الشيخ: التواتي بن التواتي * موقفه من دعاة الاندماج ولبيان موقف الشيخ-رحمه الله تعالى-من الاندماج لا بد من التعرض للدوافع التي دعته إلى بيان موقفه منه: نشرت مجلة الشهاب مقالا لأحدهم يدعو فيه للاندماج فقال هذا القائل في دعواه: إن سياسة الاتحاد (الاندماج) قبر لنا وذلك لأن التمدن العربي الإسلامي مفقود من الجزائر ولا يسعنا أن نبقى على حالتنا الحاضرة. فرد عليه الشيخ-رحمه الله تعالى-: ونحن نقول: إن سياسة الاندماج هي القبر الذي لا نشر بعده وفقد التمدن العربي الإسلامي من الجزائر لا ينتج صلاحية الاندماج بل يوجب علينا أن نسعى في إحياء التمدن العربي الإسلامي وهذا التمدن الأوروبي الفرنسي الذي تراه لازما للأمة قد كان مفقودا أيضا من الجزائر ولم يزل مفقودا فما الداعي لترجيح تمدن بعيد عن دين الأمة وأخلاقها وعوائدها على تمدن هو المتفق معها في كلّ ذلك؟ إن الاندماج-كما قلنا- قبر لا نشر بعده فالعاملون بسياسته عاملون على انقراضنا والتحاقنا بالأمم البائدة ولم يبق لنا من وجود إلاّ في صفحات التاريخ ولا من ذكر إلاّ بأقبح ما يذكر به المارقون من دينهم وقوميتهم. ويختم الشيخ-رحمه الله تعالى- رده : والخلاصة أن سياسة الاندماج بعيدة في نفسها بعيدة عن الأمة فهي سياسة عقيمة والمنتصر لها غير حكيم. ونحن لا نرى في هذين الرجلين العظيمين كليهما: الشبح مبارك الميلي وهذا الداعي إلى الاندماج إلاّ الخير لأن كلا منهما اجتهد ويريد خيرا للجزائر والحديث الشريف: من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر الأجر ثابت لكليهما إلاّ أننا مع الرأي الذي يسعى إلى الثقافة العربية الإسلامية لا مع ثقافة الذوبان في الثقافة الفرنسية ورحمه الله محمد العيد آل خليفة إذ يقول في مثل ها المقام: خصمان فيما يفيد الأمة اختصما _ إياك أن تنقص الخصمين إياك كلاهما فِي سبيل الله مُجتهد _ فلا تذمن لا هذا ولا ذاك رابعا: -ودواعي تأليف كتاب تاريخ الجزائر أن أحدهم قال: بحثت في التاريخ عن قطر اسمه الجزائر فلم أجده فعكف الشيخ على كتب التاريخ القديم والحديث وترجم له بعض المثقفين من أهل الأغواط عن الكتب الناطقة بالفرنسية مما ساعده على جمع المادة وأخرج للناس كتابا في تاريخ الجزائر سلك فيه منهجية فريدة من نوعها قال عنها الشيخ: وعندي أن أحسن طريق يسلكها المؤرخ أن يضع بين يدي القارئ الحادثة التاريخية كما هي ثم يرشد إلى كيفية الاستنتاج منها وبذلك يكون المؤرخ نزيها في نقله والقارئ في مأمن من عثرة ذلك المؤرخ لأنه إذا غلط في نظره استطاع القارئ أن يدرك غلطه وقديما قيل: فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه وكثيرا من الناس لا يحسن الابتكار ولكن لا يفوته التمييز بين السليم والسقيم من الأفكار. انتهى كلام الشيخ-رحمه الله تعالى. وقال أحدهم منوها بصدور هذا الكتاب أي: كتاب تاريخ الجزائر: فالجزائريون كلهم مدينون لهذا الرجل بفضل لا يقدر ومن أقل ما يجازى أن ينفد ما طبع من كتابه في القريب ويعاد طبعه. انظر مجلة الشهاب. وقد كتب الشيخ الميلي رحمه الله تعالى: فقال: لم يبق اليوم وطنٌ من الأوطان يجهل أبناؤُه وغيرهم تاريخه غير وطن الجزائر فرأيت أن محو هذا العار بتأليف تاريخ هذا الوطن على ما فيه من صعوبة وعقبات صعبة التذليل فشرعت في العمل مستعينا بالله. ثم قال: ولم يصدني عن المضي في سبيل هذا العمل الشريف بتهذيبه بما يقرب للقارئ مطلوبه بترتيب لم أسبق إليه وهو يشتمل على أبواب....الشهاب جوليت 1931م ولم يقتصر نشاط الشيخ على مدينة الأغواط بل كان كثيرا ما يزور مدينة بوسعادة لإلقاء دروس الوعظ والإرشاد ووجد بين أهلها ترحابا وإقبالا على سماع وعظه وإرشاده وكانوا يترقبون مجيئه. وله مشاركة فاعلة بمدينة أفلو وهي مدينة بقرب مدينة الأغواط وأهلها كريم العنصر يكرمون الضيف إن نزل بساحتهم ونترك الشيخ يحدثنا عن هذه المدينة المضيافة فقال: أفلو قرية في آخر عمالة وهران شرقا جنوبيا تبعد عن الأغواط غربا بثلاثين ومائة ميل وكثيرا ما كان سكانها يدعونني لزيارتهم فلم يقدر الله تلبية دعوتهم إلاّ صحبة الأستاذ عبد الحميد باديس: وإذا بأفلو قرية متوسطة العمران في بسيط بأعلى جبل العمور قد رضِيَت عنه الطبيعة فحبَتْه بكل ما يَسْحِر الألبابَ ويضعُ العقلَ تحت حكم العاطفة فما شئت من مياه غزيرة عذبة تروق منظرا وتلذ مطعما ومن أشجار شديدة الخضرة باسقة الأغصان وارفة الظلال ومن هواء بارد صيفا جاف شتاء من الرطوبات لبعده من البحر وقربه من الصحراء. ثم يقول الشيخ: منذ أن سمي بأفلو ترجمانا شرعيا السيد عمارة مزيان فأخذ ينشر الفضيلة بسيرته ودروسه ثم أسس جمعية خيرية فوجد من أهل أفلو إقبالا عليها ومعاضدة له وهم كريم الأصل سريع الإجابة إلى المعالي. فدعت هذه الجمعية الخيرية الشيخ الميلي ليشاركها نشاطها الإرشادي فلبى النداء وشاركهم النشاط وقال عن مؤسس هذه الجمعية كلمة طيبة سجلها التاريخ: والشيخ عمارة مزيان من خريجي مدرسة الجزائر العليا ذو دين متين وفكر ثاقب وخلق سمح وهمة عالية يختلط بالناس ويلبس لباسهم ويظهر لهم في مظهر عالم ديني يعظهم ويعلمهم آداب دينهم فسر نجاح الشيخ عمارة مزيان في مشروعه راجع إلى إخلاصه ومحافظته على الزي القومي ومحافظة أهل أفلو على أخلاقهم العربية الأصيلة. وفي الختام: لا يسعني إلا أن أقدم الشكر لهذا العَلَم العالم الجليل شيخنا مبارك الميلي ولا أجد العبارة التي تليق بمقامه إلاّ ما شركه به شيخه وأستاذه ابن باديس في رسالة بعث بها إليه فقال: أخي مبارك: سلام ورحمة حياك تحية من عَلِم وعَمِل وعَلّم وقفت على الجزء الأول من كتابك تاريخ الجزائر في القديم والحديث فقلت: لو سميته حياة الجزائر لكان خليقا فهو أول كتاب صوّر الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية بعدما كانت تلك أشلاء متفرقة هنا وهناك وقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين. إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحياء الناس جميعا فكيف من أحيا أمة كاملة أحيا ماضيها وحاضرها وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها فليس-والله-كفاءُ عملِك أن تشكرك الأفراد ولكن كفاءَه أن تشكرك الأجيال وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرا وتلك سنة الله في عظماء الأمم ونوابغها ولن تجد لسنة تبديلا وأنا واحد من هذا الجيل بلسان من يشعرون شعوري أشكرك لأقوم بما علينا من واجب لا لأقابل ما لك من حق جازاك خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وإنصاف.