الجزء الواحد والعشرون عندما أراد الله جلّ جلاله أن يُسوق لنا أفضاله على نبيّه محمد (صلى الله عليه وسلم) لنعلم عظيم فضلها علينا إشارة إلى "هدايته" من ضلالة قومه للفت النظر إلى أن الهادي هو الله وحده لا شريك له، وأن هداه ليس مقصورا على "المحظوظين" بمعايير الاجتماع والاقتصاد والسياسية..إنما بمشيئة الخالق وحده "ووجدك ضالا فهدى" الضحى: 07، مما يعني أن الهداية "هدية" من الله لعباده، وليس لأحد الحق في أن يمنّ على الناس ولو كان عالما عاملا أو داعية مجاهدا- بأنه هو الذي هداهم للإيمان، وليس لأحد ممن "هداهم" الله إلى صراطه المستقيم فساهم بجهده وماله وعلمه في "هداية" من كتب الله هدايتهم على يديه، أن يدور بخلده شعور الغبطة بأنه هو "الهادي" إلى صراط العزيز الحميد. فقد حاول أقوام، في زمن التأسيس الأول بالمدينة المنورة المنّ على هذا الدين، فذكروا للرسول (ص) ما كانوا يعتقدون أن لهم فضل نشر المنهج الإيماني وتقوية شوكة الإسلام..فردّ عليهم المولى عزّ وجل هذا المنّ بقوله: "يمنون عليكم أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين" الحجرات: 17، وهو نفس الإعتذار الذي توجه به المستضعفون للمستكبرين في حوار تخاصم أهل النار في قوله تعالى "وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ" إبراهيم: 21، "فهداية العباد منّة من الله، يعود كامل فضلها إلى الله وحده لأنه هو الهادي بالحق إلا ما يُحمد كل مؤمن به ربّه على أن هداه إليه لأنه منطلق الحياة الصحيحة القائمة على منهج قويم لا يفرق المنتمي إليه بين الصلاة والصناعة، والزكاة والتجارة، والحج والإستثمار، والدعوة والسياسية..لأن الصلاة والنسك والمحيا والمماة لله رب العالمين لا شريك له، ولأن الله هو الهادي لهذا بإذنه "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، البقرة: 213. فما معنى الهداية إلى صراط الله المستقيم؟ وما معنى "إهدنا الصراط المستقيم"؟ من أراد الهداية سلك لها طريق التوحيد بإقرار وجود واجب الوجود ذاتا وصفات وأفعلا، باتباع سبل النبوات والإقتداء بالنبي الخاتم (ص) والتسليم بما ثبت من سمعيات عن عالم البرزخ إلى يوم الحساب وما بعده، فلا يُوجد سبعون طريقا إلى الإستقامة على الهداية، فهناك طريقان اثنان فحسب، طريق الشاكرين، وطريق الكافرين "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" الإنسان: 03، فلا يوجد في عالم الغيب- مائة صنف من العاملين ومائة رهط من الخاملين، وإنما هناك صنفان فقط أبرار وفجار "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" الإنفطار: 13 و14، ولا يوجد تنظير في الدين، ولا "فلسفة" في علم التوحيد، فإما سمع وطاعة، وإما سمع وعصيان، وإما احتجاب مطلقا عن السمع، فالمؤمنون إذا سمعوا أطاعوا، والعصاة إذا سمعوا عصوا "وقالوا سمعنا وعصينا" البقرة: 93، ومن اختاروا أن يغلقوا آذانهم عن السمع ويستغشوا ثيابهم عن الهدى كان لهم في قوم نوح (ع) أسوة حسنة!! إنحدر منها أتباعهم وأشياعهم من الضالين والفاسقين والظالمين، ومن عبدة العجول والأبقار والدينار والدرهم.. إن الله قد بسط للناس أسباب الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ورتب على هذه الهداية "زيادة" ما يختاره كل إنسان، فمن آمن زاده الله هدى وتقوى ومن كفر زاده طغيانا وكفرا، فكلما زاد العمل الصالح زاد الإيمان، وكلما زاد الإيمان اتسعت دائرة هداية الله للناس فانتصر بهم المشروع الإيماني الممكَّن في النفوس والواقع "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم" يونس: 09، فإذا تحولت الهداية إلى مشاريع عمل زادهم الله هدى وأشاع في الناس تقواهم فدخل الناس في دين الله أفواجا "والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم" محمد: 17، ومن العبث تضييع الوقت وتبديد الجهد في فلسفة القضاء والقدر، فذلك من تزيين الشياطين للمصطلحات للصد عن سبيل الله، فمن جاهد في نفسه هداه الله إلى مراشد الأمور، ومن قعد به عمله لم يسرع به نسبه "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". لقد نجح الشيطان في تزيين مشاريع كثيرة للناس فاكتفوا بالقشور التي هي مجرد تزيينات نفس وإغواءات هوىّ "وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون"النمل: 24، إن الهداية التي يسألها المؤمنون ربهم كل يوم عدة مرات هي التي على أساسها بعث الله الرسل وأنزل الكتب وشرع الدين "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا" الفتح: 28. يتبع…