ولأنهم صمّوا أذانهم عن الحق، وطمسوا أعينهم عن الصراط المستقيم، فقد وجدوا أنفسهم فاقدين لأهلية السير المبصر بنور البصيرة في ظلمات اصطنعوها لأنفسهم بأنفسهم : "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" البقرة:20، ولكن الله لم يشأ أن يسلبهم عطاء الربوبية برفضهم لعطاء الألوهية، فيكفيهم عقاب أنهم حُرموا نور البصيرة، فعميت القلوب التي في الصدور، فما قيمة البصر الذي لا يرى في الرعد والبرق والسحاب والمطر..إلاّ ظواهر مخيفة يظنها من روادع "الطبيعة" ويغفل عن أنها مسخرة له بإرادة خالقها، فلا يردها إلى بارئها بشكره واتباع هديه، ولا يتفاعل معها بما سُخرت له ذلولة مسبحة بحمد ربها: " وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ" الرعد:13،. لقد كانوا صمّا، وكانوا بكْما، وكانوا عمّيا عن إدراك الحق والتعاطي بإيجابية مع منهج الهداية، فلما واجهوا واقع الحياة العادية لم يحسنوا التصرّف مع جندي واحد من جنود الله يسمى الرعد، وجندي آخر يسمى البرق، يهددهم الأول بالصواعق والثاني بخطف الأبصار التي أعموها عن رؤية الحق وعطّلوا وظيفتها الحيويّة عن التأمل في خلق السماوات والأرض، ولم يستطيعوا منْع نزول الصواعق عليهم، إلاّ بالإحتماء من سماع أصواتها بوضْع أصابع ضعيفة عاجزة عن حماية نفسها في أذان ضعيفة عاجزة عن الإحتماء بذاتها من تهديدات جنود الله، فما كان لهم من نهاية إلاّ أن ينزع الله منهم حاسة السمع ما داموا قد عطّلوها عن وظيفتها التي خلقها الله لتعمل بها، وينزع منهم حاسّة البصر التي قصروا وظيفتها في مراقبة مسافة الطريق التي هم سائرون فيها لغاية غير محددة، ما دام البرق هو المتحكم في حركاتهم، ماداموا يمشون أو يتوقفون وفق حركة البرق، لكن رحمة الله لا تُدفع إلاّ بمشيئته، فلو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم، لأنه قادر على ذلك، وهو على كل شيء قدير، ولكنه لم يشأ مع قدرته، لأن الحساب على المنهج والثواب والعقاب على كيفيات التعامل معه والإستجابة له كلها نابعة مما يعتقده الإنسان وما تجترحه حواسه في الحياة الدنيا، ولكنها كلها حسابات مؤجلة إلى يوم الحساب. انتهى الحديث عن الأصناف الثلاثة الذين تحددت مواقفهم مع هدي الله في كتاب "لا ريب فيه هدى للمتقين" من خلال تعاطيهم مع المنهج الإيماني الهادي إلى سراط الله المستقيم، المشار إليه بقوله تعالى : "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ" البقرة:02 وتحددت من ثمة صفاتهم الكبرى ذات الصلة بالهداية وذات الصلة بالمنهج الهادي إلى صراط مستقيم : – فالمؤمنون على هدى من ربهم وهم مفلحون. – والكافرون اختاروا طريقهم ولا تنفع معهم الآيات والنذر، لأنهم اختاروا أن يغلقوا قلوبهم عن كل وارد جديد فختم الله عليها فلا يخرج منها صادر ولا يتغلغل إليها وارد. – والمنافقون اختاروا منهج التلفيق وأسلوب التركيب، والغنائم الباردة والخلوات المظلمة، فكان لهم مع منهج الهداية جولة طويلة عرت مشاريعهم وفضحت خططهم وكشفت عن فساد نواياهم ودسائس طواياهم وحقارة ما يصنعون. إنتهت هذه الجولة الفاحصة لطبائع البشر، بفرز الناس أمام هدي الله فرزا أفقيا ظاهرا للعيان، فإما مؤمن، وإما كافر، وإما منافق، لتبدأ بعد هذا التقسيم الأفقي المستوعب لحركة الإنسان مع المنهج الإيماني، جولة جديدة مع الناس، جميع الناس بغير تصنيف مطلق ولا ترتيب مسبق ولا حكم على النيات التي لا يعلمها إلاّ خالق الإنسان قبل أن يكشف عنها أصحابها. هي جولة إيمانية ثانية يقدم الله فيها منهجه للناس جميعا بأسلوب جديد يخاطب فيه العقل والقلب والمشاعر، ويستعرض خلالها بدائع الله في ملكه، ويذكّر البشرية كلها بالنعم الظاهرة التي لا يختلف حولها أثنان : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)" البقرة:21/22. خطاب مفتوح لجميع الناس أن يؤمنوا : "يا أيها الناس"، فالمؤمنون ناس من الناس ولكنهم اختاروا الإيمان، والكافرون كذالك هم ناس من الناس، ولكنهم اختاروا الكفر، والمنافقون هم أيضا ناس من الناس، ولكنهم اختاروا النفاق، فلتكن العودة الصادقة هذه المرة –وكل مرة- لمن لم يختر بعد المنهج المخاطب به، وليكن الخطاب في هذه الجولة موجها للفطرة النائمة لعلها تستيقظ لعلها تصحو، لعلها تتحرك، لعلها تتفاعل مع نداء الإيمان لها فتؤمن وتعمل..ولتكن البداية من كبريات اليقينيات الكونية التي يعدّها الناس من المسلَّمات التي لا يجحدها مؤمن ولا كافر ولا منافق، لأنها محيطة به في حسّه وفي حركته وفي حلّه وترحاله، ولنفترض أن معتوه ركب رأسه فأنكر وجود الأرض من تحته والسماء من فوقه والشمس التي تشرق عليه وتغرب والقمر الذي يبدأ هلالا ويصبح بدرا، والبحار، والجمادات، والنباتات والحيوانات، ولإنس والجن..وينكر كل شيء من حوله، لكنه سوف لن يستطيع إنكار كينونته لأنه جزء منها، فكما شك الإمام أبو حامد الغزالي ثم صار إلى "المنقذ من الضلال" وكما شك رينيه دكارت ثم اكتشف أن الشك في الشك يفضي إلى إثبات وجوده وتبنى "الكوجيتوا" فكذلك كل شك في وجود ما هو موجود يفضي إلى إثباته لأن نكران الذات يدل على وجودها بمنهج الشك نفسه، فبهذه البديهية التي يعرفها كل الناس خاطب الله الناس جميعا : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"البقرة : 21، فالله الذي يخاطب الناس بكلامه ويدعوهم إلى عبادته، هو الذي خلقهم، والذين من قبلهم، ومسألة الخلق لم يجحدها أحد من الناس حتى الكافرون الملحدون، لأنه لا أحد يستطيع أن يزعم أنه خلق نفسه أو أن خُلق من غير خالق، أو أنه خلق الكون، أو هو قادر على أن يخلق زوجه ليكون نصفه الآخر فيتعاونان معا على "خلق" أطفال لهما يرثونهم ويستمر بهم نسلهم ويحفظ بهم نوعم البشري !! ففي أزيد من مائتين وخمسين موضعا من القرآن الكريم –حيث وردت لفظة الخلق واشتقاقاتها- ما نسب الخلق إلى بشر قط، إنما جاء مسنودا لله الخلاق العليم خالق السموات والأرض القادر على أن يخلق مثلهم ودونهم من الخلق من باب قياس الأولى : "أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ" يس :81، ولم يوجد في التاريخ كله أحد سُئل : من خلق السماوات والأرض؟ إلاّ ردّ الأمر كله لله وحده : "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ" لقمان: 25، فمن هذا الباب دخل الإحاء للناس بواجب الإعتراف بواجب الوجود الذي خلقهم والذين من قبلهم ليعبدوه كونهم عبيده أجمعين، وهم مدعوون لعبادته وحده لا شريك له، لأنه خالقهم ورازقهم، ويحذرهم من اتخاذ أنداد له وهم يعلمون أن هؤلاء "الأنداد" لم يخلقوا شيئا بل هم مخلوقون ولا يستطيعون مدّ أحد بالرزق ولا بشيء من مقومات الحياة لأنهم هم أنفسهم مرزوقون، وأندادهم الذين آتخذوهم آهة مرزوقون مثلهم. إن سياق هذه الآية يوضح، بشكل حاسم، العلاقة السببية بين الخلق والرزق من جهة ثم بين المرزوقية والعبادة من جهة أخرى لتكون الفاصلة واضحة بين عطاء الربوبية المتاح لجميع خلق الله وعطاء الألوهية الذي لا يؤتاه إلاّ من اهتدى، فليس الرزق مربوط بالعبادة، وليست العبادة شرطا لاستدرار الرزق، لأن الله يرزق المؤمن والكافر والمنافق على حد سوى بعطاء الأسباب، بل إنه (جل جلاله) يرزق إبليس الذي "أسس" لمنهج الكفر والعصيان ويرزق فرعون الذي قال : "أنا ربكم الأعلى"، لأنه (سبحانه) خالق الجميع ورازق الجميع لأنه ربّ الجميع، ولكنه إلآه المؤمنين به وهادي المتوكلين عليه إلى صراط المستقيم، ولكنه، جل شأنه، يتحبب إلى الناس، جميع الناس، بالنعم التي خلقها من أجلهم، وسخرها لهم وذللها بمشيئته للناس أجمعين، لأنه هو الذي استدعاهم إلى "ضيافته" في الأرض وجعلهم خلفاء فيها نداهم بخطاب موّحد يستغرق الناس أجمعين : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" فهو ربكم وربّ الذين من قبلكم وهو خالقكم وخالق الذين سبقوكم والذين سوف يأتون من بعدكم إلى قيام الساعة، وهي إشارة لطيفة منه (جل جلاله) ليقوم الإنسان بعملية تصور ذهنية تتسلسل الخلائق فيها تنازليا من كل فرد إلى أن يصل إلى التموذج الأول الذي كان من طين ثم جعل الله نسله في قرار مكين، ليكتشف هذا الإنسان المغرور أن الذي خلق آدم (ع) هو الذي قضى بمشيئته أن يُخرج من صلبه ومن الطينة الأولى جميع نسله وذريته ليكون الأصل واحدا، من صلصال كالفخار، وتكون النفخة واحدة ليكون الخلق جميعا: "من نفس واحدة"، هي النفخة الأولى التي كان منها أبو البشرية جمعاء عندما تعلقت مشيئة الله بمن خلق من طين، لمهمة تحددت قبل خلقه، ثم تهيأت له أسباب الرزق كلها قبل أن يُخلق، فلما أنشأه الله وجد الكون كله مبسوطا له، ثم علّمه وابتلاه، وأنزله إلى الأرض بمنهج تكليف، فكانت الذرية البشرية التي تناسلت من صلبه مفطورة على هذا المنهج، فالخلق كله لله، والرزق كله من عند الله، والأمر في المبتدى والمنتهى إليه وحده. * فالخالق الأوحد لكل هذا الكون وما فيه ومن فيه هو الله وحده لا شريك له: " مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا" الكهف:51. * والرازق وحده هو الله، بل إنه هو الرزاق بأسباب سخرها وذللها، وظروف هيأها وأوجدها، وعطاءات قدرها ويسرها..وليس للإنس والجن إلاّ أن يتوجهوا إلى الوظيفة الأسمى التي خُلقوا لأجلها وأن لا ينشغلوا كثيرا بما خلقه الله لأجلهم إلاّ عبادة الأخذ بالأسباب، وعلى الله قصد السبيل : "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" الذاريات: 58. * وبدايات العلم والبيان منه وحده الذي علّم آدم(ع) الأسماء كلها، كما سوف يأتي بيانه، ثم منه تفرعت شتى العلوم والمعارف بما أنعم به على الإنسان من أدوات الإدراك والنظر والفهم التي بها يتم تحصيل العلوم بالنظر والإستنباط والتجربة القياس..بالسمع والأبصار والأفئدة، فخالق الإنسان هو معلمه البيان : "خَلَقَ الإِنسَانَ(03) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(04)" الرحمان :03/04. هذه كلها عطاءات ربوبية مخلوقة بأمر "كنْ" فكانت ثم أحكم الله (جل جلاله) حركتها بأسبابها الخاضعة لعلمه والمسيّرة بمشيئته وتقديره، وكان يمكن أن يلتفت الناس جميعا إلى ما أعطاهم الله من خلق ورزق، وقوة وعلم، وقدرة وحركة..الخ، ليؤمنوا به دونما حاجة إلى إضافات أخرى، فالخالق (سبحانه) هو الجدير بالعبادة لأنه أوجد من عدم وجعل الأسباب دالة على القدرة، فهو واهب الذكورة والأنوثة، وواهب الأزواج والبنين، وجاعل من يشاء عقيم، ليبين أن الأسباب لا تعمل من تلقاء نفسها، وإنما تعمل بمشيئة خالقها، فلا "حتميات" مع الله، فالإنجاب ليس مسألة استنساخ آلية حسابية مجموع جمعها يساوي أطفالا، ومفروق فصلها يساوي عزوبة وعنوسة، وإنما هة قدر الله الماضي ومشيئته الفاعلة، وقضاؤه القائم بقيومياته في خلقه بإذنه وعلمه وحكمته من بعد حلمه ولطفه ورحمته. فما الذي يريده الناس فوق هذا؟ يتبع…. هذه كلها عطاءات ربوبية مخلوقة بأمر "كنْ" فكانت ثم أحكم الله (جل جلاله) حركتها بأسبابها الخاضعة لعلمه والمسيّرة بمشيئته وتقديره، وكان يمكن أن يلتفت الناس جميعا إلى ما أعطاهم الله من خلق ورزق، وقوة وعلم، وقدرة وحركة..الخ، ليؤمنوا به دونما حاجة إلى إضافات أخرى، فالخالق (سبحانه) هو الجدير بالعبادة لأنه أوجد من عدم وجعل الأسباب دالة على القدرة إن سياق هذه الآية يوضح، بشكل حاسم، العلاقة السببية بين الخلق والرزق من جهة ثم بين المرزوقية والعبادة من جهة أخرى لتكون الفاصلة واضحة بين عطاء الربوبية المتاح لجميع خلق الله وعطاء الألوهية الذي لا يؤتاه إلاّ من اهتدى، فليس الرزق مربوط بالعبادة، وليست العبادة شرطا لاستدرار الرزق، لأن الله يرزق المؤمن والكافر والمنافق على حد سوى بعطاء الأسباب لقد كانوا صمّا، وكانوا بكْما، وكانوا عمّيا عن إدراك الحق والتعاطي بإيجابية مع منهج الهداية، فلما واجهوا واقع الحياة العادية لم يحسنوا التصرّف مع جندي واحد من جنود الله يسمى الرعد، وجندي آخر يسمى البرق، يهددهم الأول بالصواعق والثاني بخطف الأبصار التي أعموها عن رؤية الحق وعطّلوا وظيفتها الحيويّة عن التأمل في خلق السماوات والأرض