في ندوة علمية حول الفكر والأدب والنقد بجامعة الجلفة البروفيسور حبيب مونسي يؤكد: – من يرى الدّين عائقاً أمام الفكر.. هو العائق – مشروع مالك بن نبي لم يُقرأ بعد، ومن قرؤوه انطلق من زاوية التمنّي لا التطبيق الفعلي – الجامعة الجزائرية أحدثت قطيعة بين التخصصات، وصنعت جهلا مركّبا – الشعر صار مسجونا بين صوتين، صوت نزار وصوت درويش نظم نادي خطوة حرّة ونادي الوعيّ الحرّ بجامعة الجلفة، ندوة علميّة مع الكاتب والناقد البروفيسور حبيب مونسي، كانت بداية الجلسة بعرض بورتريه حول الضيف من إعداد الصحفيّة هبة بعيطيش، والتي قدمت فيه أهمّ محطات حياته كباحث أكاديمي وككاتب وناقد، ثم دار النقاش بعدها على شكل أسئلة طرحها منشّط الندوة حول عدّة محاور في الفكر والأدب والنقد والثقافة والجامعة والإعلام. في ردّه على سؤال ” أيّ درجة يمكن أن نمنحها للهمّ الفكري العربي في سلّم الهمّ العربي؟، قسّم البروفيسور مسألة الفكر العربي إلى ثلاثة مواقف، يحاول الموقف الأوّل الالتزام بالتراث والتشبّث به وكأنه يتشبّث بقشّة في سطح الماء وسيغرق بتركها، وموقف وسطيّ يحاول أن يجعل من نفسه الحلقة الواصلة بين ماض ومستقبل، وموقف ثالث رافض ويرى التراث باعتباره تلك السلسلة التي تقيّد الانطلاقة. أما عن موقفه يقول (إذا زعمت أنني من أهل الترا،ث فمعنى ذلك أنني أدعو إلى أن يتخلّف الركب قليلا وأن يشق طريقا موازيا للتيار الغربي، وأن يكتب مادته المستقبلية انطلاقا من هذا التراث، وهذا وهمٌ يجب أن نفكّك قواعده، أو أنني من أهل الوسط الذين يستطيعون أن يقوموا بعمليات تلفيقية وليست توفيقية بين فكرين مختلفين، فهذا وهمٌ كذلك يجب تفكيك قواعده، وإذا قلت أنني أنتسب إلى الطرف الثالث الذي يقطع صلته بالتراث، هذا كذلك وهمٌ لأنه يقوم على نفي الهويّات والأصوليّات، والبدء من جديد على قاعدة لا يمتلكها أساسا، لأنها ستكون مفروضة عليه من طرف آخر، وأن كل المثقفين العرب يتخبّطون بين هذه الأطراف، والسؤال المطروح الآن، هل هناك من مخرج من هذه الأطراف الثلاث، مشكلتنا الآن مع مفكّرينا ماذا صنعوا!، وكل المفكرين العرب، ابتداء من الجابري وانتهاء إلى حسن الحنفي، الذين قرؤوا الفكر الغربي تولدت لديهم قناعات أن لا مخرج للأمة العربية والإسلامية إلا باتّباع طرق التفكير الغربي، وأننا سنصنع في تراثنا مثلما صنعوا وهو أن نعيد قراءة التراث، أن نعيد ترتيب الأولويات فيه، وأن نزيح منه الأشياء التي لا تخدم واقعنا ،ولكن هؤلاء هم نخبة النخبة ولا يقرأ لهم إلا القلّة، وأن كتبهم لا تأثير لها في الواقع، كما تحدث عن مشروع مالك بن نبي، وقال بأنّه لم يُقرأ بعد ومن قرؤوه قرؤوه من زاوية التمنّي وليس من زاوية التطبيق الفعلي، ولم يخرجوا بالمشروع من إطار الكلمات إلى إطار الأفعال. اعتبر أيضا أن سبب انتكاسنا راجع للتصنيف العجيب الذي صُنّفت به مكتبتنا، فقيل لنا هذه كتب الدين وهذه كتب الأدب وهذه للتاريخ.. إلخ، فيعيش أولادنا محصورين بين كتب التخصص الدراسي، فصار كلّ واحد محروما من أن يقرأ خارج تخصصه، الأصل أن تصنّف مكتبتنا على أديم واحد ويقال هذا كتابٌ في المعرفة، وهذا ما تعانيه الجامعة أيضا، والتي صنعنا فيها قطائع بين المعارف، وأن الجزر المتقاطعة التي أحدثناها في المعرفة أحدثنا جهلا، أو كما يصفه روني غينون ” المعرفة الجاهلة “، فنحن لا نعرف كيف نثمّن هذا الجهد لأن هدفي هو تحقيق النُقلة، فبرأيه إذا لم يحقّق الفكرُ نُقلةً لا نستطيع أن نضع له درجة في سلّم درجات الهمّ العربي. في إشكالية تأثّر الفكر العربي بالفكر الغربي، قال حبيب إننا نعيش حتمية تاريخيّة كما عبّر عنها ابن خلدون بأنّ المغلوب مولع بتقليد الغالب، وأنّ هيمنة الثقافة الغالبة لا تتمّ لأنها تمتلك الجواب الشافي لمطالب الإنسان، بل لأنها تملك الداعم الذي يجعلها مُهيمنة، وأن أي حراك ثقافي يحدث في العالم لا يكون بمعزل عن الاقتصاد الذي يدعمه، فاللغة لا تنتشر لأنها تمتلك جميع إمكانيات اللغة الجميلة المتينة وإنما لأنها تمتلك قاعدة اقتصاديّة تدعمها، ويرى أن استعمال أدوات الآخر في قراءة تراثنا سيجعله مبدعا، لأن هذه الأدوات أصبحت ذات فاعلية في عصرنا، وأنّه إذا أردنا أن نحيي ما بين أيدينا ليس مطلوبا منا أن نكرر تجربة من سبقونا، نستفيد منهم، لكن نحن الآن مطالبين بالانتقال إلى الجانب العملي، حينما تتحول الكلمة إلى فعل. وفي ردّه على سؤال إذا كان الدين يعطّل الآلة الفكرية، يتحدث مونسي عن إشكالية الخلط بين الدين والتديّن، حيث يرى أنّ الدين واحد وهو ما أراده الله سبحانه وتعالى، والتديّن ما نطبّقه نحن من ديننا في حياتنا، والتديّن ليس مقدّساً، فلا نأت إلى الدين ونعتبره عائقاً، فالدين هو التصوّر النظري لتلك العلاقة بين العبد وربّه، أما التديّن درجات، ويقول” ما تتصوّره أنت بأن الدّين هو العائق.. لا، أنت العائق”. في الفن والأدب العربي، يرى حبيب أن هناك من أحدَث خصومة مفتعلة بين الناقد والمبدع، وأن الرواية الآن صارت تتغوّل على ما يحيط بها من معارف، وهذا ما جعل منها مادة ذات بعد خطر”، وأنه كنّا ننتظر من الرواية أن تأخذ من المسرح والسينما طريقتهما، وأنّ الروائي الذي يكتب بمقدوره أن يأخذ محلّ الكاميرا ويأخذ تقنياتها، وأن هذه العملية بدأت بالفعل مع الرواية الحديثة ثم تخلت عن هذه الوظيفة لأنّ همّها صار مختلفاً، وضرب مثالا عن الرواية التاريخية، وقال إن ما يحدث الآن هو أن يتدخّل الروائي في الحدث التاريخي، وأن هناك روائيّون عبثوا بالتاريخ، وأشار إلى رواية تاريخية جزائرية ذكر فيها صاحبها معلومات تتنافى تماما ووثائق تاريخية!. والرواية الجزائرية في نظره تتسم في غالبيتها بقول أشياء لا معنى لها بداع الجرأة، والجرأة لا تعني أن تقول كلّ شيء، وضرب أمثلة توظف التفاهة على أساس أنها عمل أدبي!، حيث قال إن الواحد يخجل من أن يضعها في مكتبة البيت واعتبرها مسخاً، وأن تناول بعض القضايا يحتاج إلى إشارة يفهم منها اللبيب ما تريد قوله، أما أن تتحول الرواية إلى مستنقع فهذه مشكلة كبيرة، كما يرى أن أغلب من يكتبونها في الجزائر ليسوا من حقل الأدب، وأن غالبيتهم من الإعلام، ومشكلتهم أنّهم كتبوها في غفلة عن مقاييس النقد وكيف تكون الرواية. في المقابل أشاد حبيب بروائيين شباب قال إنهم يكتبون الرواية باقتدار كبير وبلغة صافية جميلة جدا وبأدب فيه توقير كبير للقارئ، ويقول ” نتمنى من هؤلاء أن يجدوا من النقاد من يوصل كلمتهم إلى القراء، من يدلّ القراء عليهم، هم قلّة، لكنهم موجودون”. وعن التجربة الشعرية، يرى مونسي أن كلّ الذين يكتبون الآن القصيدة ذات البعد الثوري درويشٌ وراؤهم، وكلّ الذين يكتبون الآن القصيدة الغزليّة نزارٌ وراؤهم، فيقول “صار الشعر مسجونا الآن بين صوتين اثنين ينتظر من يخلّصه من هذا السجن، صوتان الآن يهيمنان على الشعر العربي ..صوت درويش وصوت نزار”، وأن كثير ممن كتبوا القصيدة النثرية والشعر الحرّ تحوّلوا إلى الرواية، ومشكلتهم أنهم حملوا معهم قصيدة النثر، وصارت كلّ فصول الرواية عبارة عن قصائد نثريّة طويلة، وأنّ أحلام مستغانمي هي من بدأت هذه المشكلة، وتحولت الرواية من سردّ الحدث إلى سرد الخواطر، وصارت ” أدب الاعتراف ” أو كما أسماه ” ترهّل الرواية “. تحدث مونسي عن الكتابة الصحفية واعتبرها كتابة تكييف، وأنه لا يمكن أن نتصوّر أن الصحّفي يمكن أن يكون في لحظة من لحظات حياته مستقلّا، فهو مُجبرٌ أن يكتب داخل نسق المؤسسة، فنحن لسنا كالغربيين حينما يكون الصحفي له شهرته العالمية يستطيع أن يكتب عموده الخاص في هذه الجريدة يسارية كانت أو يمينية لأنه هو له نسقه الفكري واتجاهه الخاص، نحن لم نبلغ هذه العتبة، وأنّ الكتابة الصحفية اليوم مطلوب منها تدجين القارئ، وتقديم الخبر من زاوية معينة أو أخرى، الحدث هو الحدث، لكن طريقة الرواية ما تجعل الآخر يقبل هذه الرؤية، وهنا تتحول الكتابة إلى هذا الفعل الناعم مهمته تغيير المواقف، وأنّ أخطر ما في الكتابة الصحفية أنها تحاول أن ترغمك على قبول شيء، وأن تفسّر لك ذاك الشيء بطريقتها الخاصّة. وفي إجابته على السؤال المتعلق بكيفية جمعه بين اتجاهين مختلفين، نزعة المحافظين والتمسك بكل مقومات التراث والكتابة الروائية وما تفرضه من عوالم، يقول” لا أدري إن كنت نجحت في هذا التوفيق بين الأمرين، أنا أسميته تلفيقا، لأني مازلت أعيش القلق، مازلت أرى في التجارب التوفيقية الآن تجارب فاشلة، لأن تجربة الفرد لا تكفي، وإنما هو حراك جماعيّ يجب أن يتحرّك به المجتمع. اختتم مونسي الندوة بحديثه عن المستقبل، وكيف يمكن أن نصنع بما نملكه من مخزون ثقافي وجمالي وحضاري صورة جميلة مشرقة عن المستقبل، وفيها فأل مقابل الصورة العدوانية التي لدى الغرب، في ظل تفاعل وانتباه الحضور، حيث دامت الندوة لأكثر من ثلاث ساعات من المتعة والفائدة، وهذه كانت سابقة في سلسلة الندوات التي ينظمها نادي خطوة حرّة.