ارتبط الفرد الجزائري في سلوكه اليومي، بكثير من العادات التراثية المتجذّرة في وجدانه المتأصل والحاضر في معاشه، والتي لم يستطع الاستعمار الفرنسي محوها رغم محاولاته اليائسة لهدم عناصر الهوّية الجزائرية. وفي هذا السياق سلطت "المساء" الضوء على ما يُعرف ب "العولة" كجزء من هذا الموروث الثقافي المتناقَل عبر الأجيال لمئات السنين؛ حيث اختارت ڨالمة كعيّنة لإبراز جهد ربات البيوت في الحفاظ على هويتهن الثقافية، وتلقينها للأجيال وفق الطقوس والعادات المحلية. يتميّز فصل الشتاء، عادة، في قالمة، بتحضير أطباق غذائية، وأكلات شعبية تقليدية غنيّة ومتنوّعة. ويميل "ناس قالمة" نحو تناول أطباق تسمح بمقاومة برودة الطقس خاصة إذا تزامن ذلك مع الجليد أو تساقط الثلوج والأمطار، والأكلات التي يجب تناولها في هذا الفصل البارد، معظمها ينحدر من تراث الولاية، أو من المطبخ الجزائري بصفة عامة؛ لما لها من نكهات ممتازة تساعد على مقاومة البرد، فالأكلات الشتوية تمنح الجسم الدفء، والفائدة لاحتوائها على كثير من المكوّنات المهمّة. وعلى الرغم من أن المادة الأساسية المستعملة في الأكل المحضّر عبارة عن عجائن، إلا أن أشكاله تتعدّد وتتنوّع، ما يعطي شيئا من الجاذبية، والإقبال على الأكل. وهو دلالة على مراعاة المجتمع القالمي للجوانب الفنية الجمالية؛ بحيث يتعامل المجتمع مع الظروف المناخية الصعبة انطلاقا ممّا هو موجود ومتوفّر ما بين يديه للقيام بتحضير الأكلات الشعبية التقليدية، وما هو مصنوع من القمح، والخضروات، والفلفل الحار؛ حيث تتفنّن ربّات البيوت في إنجازها. ويقترن اسم "العولة"، عادة، بسوء الأحوال الجوية، فيتم تجهيز بعض الأغذية الأساسية في البيوت. وإذا اشتدت حدّة البرد أو تزامن ذلك مع تساقط الأمطار والثلوج، فإن قيمة البيت في قالمة، تُقدّر، وتُحسب ب"العولة" التي تقوم بتحضيرها ربّات البيوت؛ تحسّبا لفصل الشتاء؛ كخطة حياة عادية من مواد استهلاكية، واستعمالها عند الحاجة. و"العولة" بمفهوم ناس قالمة، العيش المتوازن للفرد. "الكسكسي" و"العيش".. المؤونة الأساسية بعد عملية الحصاد ودرس القمح وطحنه تقوم النساء بتحويله إلى مواد غذائية، ومنها تجهيز "الكسكسي" التقليدي، وصناعة مختلف أنواع العجائن، وتخزينها. ومن الأطباق التي يتم تخزينها "الكسكسي" و"العيش"، يتم تحضيرها في فترة الحصاد وبيع المنتوج؛ باعتبار قالمة منطقة فلاحية. وأكبر نسبة من مؤونة المجتمع القالمي المدخرة عبارة من مواد غذائية مصدرها العجائن؛ على غرار "الكسكسي" و"المْحَمْصَة" و"العَيْش" و"الشَخْشُوخة" و"الثْريدة". ونشير أيضا إلى "الرّْوِينَة" التي تتكوّن أساسا من طحين القمح. تسدّ الجوع في أوقات البرد، وكانت زاد المجاهدين وقت الاستعمار. "الدّْهان".. لإعطاء طاقة حرارية للجسم ويعمد المجتمع القالمي إلى تحضير أكلات غنية بالدهنيات؛ مثل "العصيدة" المدهونة بالزبدة والعسل، ما يعطي طاقة حرارية لجسم الإنسان، ويمكّنه من القيام بنشاطه اليومي. و"العصيدة" تتكوّن من دقيق يُطبخ بالماء. ويحرَّك في القدر تحريكا متكرّرا، حتى ينضب الماء، ثم يقدَّم بإضافة السكر والزبدة "الدهان". ومن عادة ناس قالمة تحضير "الدّْهان". فبعد مخض الحليب في "الشَّكْوَة" يُستخرج اللبن، والزبدة التي يُضاف إليها الملح. ويتم تذويبها. ثم تُترَك حتى تُجمّد. وتُخزَّن، ليتم استعمالها عند الحاجة. "الطماطم المشَرّحة" و"الفلفل الحار".. مكوّنان أساسيان في الطعام يُعد "الفلفل الحار" و"الطماطم المشرّحة" مكوّنين أساسيين في طهو الطعام لدى المجتمع القالمي. وقديما، بعد عملية جني الطماطم من الحقول بعد نضجها، كانت ربّات البيوت يقمن في فصل الصيف بعملية تشريح الطماطم، وتقطيعها قطعا دائرية. ثم يضعن فوقها الملح. ويتم بسطها في صينية كبيرة تحت أشعة الشمس الحارة لمدة أسبوع أو أكثر. وعند الحاجة يتم طهو الطعام بهذه الطماطم المشرّحة" . والعملية نفسها للفلفل الحار. لكن هذه العادة اندثرت مع بروز المصانع التحويلية، البالغ عددها حاليا بولاية قالمة، 5 مصانع تحويل. إضافة إلى ذلك، كانت الحرائر يقمن بتخزين الفلفل الأخضر الحار بإضافة الماء، والخل، والملح. ويسمّى "الفلفل المْرَقّد" لاستعماله عند الحاجة. لكن في وقتنا الحالي تم الاستغناء عن "الطماطم المشرّحة" وتعويضها بالطماطم الصناعية، و" الفلفل المْرَقّد" ب"الهريسة" الصناعية. وكذلك تحضير الزيتون ليكون متاحا في فصل الشتاء، فضلا عن زيت الزيتون. "الدَّرْسة" لإضفاء نكهة خاصة على الطبق كان للبيت القالمي نكهة خاصة وتنوّع كبير، يُعد تراث الجدّات، فكانت ربّات البيوت عند تحضير طبق أو أكلة شعبية، يقمن بتحضير خليط من الثوم والتوابل والفلفل الحار، وطحنه باستعمال "المهراس"، وتسمّى "الدَّرْسة" التي تعطي نكهة خاصة، ومذاقا لذيذا. ونشير إلى أن ربّات البيوت يخصّصن زاوية من زوايا البيت لتخزين مختلف المواد الأساسية والمؤونة، تسمّى "السَّدّة". ومع تسارع الحياة اليومية وبروز الصناعات التحويلية وتوفير المواد الاستهلاكية الجاهزة، فإن "العولة" بدأت في التقهقر، بينما العائلات في القرى والأرياف مازالت متمسكة بهذه العادة، وبتحضير "العولة" قبل حلول فصل الشتاء؛ لاستهلاكها في وقتها. واستنادا للمثل الشعبي القائل: "الجديد حبُّو والقديم لا تفرّط فيه"، هل تستطيع بنات اليوم منافسة نساء الزمن الجميل، اللائي كن يتصرّفن بحكمة في ادخار الزاد والمؤونة في ظل ضعف القدرة الشرائية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية؟.