مراصد إعداد: جمال بوزيان توثيقا لإبداعات أهل القلم خواطر الكُتاب.. أبعاد لا تنتهي تَرصُدُ أخبار اليوم الإبداعات الأدبيَّة وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ أهل القلم مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ. حوار مع شيطاني أ.عبد العالي لعجايلية - الجزائر في ليلة تلبّدت فيها الغيوم كأنها أفكار مظلمة تتربص بالعقل وجدتني وحيدًا بين دهاليز الوجود غارقًا في بحر من التساؤلات. فجأة ظهر شيطاني كظل مشؤوم يُلاحق أطياف الروح. جلس أمامي دون دعوة بابتسامة خبيثة تُعري نواياه. قال بصوت هادئ كالسُمّ الذي يسري في العروق أنت يا صديقي تبحث عن الحقيقة لكن هل فكرت أن الحقيقة نفسها قد تكون مرآة مشروخة؟ . نظرت إليه مستفهمًا لكنه تابع قبل أن أتمكن من الرد لا أكذب لكنني أُلبس الحقائق ثوبًا من زيف مُزخرف. أسلك الدرب ذاته ولكن بخطوات ملتوية. لا أحتاج أن أغشّك بالكذب الصريح فأنت مَن يغفل حين أُريك ما ترغب في رؤيته . كان حديثه كالسيف ذي حدين يقطع في عمق الفكر ويترك الروح تبحث عن شقوق بين الحقيقة والوهم. استحضرت في ذهني التحذير الأزلي: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. تذكرت كم حذّرنا الله منه وهو العدو الذي لا يكلّ ولا يملّ. فقلت له برباطة جأش ولكنك تعلم كما أعلم أن الله موجود وأن اليوم الآخر آت لا محالة فأنت لا تنكر الحقيقة. ضحك ضحكة ممزوجة بالخبث والإذعان وقال: بالطبع أؤمن بالله واليوم الآخر وأعرف أن الحساب قادم. لكن هذا هو سر التحدي تحد أبدعه بإغواء البشر ليس بالكذب بل بتزيين الحقائق حتى تغدو السراب الذي تظنه ماءً. أقدم لهم ما يليق بأوهامهم وأراقبهم وهم يغرقون في بحارها . كانت كلماته كالشباك التي تتربص بالفريسة. قلت له: لكن الحق نور وإن غلفته بألف حجاب سيبقى منارة تنير طريق السالكين. الحقيقة لا تُخفى بزخارف زائفة فأنت تغلف الباطل ليبدو كالدرر لكنك لا تقدر على تغيير جوهرها . هنا ارتسمت على وجهه ابتسامة مريرة كأنها نبتة تخرج من أرض بور وقال بنبرة شبه ساخرة: نعم حذركم الله مني وجعلني عدوكم ولكن كم من البشر ينصتون لذلك النداء؟ أنا لا أجبرهم على اتباعي بل أفتح لهم أبوابًا يرغبون في دخولها. الحق مرّ والباطل حلو والكثيرون يفضلون الطعم الحلو حتى لو كان مسمومًا . كلماته كانت كالسيف المسلط على القلب ولكنني استدركت أن الحق باق مهما كانت زينة الباطل براقة. قلت له بنبرة واثقة مهما زخرفت الزيف سيبقى الحق هو الحق والحقيقة تنير العقول التي تسعى لها حتى لو كانت الطريق إليها مليئة بالأشواك . ألقى عليّ نظرة طويلة كأنها مطرقة تحاول كسر الإرادة ثم قال: ربما... لكنني أعلم أنني سأغوي الكثيرين قبل أن يدركوا الفرق بين الحق والباطل. أنت يا بني البشر غالبًا ما تبحثون عن الحقيقة التي تناسب رغباتكم وليس الحقيقة التي تتحدى عقولكم . ثم تلاشى في الظلام كأنه لم يكن تاركًا إياي وحيدًا مع أفكاري المتناقضة. أدركت حينها أن الصراع ليس مع الخارج فحسب بل مع الداخل. الشيطان لا يسكن في زاوية مظلمة خارج أنفسنا بل يتغلغل في تلك اللحظات التي نشك فيها التي نبحث فيها عن راحة مؤقتة بدلًا من السعي نحو النور الحقيقي. الحقيقة كالشمس مهما غطتها السحب ستبقى تشرق من جديد لكن علينا أن نرفع رؤوسنا ونرى النور بوضوح. --- رُقعةُ الشطرنج أ.زليخة زلاقي - الجزائر أتعبتْني روحي المثقلةُ بالأفكار والمثاليات وأجهدتني نفسي الشغوفةُ بالأدب والفلسفة والتاريخ ورحت أطوي أوراقي وأضع دواتي ومحبرتي وفكري ووجداني في درج مكتبي وعزمت بكل رباطة بأس أن أنعتق... ولذت بالخروج حتى أني لم أحمل حقيبة يد خرجت وذاتي المنعتقة نجوب ونجول كنت أطوي المسافات وفي فمي دندنات الأطفال... كنت أسير إلى اللا مكان واللا زمان.. وخلتني أخف من ريشة تتجاذبها النسمات. وأجمل من زنبقة تتراقص بين الرياحين... وأكثر طلاقة من غزال فتِيّ بين الروابي. واستبدت بي النشوى وأدركت أني أضعت عمرا وعمرا بين كتبي المكدسة وأقلامي المشحذة... في عز انعتاقي ونشوتي طرقت كلماتٌ صاخبة أذناي صوت خرق صمتي وسكوني بلا استئذان. هو ذاك المترقب المتربصُ للحظةِ فراري من عقلي ومن رتابتي ورزانتي... وكعادته استوقفني حاملا حقيبته التي يحمل فيها سؤددَهُ مكانتَهُ هيبتهُ.. هي رقعة الشطرنج اللعبة التي لا يضاهيه في تملك التفرد فيها أحد من أقرانه. اللعبة التي لطالما كسب كل الرهانات فيها لدرجة أنه فقد شغف المتعة بها فقد أصبح الكسب روتينا فما أتعس حاله وهو المنتشي بالزيف والسراب. صوت رفاقي الذين جاء بهم قدر ما وبدأت أصواتهم تتعالى لتشوش دندناتي الطفولية وتُذْبِل زنبقتي وتأسر غزالي.. وتعيدني لأسري وعبوديتي.. ووجدتني بينهم كالمحارب الذي اقتادوه للحرب بلا سلاح وكل الذي بين ناظري رقعة الشطرنج وعلى أن أكسب ليفوز... تأففت في داخلي وتحسرت على ضياع سعادتي التي دامت لبضع زمن... لكن ربما تكون للزمن الجميل بقية أستدركها بعد وقت مستقطع أضع فيه حدا لانتصارات متتالية... أطرق الجميع واشرأبت أعناقهم وحدقت أبصارهم وأصبح المكان كله حلبة لمتراهنَيْن... والعجيب في المباراة أن جميع من حضر يشجعني أنا... حتى هو... كل الذي أعرفه عن الشطرنج أنها لعبة عقل ويجب أن تظل يقظا وألا تغفل أو تتغافل فأي انتكاسة هي خسارة بطعم العلقم. بدأ يحرك بيادقه وقلاعه ووزارءه بغير هدى وكأنه مبتدئ لم يذع صيته... ولم تسمع له قهقهات استهزاء كان يطلقها بعد كل انتصار. أما أنا فكنت أتصنع التفكير والتدبير قبل كل خطوة لأنه يتوجب علي أن أحسن تقمص الدور في هذه المسرحية التي كتبت منذ سنين واليوم فقط حان وقت العرض. أنا أجهل كل شيء عن هذه الرقعة إلا شيئا واحدا وهو أن الملك إذا بقي ثابتا سيحاصر. حاول استدراجي لتغيير مكان الملك لكنه عبثا حاول وبعد مد وجزر اقتاد ملكي وأعلن أنتصاره وخسر الرهان الذي كان هذه المرة خسارته وفوزي ليظهر لي أني كسرت شوكته وسؤدده وكان المفروض أن يهنئني لأني فزت عليه ويتملكني بالثناء المزعوم فأظل مَدينة له منجذبة إليه.. وقفت في ساح معركتي وأعلنت خسارتي بشموخ ومن غير ما تفكير أسرعت لبيتي وأخرجت أقلامي ومحبرتي وأوراقي وكتبت: كل الرهانات خاسرة في قاموس المحبة فإذا ما أردت أن أغدقك بمحبتي لا تراهن.. لأني ساعتئذ سأراهن نفسي على خسارتك.. في هذه اللحظة لحظة كسبي رهان خسارته حملت أقلامي وكتبي وأوراقي ورحت أضمها وأحضنها وأعلنني خاسرة أمامها. فالكتابة عندي دائما ما تكسب كل الرهانات. --- أحلام وردية أ.زليخة زلاقي - الجزائر سأظلُ بأحلامي البريئةَ داخِلَ بلَّورَتي أرقب العالم الذي رسمته جميلا.. سأكبر وَأحلأمي هنا. سأتراقَصُ على سمفونياتِ بيتهوفن كفراشة دؤوب نهارا وأغفو متى غلبني التعبُ مساءً.. وأصحو على صدى آذان وتراتيلِ وتسابيحِ الصلاةِ فجرا.. سأظل أغفو وأصحو بين أحضان بلورتي.. عالمي الجميلُ. لكن لست أدري ل مَ تصلُني حَشْرَجَاتُ أنفاس حائرة ..؟! ذبذباتُ تأَوُّهات موجعة .. لست أدري لِم أَشُمُّ ريحَ الغدر وألمح نظرات حقد بين الوجوهِ الضاحكةِ؟! لست أدري لِم تَخْرِقُ قَهْقَهَاتُ النفاقِ صدى سمفونياتيِ وتسابيحِي؟! ما بالها بلورتي تَعجُ بضجيجِ العالم الذي حسبته جميلا؟! هل تُراهُ عالمي غدا مخيفا؟! هل تُراني حين رسمتُ لوحتيِ عبثت بالألوان؟! هل تُراني حين حلمتُ تَناسَيْتُ أن بعضَ الأحلامِ أضعاثٌ؟! بلورتي الجميلةُ.. حينَ رسمتُ كنتُ بريئةً وكانت أحلامي ورديةً وسأَظَّلُّ وستظلّ.. سأغفو داخلك بأحلامي وأُطْبِقُ نفسِي عن نفسي..! وأصُم آذاني كي لا تسمع صدى حشرجات وأنين الحيارى..! وأغمض أجفاني كي لا أرى تجَاعيدَ المُتأَوهينَ..!. --- وحدي أ.سميرة زايدي - الجزائر لا أجيد الهرب لا أجيد الفرار.. انتقيت المواجهة كآخر قرار.. فوحدي أصارع ولا كتف لي وفؤادي بين ضلوعي جنازة.. وحدي بها أحبو أركض أسير وكلي انتحاب.. فوحدي أحن أشتاق أتألم كإبل دون راحلة.. أتصبر أكوى أشقى أذوب كشمعة أهلكت بفتيلها. أئن أشعر أفيض دموعا كبركان.. أثور. أهدم أكسر أحرق كجمرة منطفئة أحمد. أسود أتلبد أمطر كسيلان ماء أروي.. أسير أجف أتوعد كغيمة ملبدة أرعد.. فوحدي أكون.. ووحدي لا أكون.. لا أجيد الهرب من النفق المثقوب في جوفي.. أستمتع أستطيب أستلذ برنين الخوف.. أضع عيني في عين جرحي وأتركه يتصبب ينهمر ينسكب حتى ينمحي.. لوحدي.. أكتنف أطوق أحاصر جذوة الهوى بشظايا التجاهل ريثما تنطفئ. لوحدي أعيد قراءة حروف تناثرت تشتتت تبعثرت نيازكها على جسدي الترابي فأمكث أتحسسها حرفا حرفا.. أتحسس وخزها حتى يمل الحرف مني فيصيبني البرود التثلج التصلب التبلد.. أتأمل الذكريات مئة مرة.. وأتركها تلسعني تلدغني تجرحني ريثما تصبح سرابا.. لوحدي أنصت أسمع أصغي نغمة الأذى كي أهزمه بكبرياء أنثى سرمدية.. أتأمل الغلام حتى ينتهي الهوى الوجد الصبوة التتيم فأنزعه بقبضة فولاذية.. فوحدي أعالج نفسي بالمواجهة بالمجابهة بالمعارضة.. فأنا وردة بقلب مكلوم تتفتح وسط عاصفة قوية.. تخطو تتباطأ تهرول تركض عكس تيار العبودية.. لا تحب ما يحدث ولا يحدث ما تحب أنا لا أجيد الهرب حتى يولج يتوغل يترشح النسيان في عروقي الندية.. فالجميع يريدوننا بنسختنا البهية ويهجروننا إن استوطنتنا الندوب النفسية فالظلام لنا وحدنا. ------- جيل قبل الزر الأزرق! عتيقة بنيني - الجزائر كبرنا قبل أن تخترق الشاشات كل زاوية من زوايا البيت.. نحن جيل التسعينيات جيل كان يركض وراء الكرة لا وراء الإشعارات. لم نكن نملك هواتف ولم تكن هناك تطبيقات ترسل إشعارات كل دقيقة أو أقل كانت أمّهاتنا الإشعار الوحيد حين يعلو صوتها من الشرفة: ادخل أذان المغرب! . فنركض نحو البيت وكأن الشياطين فعلاً طلق سراحها. نحن الجيل الذي كان يصنع الألعاب من العدم: عجلة دراجة قديمة تصير مقود سيارة وعصا تصير سيفا وعلبة معدنية حلبة سباق.. لم نكن نحتاج أكثر من حجر وطبشورة لنرسم لامارين على الأرض ونبدأ مغامرة اللعب. كنا نطرق أبواب أصدقائنا صباحا: هيا للمدرسة! نمشي جماعات نضحك في الطريق نُحضر أعذارا جماعية إذا نسينا الواجب كنا نتشارك كل شيء حتى أسرارنا الصغيرة. حفلاتنا كانت في حديقة أو على سطح أحد البيوت تكفينا قارورة مشروب غازي وبعض رقائق البطاطا لنشعر أننا في عرس. أما الخروج لتناول وجبة فكان حدثا نادرا يكافأ به المتفوق في الامتحان. لم تكن صورنا مثالية كانت مغبرة مهزوزة وبدون فلاتر لكنها مليئة بالحياة. لم نكن نعرف كيف نلتقط الزاوية الأفضل كنا فقط نبتسم بعفوية... أو لا نبتسم على الإطلاق. أعيادنا كانت ملونة ملابسنا تخاط خصيصا لنا والحذاء الجديد يرافقنا لأشهر. لم يكن المال كثيرا لكن الفرح كان كبيرا. لم نسمع حينذاك بكلمات مثل اكتئاب أو قلق اجتماعي كان يطلب منا أن نكون أقوياء أن نتحمل وأن ننهض عند السقوط . كبرنا ولم نعد نلعب في الشوارع لكننا نحمل روح اللعب في ذاكرتنا. كبرنا وعرفنا أن البساطة لم تكن فقرًا بل كانت غنى من نوع آخر. نحن جيل عاش الحياة قبل أن تصبح رقمية . نحن جيل يتنفس حنينًا كلما سمع صوت أشرطة الفيديو أو شم رائحة كتب المدرسة القديمة. نحن... آخر جيل عرف قيمة الأشياء البسيطة قبل أن يسرقها الضوء الأزرق.