حرفة "التطريح" إرث يدويً يأبى الزوال فريدة حدادي تعد مهنة "الطراح" من أقدم المهن التي عرفتها الجزائر، فهي امتداد لثقافة عيش وصناعة فراش مريح من الصوف، كانت تحرص الحرائر على جمعه من "هيدورة الأعياد"، أو شرائه من عند أهل الاختصاص أو الرعاة، بعد جز النعاج، حيث تقوم بغسله وتنظيفه جيدا، ثم تعريضه للشمس، لتجفيفه جيدا، ويصبح جاهزا ليُشكَّل منه "مطرح" أو فرش للنوم أو الاستعمال في قاعة الضيوف، وكانت هذه الأفرشة رمزا للغنى في زمن ليس ببعيد، وكانت رفيقة العروس في الجهاز، إلا أن دخول أفرشة "الأرتوبيديك" العصرية، أزاح المهنة والفرش، ولم تحافظ عليه إلا القليل من العائلات في مناطق مخالفة. مهنة "الطراح" تختفي وسط هول الحداثة دفء يرحل من البيوت الجزائرية في قلب المدن الجزائرية، وعلى جدران البيوت العتيقة، كانت "مطارح الصوف" تقف كرموز لجمال حرفي أصيل، تروي قصة الدفء، الأمان والتقاليد، وكان كل بيت يعبق برائحة الصوف الساخن والمغسول حديثا، وكانت الأفرشة المطرزة يدويا، علامة من علامات الدفء والجمال، فلم تكن الأفرشة من الصوف مجرد أثاث يرمى على الأرض، بل كانت رمزا للحياة نفسها، كانت تعبر عن الانتماء، عن الفرح، وعن الاستعداد لمولود جديد، أو استقبال ضيف كريم، أو تجهيز العروس لبيت الزوجية، ومع ذلك، يقف هذا الإرث اليوم على مشارف الاختفاء، وسط عولمة تجتاح كل تفاصيل حياتنا، فتطوي صفحات الصوف تدريجيا، التي تخلت النساء عن استعماله، تاركا خلفه ذكريات عابرة ومهن تختفي يوما بعد يوم. كان الصوف، الخام الراقي والمظهر الريفي الفريد بخصائصه الطبيعية المميزة، يوما ما، مادة أساسية في كل بيت، ليس فقط لأنه متين، ولا لأنه يحتفظ بالحرارة شتاء، ويمنح البرودة صيفا، بل لأنه مادة من الأرض، حيث كان الصوف يغزل، ويمشط، ويطرز، وينسج، بأيد خبيرة تعرف أن كل خيط يحمل قيمة، وكل غرزةتحكي قصة، أما "الطراح"، فذلك الحرفي الصبور، كان ساحرا يعيد تشكيل المادة الخام، إلى فرش دافئ يضج بالحياة، يوقف البساط ويزين الوساد، ظلت مهنه لسنوات طويلة تتداول بين الأجداد والأبناء، لكن أين ذهب كل هذا؟ لماذا أصبح الصوف طيفا، والطراح ذكرى، والبيت بلا روح يطغي عليه طابع العصرنة، والأفرشة الاصطناعية من البوليستير، وغيرها من المواد المصنعة من الآلة. الجواب ليس بسيطًا، بل هو نتيجة تداخل معقد بين تغيرات اقتصادية، اجتماعية وتكنولوجية، فأول ما تغير هو نمط الحياة، وتغير فكر الإنسان، وتوجهه نحو حياة أكثر عملية وأقل شقاء، حتى وإن كان ذلك على حساب الصحة وراحة جسدية، فصارت الحياة سريعة، والطلب على المنتجات الجاهزة الفورية، أضحى أعلى من تقدير الحرفة اليدوية، هذا ما أشار إليه عمر، حرفي قديم مختص في إعادة تغليف الأرائك، ببلدية الحراش، المهنة الأخرى المهددة بالزوال في الجزائر، والتي لجأ إليها بعد أن تراجعت تماما أعماله في تطريح الأفرشة. إذ قال في هذا الشأن: "بات الناس يختارون الأفرشة المصنعة في المصانع الكبرى، المعلبة والمغلفة بالبلاستيك، تلك التي لا تحتاج إلى عناية خاصة، بذريعة أنها صحية أكثر ولا تسبب حساسية، أو بحجة أنها سهلة العناية، لا تتخللها حشرات القش أو العنكبوت المجهري، خاصة في المدن الساحلية، التي تتميز برطوبة عالية وحرارة جو، تكون بذلك تلك الأفرشة بمثابة بؤر للعثالذي يأكل الفراش والملابس، عند سوء العناية بها، بالتالي تجد الأسر نفسها مضطرة إلى التخلي عن تلك الأفرشة، مقابل أخرى صناعية أقل جودة بكثير، لكنها تضمن لهم غياب تلك الحشرات" . وأضاف أن "الطراح" كان يحتاج إلى أيام، وأحيانا أسابيع، لينتج مطرحة واحدة بكل تفاصيلها، فليس كما يعتقده البعض، أن عمله يقتصر على تطريح أطراف الأفرشة، لتتحول من كومة صوف إلى أفرشة متينة، وإنما عمله كان يتمثل في كل تفاصيل ودقة تلك الأفرشة، وكان حينها الصوف يباع داخل الشاحنات المتجولة بين الأسواق الشعبية، وكان يباع بالميزان في شكل أكوام، كل ذلك اختفى في عصر الإسفنج الصناعي، الذي اجتاح السوق في ظرف قياسي، استهوتها النساء لخفتها وسهولة حملها، لتنظيف ما تحتها، مشيرا إلى أن المقارنة مجحفة، لكنه واقع لا مفر منه في عصرنا هذا، فتلك موجة "الحداثة"، التي حولت الذوق العام من حب الطبيعي، إلى الانبهار بالمستورد، صار الصوف "قديما"، "ثقيلا"، وربما "غير عصري" في نظر الجيل الجديد. كما نبه عمر إلى أن ارتفاع سعر الصوف الخام، هو الآخر أدى إلى تراجع الإقبال عن تلك الأفرشة المصنوعة من الصوف، الزرابي، الأفرشة، أو البساط، وغيرها، هذا ما أدى إلى تراجع الإقبال على تلك القطع، بالرغم من جمالها وفرادتها، فمع غياب برامج دعم فعالة، ماتت تلك الحرفة أو جزء منها، ليبقى الجزء المتبقي مهددا بالاختفاء يوما بعد يوم.