خلال مخطّط عملي مدروس ومبني على استراتيجية طويلة المدى، منظّمة ومتناسقة دون إثارة الاختلافات التي تمسّ بمصداقية من يقوم بهذا العمل مع تنويع النّشاط وتوسيعه لتنخرط فيه شتّى أطياف المجتمع اختيارا وعن قناعة. يعتبر السّعي لإيجاد بديل سياسي ملائم في الجزائر جوهر التّغيير وصلبه، حيث تقتضي صناعته وتحضيره بذل جهود مضاعفة لإقناع أفراد الشّعب بالكيان السّياسي البديل، خاصّة إذا أخذنا في الحسبان نفور أغلب الفئات الاجتماعية من العمل السّياسي وهو ما يتجلّى في نسبة المشاركة السّياسية في فترات الانتخابات وفي النّشاطات التي تقوم بها الأحزاب سواء الموجودة في السّلطة أو المعارضة، ومنه أصبح من الواضح أنّ الخطاب السّياسي القائم على الوعيد والتّهديد والنّقد دون تقديم الحلول لم يعد مفيدا في الوقت الحالي، بل يستلزم تغييرا جذريا أساسه تقديم النّشاط الشّعبي على الخطاب لإعادة الثّقة في المعارضة من خلال الاحتكاك بالطّبقات الشّعبية وتلمّس احتياجاتها والاستماع لآرائها والعمل على طرحها بجدّية في برامجها السّياسية بلا مكابرة ومراوغة كما ألفنا، لاسيما وأنّ التحرّك على هذا المستوى لم يعد متيسّرا للجميع بسبب المضايقات وتشويه صورة الأشخاص ومطاردتهم بالاتّهامات الزائفة فضلا عن التّجارب الفاشلة لبعض هؤلاء بعد مشاركتهم في الحكومة وهو ما أدّى إلى زوال مصداقيتهم وإظهارهم في مظهر الباحثين عن المجد الشّخصي والمصلحة الضيّقة ما أفقد الفعل السّياسي حقيقته، وهنا يصبح التحدّي كبيرا وخطرا في آن واحد من أجل ميلاد جيل جديد من السّياسيين القادرين على مرافقة الفئات الشّعبية وقيادتها نحو تحقيق أهدافها.
متى نغيّر؟
إذا تبنّينا فكرة التّغيير الشّامل والفعّال من منطلق نظري محض يمكننا القول إنّ تنفيذها يجوز القيام به في الوقت الذي نشاء إذا ما توفّرت الظّروف والأسباب والوسائل اللاّزمة، لكن دراسة الواقع تجعلنا نتريّث قليلا لنلاحظ الأشياء وحقيقتها على الأرض، فالوضع الذي نحن عليه هلامي مائع تميّزه الضّبابية ويحتويه الغموض من كلّ جانب، فلا الطّبقة السّياسية ناضجة بالشّكل الكافي الذي يمكّنها من قيادة الشّعب نحو التّغيير، ولا النّخب تقوم بدورها في التّوعية وتحضير الأرض الخصبة التي ينبت على ترابها بعد أن استقطب مشاريع النّظام القائم وإغراءاته جزءا كبيرا منها وغيّبت مؤّسّساته الجزء المتبقّي، ولا الشّعب محضّرا ومستعدّا للدّخول في مرحلة جديدة ارتبطت في المخيال الاجتماعي بالعنف والإرهاب، فأصبح متردّدا بين ما يراه مخاطرة غير محمودة العواقب إذا ما تحرّك ضدّ السّلطة القائمة وبين "ستاتيكو" يراه ضرورة لا خيارا بعد أن اجتمعت عليه المشاكل الحياتية النّابعة من واقعنا السّياسي مع حواجز بسيكولوجية ناتجة عن المرحلة السّابقة، ومنه يصبح التّساؤل عن توقيت البدء في مسار التّغيير ملحّا ومرتبطا بسؤال آخر أكثر إلحاحا:هل حضّرنا البيئة للقيام بالتّغيير؟ من المؤكّد أنّ الأزمة متعدّدة الأبعاد التي تمرّ بها البلاد تستدعي حلاّ عاجلا تقوده مختلف القوى في المجتمع (أحزاب، نقابات، جمعيات، وسائل إعلام، أكاديميين…) برويّة وتريّث وبوسائل سلمية وذكيّة تحافظ على قوّة الدّولة ومؤسّساتها، بيد أنّ هذا يتوقّف على مدى الوعي والصّبر الذي يجب أن تتحلّى به الأطراف القائدة للتّغيير وقبل ذلك وجودها من الأصل، إذ إنّ طغيان السّطحية على تفكيرها وابتعادها عن فهم الواقع وركوب موجات الغضب الشّعبي من حين لآخر جعل منها قوى ضعيفة ومتصارعة غارقة في المنازعات الإيديولوجية والتّنابز اللّفظي إن كانت كيانات وهيئات، وقٌوى مشتّتة الجهود لمّا تكون على شكل أفراد تربطهم المواقف والأفكار، لكن يفتقدون للهيكلة الضّرورية التي يتطلّبها النّشاط المنظّم، ومن هنا نخلص إلى القول إنّ التّغيير المنشود يجب أن يبدأ العمل عليه من الآن بداية بتجديد الأفكار النّهضوية ووضعها في قالب موحّد يولّد مشروعا مجتمعيا بالدّرجة الأولى يلتفّ حوله الجميع، وإلاّ فإننّا سنبقى تحت سيطرة اللّوبيات الفاسدة نجترّ الشّعارات نفسها ونكرّر أخطاءنا ذاتها، سنبقى مجتمعا سطحيا تتقاذفه الأفكار الآتية من الشّرق والغرب دون أن نصنع لذواتنا هويّة جامعة ومشروعا حقيقيا، نعيش على التّقاتل البيني دون طائل، وهذا ما سيرجعنا للخلف أكثر مع اعترافنا بأنّنا في مؤخّرة الرّكب منذ زمن. [email protected]