بقلم: نقولا ناصر امتناع الولاياتالمتحدة عن إقامة علاقات دبلوماسية مع الشعب الفلسطيني تحت أي مسمى، سواء مع دولة فلسطين التي لا تعترف بها أم مع السلطة الفلسطينية التي تعترف بها، يفقدها صدقيتها في تأييد إقامة دولة فلسطينية.. عشية الخامس عشر من ماي، يوم الذكرى السادسة والستين للنكبة الفلسطينية، جمع لقاء بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وبين الرئيس الفلسطيني محمود عباس في العاصمة البريطانية لندن يوم الأربعاء الماضي على هامش اجتماع من يسمون أنفسهم (أصدقاء سوريا). وكان لافتا أن تقول المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية جن بساكي إن (الغرض من اللقاء هو بحث علاقتنا المستمرة مع الفلسطينيين). والعلاقات الفلسطينية مع الولاياتالمتحدة، بالرغم من الأزمات التي مرت بها، لم تنقطع، سرا وعلنا، قبل وبعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في (الشرق الأوسط) عام 1991، لكن واشنطن لا تزال تشذ عن معظم دول العالم في عدم إقامة علاقات دبلوماسية مع فلسطين. إن إشارة بساكي إلى علاقة بلادها المستمرة (مع الفلسطينيين)، وليس مع دولة فلسطين، أو مع السلطة الفلسطينية، أو مع منظمة التحرير الفلسطينية، تشير إلى أن الولاياتالمتحدة ما زالت تتعامل مع الشعب الفلسطيني كوجود ضبابي هلامي لا شكل له ولا عنوان، ربما حتى لا تضطر إلى تبادل العلاقات الدبلوماسية معه، بالرغم من الزيارات التي قام بها آخر ثلاثة رؤساء أمريكيين للقيادة الفلسطينية تحت الاحتلال، وبالرغم من استقبال الرئيس الفلسطيني الحالي عباس في البيت الأبيض ست مرات منذ عام 2009 في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما. وبالرغم من وجود تسعة وثلاثين بعثة دبلوماسية أجنبية معتمدة لدى السلطة الفلسطينية، منها بعثات لحلفاء الولاياتالمتحدة الغربيين في الاتحاد الأوروبي وكندا، وبالرغم من اعتراف مائة وأربعة وثلاثين دولة بفلسطين (دولة مراقبة غير عضو) في الأممالمتحدة في السابع والعشرين من سبتمبر الماضي واعتراف المزيد غيرها بمنظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، لا تزال الولاياتالمتحدة تدير علاقاتها (المستمرة مع الفلسطينيين) من قنصليتها في القدسالمحتلة المسؤولة مباشرة أمام (مكتب الأراضي الفلسطينية) بوزارة الخارجية في العاصمة واشنطن. واعتبارا من العشرين من جويلية عام 2010 رفعت الولاياتالمتحدة مستوى تمثيل بعثة منظمة التحرير في عاصمتها إلى (مفوضية عامة لمنظمة التحرير الفلسطينية) في خطوة وصفها في حينه المتحدث باسم خارجيتها آنذاك فيليب كراولي بأنها (رمزية) تسمح برفع العلم الفلسطيني على سطح المفوضية لكنها لا تمنح طاقمها حصانة دبلوماسية. إن امتناع الولاياتالمتحدة عن إقامة علاقات دبلوماسية مع الشعب الفلسطيني تحت أي مسمى، سواء مع دولة فلسطين التي لا تعترف بها أم مع السلطة الفلسطينية التي تعترف بها، لا يشير إلى حسن نية، ويفقد تأييدها اللفظي لإقامة دولة فلسطينية في إطار (حل الدولتين) الذي تدعو إليه أي صدقية. فتبادل التمثيل البدلوماسي مع الشعب الفلسطيني يمثل حدا أدنى لصدقية الولاياتالمتحدة في تأييد إقامة دولة فلسطينية، بينما يستمر استنكافها عن ذلك مؤشرا إلى وجود قرار أمريكي مدروس ومقصود بالاستمرار في التعامل مع وجود الشعب الفلسطيني كوجود ضبابي هلامي لا يستحق تبادلا دبلوماسيا كاملا. ومثل هذه المقاربة الأمريكية للشعب الفلسطيني تكمن في صلب الفشل الأمريكي المتواصل منذ ما يزيد على عشرين سنة في إدارة عملية تفاوض ناجحة تقود إلى حل الدولتين، لأن هذه المقاربة تقود حكما إلى الانحياز الأمريكي الكامل لدولة الاحتلال وتجرد الرعاية الأمريكية للمفاوضات من الحياد والنزاهة المفترض توفرهما في من يتنطع للقيام بدور الوساطة في أي صراع. في مقابلة لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في الثالث عشر من هذا الشهر مع آرون ديفيد ميللر نائب رئيس مركز ويلسون بواشنطن العاصمة والذي خدم لمدة عشرين عاما في الخارجية الأمريكية، تساءل ميللر عن السبب في فشل المبعوث الرئاسي الأمريكي جورج ميتشل والوزير كيري في (التوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين). وربما يوجد الجواب على تساؤل ميللر في تقرير لخدمة أبحاث الكونجرس صدر في العاشر من ديسمبر عام 2005: (إلى ما قبل فترة وجيزة، كانت الولاياتالمتحدة تعامل الفلسطينيين كواحدة من المشاكل التي عليها حلها في إنهاء النزاع العربي). الإسرائيلي وليس كمشاركين في عملية السلام ... ومنذ عام 1948 حتى حرب 1967 كانت الولاياتالمتحدة تنظر إلى الشعب الفلسطيني في سياق مشكلة اللاجئين وليس كحركة وطنية مستقلة في إطار (حماية أمن إسرائيل) واستمر ذلك حتى اعترف الرئيس الأسبق جيمي كارتر ب(الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني) وضمّنها اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وبين دولة الاحتلال عام 1978، لكن إدارة رونالد ريغان ارتدت عن هذا الاعتراف فعادت إلى التعامل مع الشعب الفلسطيني ك(لاجئين) و(إرهابيين). وعندما انعقد مؤتمر مدريد عام 1991 تعاملت (مع الفلسطينيين كجزء من الوفد الأردني وليس ككيان منفصل). ومنذ توقيع (إعلان المبادئ) (أوسلو) بعد عامين منحت الولاياتالمتحدة (الفلسطينيين ... شكلا من الاعتراف، لم يصل حد الاعتراف بدولة) لهم حتى الآن. وما زال السلوك السياسي والدبلوماسي الأمريكي محكوما بهذه الرؤية للشعب الفلسطيني ك(مشكلة) على الولاياتالمتحدة (حلها)، ولأرضه المحتلة كمناطق متنازع عليها يتقرر مصيرها بالتفاوض الثنائي مع دولة الاحتلال، وبطريقة (تنبذ العنف) في مقاومة الاحتلال في سياق الالتزام الأمريكي بضمان (أمن إسرائيل) كهدف نهائي. وما لم تتغير هذه الرؤية الأمريكية التي تستبعد أي حق للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية فوق أرضه بما يضمن حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف سوف تظل كل الجهود الأمريكية من أجل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع العربي _ الصهيوني في فلسطين محكوما عليها بالفشل. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يبدأ الشعب الفلسطيني في العمل على أساس ما كان يدركه منذ أمد طويل بأن الصراع هو في الواقع صراع عربي _ أمريكي في فلسطين بقدر ما هو صراع عربي _ صهيوني. والتبادل الدبلوماسي مع الشعب العربي الفلسطيني هو الخطوة الأمريكية الأولى لإقناع الفلسطينيين بالحياد الأمريكي وللتراجع الأمريكي نهائيا عن تلك الرؤية التي أطالت أمد الصراع، ولتدراك تطور وضع كهذا في العمل السياسي الفلسطيني. ومثل هذا التبادل الدبلوماسي كمقدمة عملية للاعتراف الأمريكي بوجود الشعب العربي الفلسطيني فوق أرضه، وبحقوقه الوطنية فيها غير القابلة للتصرف، وبحقه في تقرير مصيره بإرادة حرة فوقها سوف يكون المؤشر الأول إلى حسن نوايا الولاياتالمتحدة في الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وإلى صدقيتها في السعي إلى سلام عادل وشامل. فالشعب الفلسطيني ليس هو (المشكلة)، بل هي الاحتلال ودولته ورؤية راعيها الأمريكي. في مقال له نشرته (الأهرام ويكلي) في الثامن من الشهر الجاري قال مقرر الأممالمتحدة السابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، ريتشارد فولك، إنه (يوجد شيء أساسي ناقص في الدور المزدوج الذي تلعبه الولاياتالمتحدة في المفاوضات) بين منظمة التحرير وبين دولة الاحتلال، ليتساءل: (كيف يمكن الثقة عندما يعلن المسؤولوم الأمريكيون المرة تلو الأخرى أن بلادهم سوف تظل حليفا من دون شروط لإسرائيل، ومع ذلك لا تمنح في ذات الوقت إلا الحد الأدنى من الثقة للفلسطينيين بأنها طرف ثالث محايد يعمل من أجل سلام عادل؟)!