بالعودة بالذاكرة إلى ما وقع من أحداث وتطوّرات على مدار 12 شهرا مضت في عالم انقلبت فيه الموازين وأصبح يأتمر بمنطق الغاب "القوي يأكل الضعيف"، تترسخ حقيقة فرض أمر الواقع وانهيار مبادئ النظام العالمي المبنى على الاحترام المتبادل واحترام حقوق الإنسان في أكثر من واقعة ومكان في المعمورة. وقد تكون البداية من عودة الرئيس الأمريكي الجمهوري، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض بأفكاره وقراراته المثيرة للجدل، والتي يغلب عليها الطابع الشعبوي وتكرس عقيدته القائمة على شعار "أمريكا أولا" ولا يهم باقي العالم. عودة ترامب تقلب موازين النظام الدولي بغض النظر عن سلسلة القرارات التي اتخذها ترامب وتخص الداخل الأمريكي وما لقته من جدل لدرجة تعليق بعضها في المحاكم الأمريكية، يبقى سعيه لإدارة العالم أجمع وفق منطقة وهواه وتدخله في أكثر من أزمة وصراع باحثا عن لقب "رجل السلام".فعند الحديث عن أهم الأحداث الكبرى التي شهدها عام 2025، إلا ونجد للرئيس الأمريكي ترامب يد فيها إما بالوساطة أو بقرارات أقل ما يقال عنها غريبة وتثير الدهشة، تأخذ طابع "الإلزامية والتطبيق الفوري" بداية من غزة مرورا بأوكرانيا وصولا إلى الحرب الأخيرة بين إيران والكيان الصهيوني ووصولا إلى الصراع الدامي في السودان وغيرها من بؤر التوتر التي ازدادت حدة، وحتى مجلس الأمن الدولي الذي من المفروض أنه هيئة أممية مستقلة شغلها الشاغل إحلال السلم والأمن في العالم أراده ترامب أن يكون في خدمة شعار "أمريكا أولا". غزة.. الإبادة الصهيونية مستمرة ألقت الإدارة الأمريكية مع تولي، دونالد ترامب، الحكم في الولاياتالمتحدةالأمريكية بكل ثقلها من أجل وقف إطلاق النار في قطاع غزة، ليتم توقيع الاتفاق الأول في جانفي 2025، لكن سرعان ما انهار بسبب التعنت والمماطلة الصهيونية التي عادت قواتها لتقصف القطاع بكثافة. وكان ذلك في فجر يوم الثلاثاء 18 مارس 2025، حيث شنت هجوما جويا واسعا على جميع أنحاء غزة، معلنة بذلك انهيار وقف إطلاق النار قبل التوصل للمرحلة الثانية أسفر في الساعات الثلاثة الأولى عن استشهاد أكثر من 300 فلسطيني وجرح المئات. وبالتزامن مع استمرار فصول حرب الإبادة الصهيونية في غزة، لم تتوقف إدارة ترامب عن الترويج لسعيها لإيقاف الحرب وانخرطت إلى جانب الدول الوسيطة الأخرى قطر ومصر وتركيا في سلسلة مفاوضات تتوقف وتستأنف تباعا إلى غاية التوصل في التاسع أكتوبر الماضي بشرم الشيخ بمصر إلى اتفاق آخر لوقف إطلاق النار برعاية الرئيس الأمريكي نفسه الذي وضع خطة لإحلال السلام في غزة دخلت حيز التنفيذ في العاشر أكتوبر الماضي. ولكن ومع سريان وقف إطلاق النار في مرحلته الأولى، لا يزال الغزيون يموتون إما بالقصف أو بردا أو جوعا أو بسبب انعدام الأدوية والعلاج أمام أعين مجموعة دولية لا تزال في موقع المتفرج على واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية من صنع الإنسان في العصر الحديث واحتوائها أو على الأقل التخفيف من حدتها بيد الإنسان أيضا من خلال فتح المعابر والاسراع في إغاثة ما لا يقل عن مليوني و400 ألف نسمة محاصرين في قطاع غزة غير مسموح لهم بأن يتنفسوا الصعداء.فلسطين.. دولة باعتراف المجموعة الدولية وتبقى الحقيقة الموجعة أن قطاع غزة يودع عام 2025 ويودع معه أكثر من 71 ألف شهيد من أبنائه الأبرياء ارتقوا في حرب الإبادة ضمن حصيلة جد دامية هي الأثقل على مدار سلسلة الحروب التي شنها هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين المحتلة. ولكنها حصيلة كانت سببا أيضا في جعل المجموعة الدولية تخرج عن صمتها وتقر بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم والعيش بكرامة وبلا خوف ورعب. وهو ما ترجمته الاعترافات الدولية المتوالية من عديد كبريات الدول بالدولة الفلسطينية وخاصة الأوروبية في مشهد بدا وكأنه كرة ثلج تنحدر بسرعة نحو الدول الغربية، التي وجدت نفسها أمام حتمية الاعتراف بفلسطين بداية من إسبانيا والنرويج وسلوفينيا وإيرلندا مرورا بفرنسا إلى كندا...حتى بلغ عدد الدول المعترفة 159 بلد. ولكن الكيان الصهيوني، الذي انتقد بشدة هذه الخطوة، واصل مخططاته الاستيطانية والتهويدية ومساعيه لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم ليس فقط في غزة بل في الضفة الغربية المحتلة التي تئن تحت وطأة اعتداءات ممنهجة تجاوزت كل الخطوط الحمراء. الكيان الصهيوني وإيران وحرب 12 يوما وفتح الكيان الغاصب، الذي لا يكترث بالقانون الدولي، خلال عام 2025 أكثر من جبهة قتال أعنفها الهجوم غير المسبوق الذي شنه في 13 جوان الماضي على إيران بما أدى إلى اندلاع حرب دامت 12 يوما، شاركت فيها الولاياتالمتحدة لفترة وجيزة عبر توجيه ضربات إلى ثلاث منشآت نووية إيرانية رئيسية. وفي الوقت الذي تستبيح فيه إسرائيل باستمرار أراضي لبنان وسوريا، شنت أيضا غارات غير مسبوقة على قطر، بذريعة استهداف مسؤولين في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" كانوا مجتمعين في مجمع سكني في العاصمة الدوحة من دون أن تنجح في اغتيالهم. الصحراء الغربية.. امتحان مجلس الأمن الصعب في ظل التغيرات الحاصلة على مستوى النظام الدولي وفشل مجلس الأمن الدولي في احتواء مختلف بؤر التوتر ليس فقط في قطاع غزة، تأتي القضية الصحراوية لتكشف أيضا عن سياسة "الكيل بمكيالين" التي اعتادت الأنظمة الكبرى وخاصة الولاياتالمتحدة انتهاجها عندما يتعلق الأمر بمصالحها أو مصالح حلفائها. وقد تكون مساعي الإدارة الأمريكية المكشوفة لمنح الصحراء الغربية ك"هدية" على طبق من ذهب إلى المغرب، الذي انصاع في عهدة ترامب الأولى لاتفاقيات ابراهام وهرول للتطبيع مع إسرائيل، جعلت هذا المجلس وكأنه أداة في يد هذا الكيان لولا الجهود الدبلوماسية المضنية التي قادتها الجزائر ودول أخرى رغم قلتها لمنع انحراف المجلس عن أهدافه وصلاحياته. فشكلت هذه القضية، المصنفة لدى الأممالمتحدة في خانة مسائل تصفية الاستعمار، امتحانا صعبا لمجلس الأمن، الذي أصدر في 31 أكتوبر الماضي القرار رقم 2797، والذي حاول المغرب توظيفه لصالح مخططه ل"الحكم الذاتي" لكن مساعيه ذهبت سدا بعد أن جدد المجلس ولاية بعثة الأممالمتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية "المينورسو" عاما إضافيا، مع التأكيد على حق تقرير المصير، ليتغير مضمون قرار مجلس الأمن نحو دعم الشرعية الدولية بدلا من دعم الخطة المغربية. كما واصلت القضية الصحراوية، خلال عام 2025، تحقيق الانتصارات القانونية والدبلوماسية في مختلف المنابر الدولية بالرغم من مكائد ودسائس الاحتلال المغربي الذي يوظف كل الأوراق القذرة من تحالفات مشبوهة وشراء ذمم لتكريس الواقع الاستعماري في الصحراء الغربية المحتلة. ولعل أبرز الانتصارات التي حققتها القضية الصحراوية وبدأت تجني ثمارها في الأيام الأخيرة هي المكاسب القانونية في المحاكم الدولية، خاصة محكمة العدل الأوروبية، والتي قضت ببطلان الاتفاقيات المبرمة بين المغرب والاتحاد الأوروبي. وتراجع على إثر ذلك عدد الشركات الأجنبية المتورطة في نهب الفوسفات الصحراوي من 15 إلى أربع شركات فقط. وعلى المستوى الدبلوماسي، عززت الجمهورية الصحراوية حضورها الدولي بالمشاركة في محافل هامة كاجتماع وزراء خارجية الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي ومؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في إفريقيا "تيكاد "والتمرين العسكري "سلام شمال إفريقيا 3 "، وتوقيع اتفاقيات مع منظمات مثل "الساداك"، مؤكدة عضويتها الفاعلة بالاتحاد الإفريقي ورافضة للدعاية المغربية، وشهدت أيضا فعاليات دبلوماسية في الأممالمتحدة ومنظمات إقليمية عبر ممثليها. السودان.. الجرح الغائر دخلت الحرب المتواصلة منذ أكثر من عامين بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع خلال عام 2025 منعطفا خطيرا مع سيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشر في 26 أكتوبر الماضي بعد محاصرتها لمدة 18 شهرا. وأفادت الأممالمتحدة عن وقوع مجازر وعمليات اغتصاب ونهب ونزوح جماعي للسكان أثناء سقوط المدينة. ووصفت شهادات مدعومة بمقاطع مصورة، فظائع في المدينة التي كانت آخر معقل رئيسي للجيش النظامي السوداني في إقليم دارفور غرب البلاد. وأعادت هذه المجازر إحياء شبح حرب دارفور التي شهدت أسوأ الفظائع في مطلع القرن 12، بما دفع الأممالمتحدة إلى التحذير من إعدامات ترتكب على أساس عرقي على يد قوات الدعم السريع. وبعد سقوط الفاشر، أصبحت جميع عواصم ولايات دارفور الخمس تحت سيطرة قوات الدعم السريع. وامتدت المعارك إلى إقليم كردفان المجاور الذي يتنازع الطرفان للسيطرة على مواقع حيوية فيه، والذي يشكل صلة وصل استراتيجية. وتصف الأممالمتحدة النزاع في السودان ب"حرب الفظائع" وقد تسبب في مقتل مئات آلاف وتشريد الملايين، حيث تشير آخر إحصائيات المنظمة أن ما لا يقل عن 33 مليون سوداني بحاجة إلى المساعدات الإنسانية. المغرب.. تكميم الأفواه وتغلل الفساد لم يمر عام 2025 بردا وسلاما على نظام المخزن الذي شهدت جبهته الداخلية سلسلة من الاحتجاجات والمسيرات العارمة والحاشدة تارة احتجاجا على تدهور ظروف المعيشة وتارة أخرى ضد الفساد وتغوّله في دواليب السلطة وتارة ضد التطبيع ودعما لفلسطين وتنديدا بحرب الإبادة الصهيونية على غزة. وفي كل مرة كان نظام المخزن يتعامل مع هذه الحركات الاحتجاجية وفق مقاربة أمنية أكثر سوءا زادت في غضب الشارع المغربي، الذي لم تخفه آلة القمع الأمنية وراح شبابه ينتظمون في إطار حركة شبابية جديدة تحت عنوان "جيل زد"، قررت في 27 سبتمبر الماضي النزول إلى الشارع لقولوا "لا" لحكومة مغربية يبدو من خلال تصريحات مسؤوليها ومخططاتها أنها بعيدة كل البعد عن انشغالات وتطلعات شعبها. ولم يكتف نظام المخزن بقمع المحتجين بل يشن ضدهم حملة اعتقالات بتهم ملفقة ضمن مسعى واضح لتكميم الأفواه، لم يسلم منها شباب "جيل زد" الذي وجد العديد منهم أنفسهم داخل زنازين مع المجرمين لا لسبب فقط لأنهم جهروا بصوتهم عاليا من أجل حياة أفضل.