بقلم: إبراهيم نوار بينما يدعو الخطاب السياسي العربي إلى استئناف المفاوضات بشأن الوضع في غزة تقوم الحكومة الإسرائيلية باستخدام كل الأدوات المتاحة لديها من القوة العسكرية إلى المنصات السياسية إلى القانون في تغيير الحقائق على الأرض في غزةوالضفة الغربية والقدس الشرقية. ويتكون الوضع المراد علاجه بالمفاوضات المتعلقة بالحرب في غزة من سبعة عناصر مترابطة داخل حزمة واحدة الأول والأكثر إلحاحا هو ضمان وصول الإمدادات الأساسية الغذائية والصحية والحياتية مثل الوقود إلى أهالي غزة المحاصرين. والثاني هو منع التهجير وتجريمه على التوازي مع تنظيم حملة عالمية دبلوماسية وقانونية من أجل وقف تلك الجريمة. والثالث هو منع إسرائيل من الاستمرار في حرق الأرض وتخريبها وإجبار السكان على النزوح بحجة أن المناطق التي يقيمون فيها هي مناطق عمليات عسكرية غير آمنة. والرابع هو إنهاء الحصار وفتح المعابر كافة وإنهاء كل القيود على حركة السلع والخدمات تحت إشراف الأممالمتحدة. والخامس هو وقف العمليات العسكرية تماما على الجانبين مع وجود قوة دولية لمراقبة وقف إطلاق النار. والسادس هو التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى والمحتجزين كواحد من إجراءات بناء الثقة تمهيدا للتوصل إلى ضمان استمرار التهدئة. والسابع هو الاتفاق على صيغة لسلام دائم عادل في ظل التهدئة وليس الحرب تتضمن حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام داخل وطن يتمتع فيه بالأمان وممارسة حقوق السيادة. *إسرائيل وتحوير المفاوضات نعني بتحوير المفاوضات استخدام أساليب المراوغة والغموض والتباس الخطاب السياسي بشأن المفاوضات وتغيير أهدافها وتغيير فريق المفاوضين. ويبدأ تحوير المفاوضات الجارية حاليا من تغيير الموضوعات وإعادة ترتيب الأولويات والتملص من الجدول الزمني الذي كان متفقا عليه في اتفاق وقف إطلاق النار الأخير الذي حصلت إسرائيل بمقتضى المرحلة الأولى منه على العدد المتفق عليه من المحتجزين لدى حماس ثم راوغت في الإفراج عن العدد المتفق عليه من الأسرى الفلسطينيين وحاولت فرض شروط جديدة ثم تملصت من الدخول في المرحلة الثانية لتبدأ عملية عسكرية واسعة النطاق لإعادة احتلال غزة بتعزيز التمركز العسكري في الشمال والعودة لاحتلال محور نتساريم وإقامة محور أمني جديد هو محور موراغ يفصل رفح تماما عن خان يونس وبقية القطاع وفرض حصار كامل على رفح وإنذار سكان خان يونس بإخلاء معظم أحيائها تمهيدا لعزلها. وربما تشمل خطة الحصار والعزل مدن القطاع كافة. ويبدو واضحا لكل من يقرأ الجغرافيا المحلية لقطاع غزة أن خطة إسرائيل تتضمن تقطيع أوصال محافظات القطاع كما فعلت سابقا في الضفة الغربية وتفريغه من الفلسطينيين من خلال جعله منطقة غير قابلة للحياة وشن حرب نفسية على السكان لإجبارهم على الرحيل والهجرة إلى الخارج ومواصلة حرب الإبادة مهما طال الوقت والضغط تكتيكيا بكل الطرق لاستعادة من يمكن استعادته من المحتجزين. *مفترق طرق تاريخي وفي تحوير المفاوضات يضع نتنياهو خطاً أحمر على وقف القتال ويسعى لتحقيق هدف واحد فقط هو استعادة المحتجزين. وهو يحلم بيوم يعلن فيه الجيش الإسرائيلي العثور على محتجز واحد أو أكثر على قيد الحياة أو حتى استرجاع جثة قتيل لتفعيل رسالته إلى أهالي المحتجزين وإلى العسكريين المطالبين بوقف الحرب بأن القوة وحدها هي الطريق لاستعادتهم. ويتضمن تحوير المفاوضات إطلاق خطاب سياسي يبدو شكليا وكأنه حاضن للمفاوضات لكنه يتملص منها عمليا ويتخذ طريقا لتجميدها وتحويلها إلى مجرد عملية شكلية عقيمة مع التركيز على محاولة استعادة المحتجزين بالقوة لحرمان دعاة التفاوض من أي فضل في استعادتهم. وقد كان تعيين وزير الشؤون الاستراتيجية رون دِرمر صديق نتنياهو المخلص لرئاسة فريق المفاوضات قبل بداية المرحلة الثانية محطة مهمة من محطات تفعيل خطة تحوير المفاوضات وتقليص دور قادة الأجهزة الأمنية المختلفين مع نتنياهو. وقد عمدت إسرائيل منذ البداية إلى جعل تبادل الأسرى والمحتجزين هو قلب عملية المفاوضات وموضوعها الرئيسي كما تجاهلت هدف إنهاء الحرب وترتيبات ما بعدها معتبرة أنه اختصاص إسرائيلي تفعل فيه ما تشاء. ومن ثم فإن هدف المفاوضات الحصري من وجهة نظر حكومة نتنياهو هو استعادة المحتجزين وذلك لتعزيز قوته السياسية الداخلية وضمان فوزه في الانتخابات العامة التي يحل موعدها في أكتوبر من العام المقبل ما لم يقرر إجراء انتخابات مبكرة في حال نجاحه في استعادة المحتجزين بالقوة. *اتساع تيار رفض الحرب بين العسكريين رغم كل المجازر الوحشية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية يوميا وحرب الحصار والتجويع وأوامر الإخلاء والترحيل التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة يوميا فإن الجيش الإسرائيلي يدرك أنه لا يستطيع الاستمرار في احتلال غزة وإدارتها بلا خطة سياسية لإنهاء الحرب. وقد سرب موقع واي نت يوم الإثنين الماضي أن الجنرال إيال زامير رئيس الأركان أبلغ أعضاء مجلس الوزراء الأمني المصغر بضرورة التخلي عن بعض أوهامهم مثل السيطرة على غزة وذلك نظراً لنقص الجنود المقاتلين وحقيقة أنه حتى في العملية الحالية ضد حماس تعتمد الحكومة فقط على الجيش الإسرائيلي وليس على تحرك دبلوماسي مُكمِّل . وذكرت صحيفة جيروساليم بوست أن عددا من أعضاء لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست ربط بيان زامير بفشل الحكومة في زيادة أعداد المجندين من السكان الأرثوذكس المتشددين. ويعتقد رئيس اللجنة يولي أدلشتاين المقرب من نتنياهو أن دولة إسرائيل تحتاج إلى جيش أكبر لمواجهة جميع أعدائها وهزيمتهم كما يحتاج جنود الاحتياط إلى جيش أقوى للقيام بمهامهم المدنية والعسكرية. وكان رئيس الأركان المشتركة السابق للقوات الأمريكية تشارلز براون قد وصف استراتيجية إسرائيل العسكرية في غزة بأنها فاشلة لأن القوات تعود إلى القتال مرة بعد المرة في مواقع كانت قد انسحبت منها بعد أن حاربت فيها وسيطرت عليها كما زعمت. الحقيقة هي أن المعضلة التي تواجهها إسرائيل ليست حاجتها إلى جيش أكبر وأقوى وإنما المعضلة هي أن هذا الجيش يحارب في سبيل قضية خاسرة وهي إبادة شعب آخر وأن هذا الشعب يمتلك إرادة قوية للصمود رغم الحصار ونقص العُدّة والعدد والخسائر البشرية بين المدنيين نتيجة المذابح الرهيبة التي ترتكبها القوات الإسرائيلية كل يوم. وقد أدرك إيال زامير الآن فقط أن قواته لا تحارب حماس فقط وأن جنوده لن يمكنهم القيام بالمهمة التي وضعها نتنياهو. ويجد الجيش الإسرائيلي نفسه حاليا في مواجهة أزمة جديدة تتجلى في عرائض وقع عليها مئات العسكريين ومنهم قيادات كبيرة سابقة تطالب بضرورة الإسراع بوقف الحرب واستعادة المحتجزين عن طريق التفاوض. وقد سجلت الأيام الأخيرة (حتى يوم الإثنين الماضي) نشر ثلاثة عرائض بواسطة عسكريين في سلاح الطيران والوحدة 8200 للعمليات السرية وبرنامج تدريب النخبة العسكرية. وتتفق هذه العرائض على تقديم أولوية التفاوض على استمرار الحرب لاستعادة المحتجزين حتى لو كان الثمن هو وقف الحرب ووضع ترتيبات جديدة لضمان الأمن والسلام وتعتبر أن الحرب لم تحقق أهدافها المعلنة. وفي محاولة لوقف انتشار الاحتجاجات على استمرار الحرب بواسطة العسكريين من جنود وضباط قوات الاحتياط فإن رئيس الأركان أصدر أمرا بتسريح أكثر من 100 من جنود وضباط الاحتياط في سلاح الطيران من الخدمة العسكرية لأنهم شاركوا في التوقيع على عرائض الاحتجاج التي تولت الصحف العبرية نشرها. وفي حال اتساع نطاق تيار المطالبة بوقف الحرب بين العسكريين فإن الجيش لن يكون قادرا على الاحتفاظ بأي موقع لمدة طويلة في غزة ما يعني أن عمليات القصف الجوي تصبح بلا جدوى غير الاستمرار في حرق الأرض وقتل الأرواح البريئة. وعلى ضوء ذلك فإن مصداقية الاتصالات الجارية بشأن الحرب في غزة ترتبط بوقف تغيير الحقائق على الأرض وإنهاء السياسات التي تضع المستقبل الفلسطيني بأكمله على حافة الهاوية وتجعل إقامة دولة فلسطينية مسألة غير عملية أو مجرد حلم لا سبيل إلى تحقيقه. لقد وصلت المواجهة بين المقاومة الفلسطينية والحكومة الصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل إلى مفترق طرق تاريخي يفصل بين مسارين الأول هو سلام الحق والثاني هو سلام القوة . وإذا نظرنا إلى خريطة الاصطفاف العالمي فإننا نرى أن قوى سلام الحق المؤيدة للمقاومة تعبر عن نفسها شعبيا ونظاميا في كل مكان تقريبا حتى في الولاياتالمتحدة التي منحت حكومتها الحالية صك تأييد مطلق وغير مشروط لإسرائيل في استخدام القوة ضد الفلسطينيين إلى حد الإبادة ودعت رسميا إلى تهجيرهم من وطنهم. ومن غير المقبول أن تمارس بعض الدول العربية دبلوماسية التواطؤ مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني بدلا من الضغط لمساعدتهم على استمرار الصمود إنسانيا وعسكريا.