الطّباخ هو جندي الخفاء في الأعراس الجزائرية، يتم استقدامه اليوم مقابل مبالغ مالية تتراوح قيمتها بين مليونين إلى ثلاثة أو أكثر، ومن السهل معرفة ما يتقاضاه طباخ الأعراس بمعرفة عدد الكباش التي يتم نحرها، لأنه يتقاضى مبلغ مليون سنتيم عن كل كبش. سيدات وعجائز من مختلف الفئات العمرية يتولين اليوم مهمة الطهي في الأفراح، وإطعام المدعوّيين، يعملون تحت الطلب ويحجزون من قبل بزمن، تماما كما يحدث مع قاعات الحفلات، المصوّرين وفرق "الديسك جوكيه".
وأكثر ما يزيد من الطلب عليهم هو سمعتهم الطيبة، أي بعد أن يرضي طعامهم المدعوييّن، ويشهدون لهم "ببنّة اليدين"، كما يقال عندنا بالعاميّة، بعضهم احترفوا الطبخ بالشركات الوطنية أو الخاصة وبعضهم الآخر بالفنادق، أو حتى بالمؤسسات التعليمية ومطاعم الجامعات، جلهم وجدوا في الأعراس وسيلة للتكسب والاسترزاق.
تقول الخالة باية، 67 سنة، بأن مهنة الطبخ توارثتها عن والدتها التي كانت تطهو في الأعراس طيلة حياتها، ولكن بالمجان، حالها حال الآلاف المؤلفة من سيدات الجزائر الطيبات، اللواتي اتخذن من الطبخ في الأعراس مهنة إنسانية نبيلة لأخذ الأجر، وأغلبهن احترفنها لسنوات طويلة امتدت لأجيال، دون مقابل، إلا ابتغاء وجه الله تعالى والوقوف إلى جانب الأقرباء والجيران وحتى من يقصدهم لذلك دون سابق معرفة بينهم، هكذا كان حال الجزائريين من قبل.
أما اليوم، تضيف الخالة باية، أن ظروف الحياة الصعبة والصحة المتدهورة لم تعد تسمح بذلك الكرم، خاصة أن أهل العرس يدفعون حتى لمن يقدم القهوة للمعازيم ما يطلب، لذا ارتأت وبالنظر لظروف حياتها المتردية اليوم التكسب من الطبخ، خاصة أنها تعيل أرملة ابنها وأبنائه الثلاثة.
وبالفعل، نادرا ما نجد اليوم من يتكفل بالطبخ مجانا ولوجه الله، حتى من الأقارب والأهل، فالأمر ليس بالهين ومن كن متطوعات في زمن مضى، أصابهن الهرم والمرض، أما اليوم فالسيدات يعرفن مصلحتهن جيدا، وغالبا ما ينتظرهن المقابل.
وتروي لنا أم مؤمن من البليدة، أن موضة الطباخات صارت رائجة جدا ومكسبة، لذلك احترفتها السيدات من كل الأعمار، وحتى الرجال والشباب، اتخذوا منها مهنة موسمية تدرّ عليهم ذهبا في فصل الصيف بصفة خاصة، الذي يتزامن مع الأعراس بصفة شبه يومية.
* الشباب يقتحمون مجال الطبخ في الأعراس من باب التكسّب
ليس هناك مجال بقي حكرا على أهله في الجزائر، فشباب اليوم لم يتركوا مجالا إلا وطرقوا بابه، وآخرها كانت تهافتهم على مهمة الطبخ في الأعراس، خاصة أن الطباخات المعروفات والمحترفات بلغن من العمر عتيّا، وصار من الصعب الاتكال عليهن، فإذا عملن يومين في الأسبوع يكون بالنسبة لهن خيرا وبركة، في حين أن الأعراس خلال موسم الصيف تقام وبشكل يومي، وتلك هي الفرصة التي اغتنمها الشباب الذين حاولوا خطف المشعل من الطباخات التقليديات، خاصة في بعض الأعراس العصرية التي تعتمد على الأطباق "المودرن"، إذ لا يخفى على أحد أن الأطباق الرسمية التي كان يعتمد عليها في أفراحنا، تراجعت وبشكل كبير، خاصة طبق الكسكسي التقليدي، الذي يعزف عنه الجميع في الأعراس اليوم، بسبب صعوبة إعداد الكسكس في الصيف والحرارة المنبعثة من "التفوار" والتي ترفع الضغط لدى كبيرات السن، ناهيك عن التبذير الذي يسببه عدم معرفة تعامل المدعويين مع هذا الطبق الذي يرمى نصفه في أكياس القمامة، للأسف، في نهاية النهار.
كل هذا دفع العائلات الجزائرية، اليوم، إلى تغيير قائمة الوجبات المقدمة، من طبق الشوربة والكسكسي، إلى قائمة جديدة قديمة تعتمد اليوم في العاصمة بشكل شبه كلي، وتعتمد على طبق الشوربة والسلطات، المثوّم واللحم الحلو.
وفي بعض المناطق التي تعد من ضواحي العاصمة، وفي ولايات أخرى كتيزي وزو وبجاية، انتهى عصر هذه الأطباق وصار اعتماد الأعراس كليا على الأطباق العصرية التي تطهى في الفرن، وتعتمد على اللحوم الحمراء والبيضاء المحمرة، بالإضافة إلى البطاطا والخضر المحمرة إلى جانبها والسلطات. ومن أجل هذا تجد المطاعم المكلفة وقاعات الحفلات، تعتمد فيها على الشباب فحسب.
* طباخو الفنادق مطلوبون في أعراس "الهاي كلاس"
ترصد بعض العائلات ميسورة الحال مبالغ مالية ضخمة لإعداد طعام مدعويّيها، وتستقدم أفضل الطهاة بالاسم والمشهورين في إعداد قوائم طعام جديدة وملفتة، تبقى حديث المدعويين لفترة من الوقت، ولا تكترث هذه العائلات للمبالغ المرصودة لتلبية أذواق من جاءوا لمقاسمتها الأفراح، حتى ولو كلف الأمر عشرات الملايين، وأمثال هؤلاء غالبا ما يصرون على إقامة أعراسهم في الفنادق 5 نجوم.
يقول منير، وهو طباخ في أحد فنادق العاصمة، أن الطلب عليه حطم الأرقام القياسية خلال السنوات الأخيرة، بسبب استغناء العائلات عن الطباخات التقليديات، واللجوء إلى "شيف" في الطبخ، مشيرا إلى أن البعض منها ما زال متمسكا بالأطباق التقليدية باعتبارها جزءا من تقاليدنا، يفضل آخرون التجديد في الأطباق والاعتماد على المقبلات في البداية وعلى المشاوي والسلطات، في حين يفضل أغلب العاصميين إضافة إلى الشوربة والبوراك طبق المثوم الشهير وبعده اللحم الحلو، وتبقى المسألة في الأخير مسألة ذوق وإمكانات بالدرجة الأولى، أما عن الأجر الذي يتقاضاه فحدده ما بين 10 ملايين سنتيم كحد أدنى فما أكثر، مؤكدا أن الأمر يتوقف على عدد الأطباق وعلى عدد المدعويين أيضا.
أما عن المواعيد، فقد أكد يوسف أنها محجوزة على الأقل لعشرين يوما قبل العرس، وشهرين كأقصى تقدير. فيما أضاف زميله توفيق أنه يستغل عطلته الصيفية منذ سنوات بمواعيد الأعراس والحفلات لتزويد دخله، مضيفا أن الأمر مكسب فعلا، لكنه في نفس الوقت متعب جدا، مضيفا أنه ليس بإمكانه تحضير أكثر من عرسين في أسبوع واحد، لأنه عمل مضن، فهو يجد نفسه بعد العرس بحاجة كبيرة إلى الراحة والنوم لاستعادة نشاطه مجددا قبل العرس المقبل. وأضاف توفيق أن تحضير الولائم في الفنادق أو المطاعم يختلف جذريا عن الأعراس، هذه الأخيرة التي تتميز بأجواء خاصة في الجزائر، فهي تعج بالمدعويين وتطغى عليها الفوضى. وتحكمات أصحاب العرس كثيرا ما تزيد الطين بلة، فأصحاب العرس يسعون غالبا لتنظيم الأعراس بأقل الإمكانات الممكنة لعلمهم أن اتكالهم على الطباخ يخفض من نسبة التبذير بشكل واضح، وهنا يلعب الاحتراف دورا يضيف توفيق.
يتباكى اليوم العديد من الجزائريين، خاصة من أهالينا الذين يتحسرون على افتقاد الأعراس الجزائرية بنّتها، فكل شيء يقام اليوم تحت الطلب، ويأتي جاهزا، وبعد أن كانت العائلات الجزائرية تستغل فرصة الأعراس للتقارب وتعزيز أواصر التضامن وصلة الأرحام، افتقدت كل ذلك اليوم، الكسكس الذي كانت تجتمع النسوة لإعداده، صار يعد تحت الطلب، والحلويات التي كانت النسوة تجتمعن عليه، وتجمعن الفتيات حولهن للتعلم، لم يعد لها وجود، فالحلواجيات حملن المشعل، وحتى الطهي في الأعراس لم يعد موكلا لأهل البيت والأقارب.
بتعبير آخر، كل مظاهر العرس التقليد الجزائري اختفت، ولم يعد لها وجود، وحلت محلها الأعراس العصرية التي تعتمد على الفردانية، الضيوف والأهل والأقارب لا يعتبون بيت المعرس، لقائهم يتم في القاعات خارج البيت وينتهي فيها، ولا شيء عاد كما كان.