بقلم: فوزي حساينية* القضية الثالثة: نظرية الدوائر المتكاملة في مسألة الهوية لن أستعرض هنا بالتفصيل المقولات التي صاغها ابن باديس حول مسألة الهوية وهي مقولات لا تزال تبرهن على رَاهِنِيَة فكرية مُلْهِمَة وإنما سأكتفي بعرض الإطار العام الذي وضعه ابن باديس لقضية الهُوِيَةِ التي هي من أهم القضايا التي تناولها الإمام الراحل بالدَّرسِ والتحليل يقول في إحدى مقالاته: تختلف الشعوب بعضها عن بعض بمقومات شخصيتها وخصوصياتها تماما كما يختلف الأفراد فيما بينهم ولا دوام لشعب بلا دوام مقومات شخصيته..والهُوية الوطنية هي مجموع تلك المقومات وتلك الخصوصيات وهي اللغة التي بها يتكلم وفيها يتثقفُ والعقيدة التي يُقيم عليها أسس وُجُودِهِ وذكريات التاريخ التي بها يحيا وعلى نهجها يرسمُ مستقبلهُ وكذلك الإحساس الذي يشاطر به من له نفس المقومات والخصوصيات. اللغة والعقيدة وذكريات التاريخ والإحساس المشترك مقومات أساسية للهُوية في نظر ابن باديس ولا أحد يمكنه أن يدعي اليوم أن مقوماً من هذه المقومات يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه فكأن ابن باديس كان يكتبُ للمستقبل البعيد بقدر ما كان يكتب لحاضره المباشر المعيش ! وما يؤكد هذه الحقيقة ويبرزُها أكثر هي محاضرته الخالدة (لمن أعيش؟) التي ألقاها في جانفي 1937 وبسط فيها نظريته حول الدوائر المتكاملة في تحليل مسألة الهُوية فبعد أن يشرح أهمية القيم التي جاء بها الإسلام لمصلحة الشعوب والأمم قاطبة باعتباره الدين الذي وضع الدائرة المُثلى والسقف الأعلى للكمال الإنساني يقول: أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص..وأنا أشعر بأن مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لابد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال. نعم إن لنا وراء هذه الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها وأوصلنا إليها النفع والخير عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص. وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ماهما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد لغة وعقيدة وآدابا وأخلاقا وتاريخا ومصلحة. ثم الوطن العربي الإسلامي ثم وطن الإنسانية العام وما مثلنا في وطننا الخاص وكل ذي وطن خاص إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للإضرار بسواها ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان الأقرب فالأقرب. هذا معنى قولي أعيش للإسلام وللجزائر. الإمام يريد القول في تلك الفترة العصيبة أن الهُوية الجزائرية يستحيل أن يتوصل الاستدماريون إلى هدفهم في القضاء عليها لأنها فضلاً عن قوتها الذاتية محصنة ومحاطة بسلسلة من الحصون والقلاع العصِّيةِ على التدمير والاختراق ففي هذا المقال حدد ابن باديس وعدَّدَ دوائر النظر والعمل السياسي والفكري وهي دائرة الوطن الجزائري ثم دائرة المغرب العربي ثم الدائرة العربية الإسلامية ثم دائرة الإنسانية ككل فالإيمان الديني والبعد الوطني والنزعة الإنسانية القوية الراسخة لا تطغى على الفكرة المغاربية لدى ابن باديس الأمر الذي يُظهرُ أصالة فكره السياسي وتفردهِ. وقد لاحظ المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي أنَّهُ قد تم استخدام وتوظيف هذه النظرية من قبل العديد ليس من رجال الفكر فحسب بل ورجال الحكم والسياسة كذلك وهو ما نجده مثلا في كتاب فلسفة الثورة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي أشار فيه إلى دوائر العمل والتحرك المصري وقد سجل جورج طرابيشي وأقرَّ بأنَّ أول من صاغ نظرية الدوائر المتكاملة في تحليل مسألة الهُوية هو الإمام المصلح ابن باديس. و تعدُ هذه النظرية بواقعيتها وسُموِها الإنساني ضربة قاصمة لدعاة العنصرية والتفوق العرقي وصفعة مُوجعة لأنصار التمييز والقطيعة بين الأعراقِ والأجناسِ. القضية الرابعة: قضية العُروبة والأمازيغية تحتل العروبة كانتماء وكرؤية للذات والعالم مكانة مركزية في فكر وعمل إمامنا وكتاباته التي تناول فيها بالحديث العروبة وما يتصل بها من هموم تكشف عن أن باديس كان واعيا تماما لإرادة الفرنسيين في القضاء على أي صلة بين الجزائر والعروبة بل بين المغرب العربي كله وعروبته والعروبة في الفكر الباديسي انتماءٌ ديناميكي وقوة تفاعلية أخذاً وعطاء وليست مقولة جاهزة لقولبة الذات أو تصنيف الآخرين وهو ما أبرزهُ ابن باديس من خلال نظرته الفريدة لقضية الهُوية كدوائر متكاملة في صيغة اندماج تبادلي ويمكن الرجوع في هذا الصدد لكتاب ابن باديس وعروبة الجزائر للكاتب الراحل محمد الميلي ولكن ابن باديس الذي كان يُوقع العديد من مقالاته ب(الصنهاجي) والكتامي والزواوي كان واعيا بنفس القدر للبعد الأمازيغي ومدركا للدور الحاسم الذي نهض به الإسلام في بناء وشائج الوحدة والتماسكِ الذي لا ينفصم فقد كتب في فيفري سنة 1936 .. إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات إتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم.فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم ؟. والملاحظ أن هذا المقال قد حمل عنوانا مثيرا وذي رمزية بعيدة ما جمعته يد الله لن تفرقه يد الشيطان. فالعروبة والأمازيغية في فكر السيد الإمام اتحدا وامتزجا بإرادةِ التاريخ وقوته المستمدة من إرادة إلهية لا يمكن التحايل عليها أو إحباط توجهاتها وقد يرى البعض في مثل هذه القناعة التي أعرب عنها السيد الإمام بخصوص المصير الواحدِ المُوَحَدِ للعرب والأمازيغ حِسّاً رُؤْيَوِياً متافيزيقياً مُفارِقاً ولكنَّه في جوهره حِسّ واقعي يستند إلى قوة الحقائق التي أنشأتها القرون وأستطاع ابن باديس بعبقريته أن يضع يده عليها وأن يصوغها صياغة حية ويعيد بذلك إدخالها إلى دائرة الوعي الوطني وهي فوق ذلك قناعة تكشف بوضوح عن القوة الروحية الإيمانية التي توفر عليها رجل قُدر لهُ أن يتصدى لمأساة شعبه. وأختم هذا الحديث بالإشارة إلى بعض ما قاله المؤرخون ورجال الفكر في التجربة الباديسية ومن هؤلاء المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان الذي أعتبر أن ابن باديس بمنهجه وجهوده الذكية في التربية والإصلاح قد أصبح أقوى شخصية إسلامية في المغرب العربي أما الدكتور الأردني فهمي جدعان فقد خصص لجمعية العلماء المسلمين حيزا هاما من كتابه الفذ (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) مسجلا ومؤكدا من بين أمور أخرى كثيرة على حقيقة أن ما أنجزته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بريادة الإمام عبد الحميد بن باديس يمثل خير تمثيل الصورة التي يمكن أن تتخذها الدعوة إلى النهضة من خلال العلم والتربية الأخلاقية.. ونسجلُ هنا أن المجتمع الجزائري والمغاربي والعربي بهمومه التربوية والحضارية بل والإنسانية ككل تستطيع أن تجد في تراث ابن باديس بدائل مشرقة لمستقبل إنساني أفضل. إطار بمديرية الثقافة لولاية قالمة