مراصد إعداد: جمال بوزيان اللسان العربي سادس لسان عالمي رسمي في هيئة الأممالمتحدة فرنسا ما تزال تحارب حامل القرآن بأكثر من وسيلة تَرصُدُ أخبار اليوم مَقالات فِي مختلف المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ. ///// اللغة العربية بين التقديس والتدنيس * أ.د.جمال حجيرة اللغة وسيلة للتواصل بين الأفراد والشعوب وكل أمة تعتز بلغتها وتعدها مكونا أساسيا من مكونات الهوية ومن تخلى عن لغته لا يختلف حاله عمن بتر عضوا من أعضائه فإما أن يموت أو يصاب بعاهة واعاقة مستدامة ويقول الرافعي: إن اللغة إذا ذلت ذل أهلها ولذلك يعمل الاستدمار على طمس لغة الدولة المحتلة كي يمحو ماضيها ويعيقها عن التفكير في مستقبلها فاللغة كما أنها وسيلة تواصل فهي أيضا لغة التفكير والتخطيط للمستقبل . واللغة العربية من اللغات العالمية التي تم اختيارها في 18 ديسمبر 1973 م بصفتها لغة عالمية سادسة رسمية في هيئة الأممالمتحدة وفي 2012 م اختارت منظمة اليونيسكو هذا التاريخ يوما عالميا للغة العربية وقبل أن تكون العربية لسانا عالميا يتكلم به أكثر من 460 مليون إنسان فهي لغة القرآن الكريم والسنة النبوية فالدين الإسلامي لا يمكن فهمه واستيعاب مضامينه إلا بواسطة اللغة وقد أدرك الاستدمار ومدارسه الاستشراقية هذه الحقيقة فوظفوا مجهودات جبارة لمحاربة العربية والقضاء عليها بوسائل مختلفة. لقد تمتعت اللغة العربية في عصور الإسلام الزاهرة بقيمة عظيمة وقداسة بالغة أخذتها من قداسة الدين نفسه فاللغة وعاء النص المقدس بحيث لا يمكن الفصل بين القرآن الكريم والسنة النبوية وبين اللغة العربية وما يقال عن القرآن والسنة يقال عن العلوم الأخرى التي تخدم هذين الأصلين العظيمين كعلوم القرآن وأصول الفقه والتفسير والمقاصد وهذا التصور لعلاقة اللغة بالدين هي التي جعلت أبا الريحان البيروني وهو فارسي يقول: والله لئن أُهجَى بالعربية أحب إلي من أن أُمدَح بالفارسية ومن قبلها كان عمر بن الخطاب يقول: تعلموا العربية فإنها تورث المروءة وكان مالك بن أنس يأمر بإخراج من يتكلم بغير العربية من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتراما وتقديرا للغة القرآن ويرسم أبو منصور الثعالبي صورة منطقية متسلسلة عبارة عن مقدمات منطقية تنتهي بالضرورة والتلازم كل مقدمة إلى التي تليها فيقول: من أحب الله أحب رسول الله ومن أحب رسول الله أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية ومن أحب العربية سعى إلى تعلمها. كانت اللغة العربية عند المسلمين الأوائل مكونا رئيسيا في حياتهم حتى أنك تشعر أن العربية دم يسري في عروقهم وهواء يتنفسونه وماء عذب يشربونه وكما يموت الإنسان إذا فقد الهواء والماء والدم من عروقه فهؤلاء كذلك إذا فقدوا شيئا من اللغة وليس كل اللغة فقدوا حياتهم فهذا أبو بشر عمر بن عثمان الملقب سيبويه رجل فارسي ولد بفارس ومعنى سيبويه بالفارسية رائحة التفاح كان أعجميا وعند ما ذهب يدرس الحديث على شيخه سلمة بن حماد قال له: أنت تلحن كثيرا ولا تعرف العربية فترك مجلس الحديث وأخذ يتعلم العربية فتتلمذ على الخليل بن أحمد الفراهيدي وورث علمه وأخرج للناس كتابه في النحو الذي سماه البعض قرآن النحو ولا يزال صداه قويا مدويا في سماء النحو العربي دون منازع لقد مات سيبويه وهو شاب قيل لم يبلغ الأربعين من عمره وقيل تجاوزها بقليل قتلته العربية التي أشربها في قلبه فصارت روحه الثانية التي يتحرك بها وإن شئت فقل قتلته لعبة السياسة بسلاح اللغة كيف ذلك ؟. استدعى يحيى بن خالد البرمكي إلى قصر الخلافة في بغداد سيبويه ليناظر الكسائي في بعض مسائل النحو ومنها ما يعرف في تاريخ النحو ب المسألة الزنبورية قال الكسائي ل سيبويه : (يا بصري تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعا من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها) فقال سيبويه : (فإذا هو هي) فقال الكسائي : (الوجهان جائزان). واختلف الرجلان فقال يحيى: (لقد اختلفتما فمن يحكم بينكما). فقال الكسائي : (الأعراب الواقفون على بابك). فدخل الأعراب فصوبوا الكسائي وخطؤوا سيبويه مع أن الحق كان معه والقرآن إلى جانبه فإذا الفجائية يأتي بعدها المبتدأ والخبر يقال إن لعبة السياسة أثرت في اللغة وقتلت سيبويه فالأعراب مالوا ل الكسائي لدوافع سياسية باعتبار الكسائي قريبا من قصر الخلافة فخرج سيبويه حزينا كئيبا وعاد إلى بلاده فارس فمات فيها حزنا بسبب ما تعرض له وهو الذي يروى عنه أنه قال: أموت وفي قلبي شيء من حتى . وتأثير السياسة على اللغة لا يختص بالعربية فقط فحرف الغين في الفرنسية مثلا يرجع إلى ملك فرنسا لويس الرابع سنة 1314 م الذي لا يحسن نطق الراء فينطقها غينا وحتى يخرج من هذه الأزمة اللغوية أصدر مرسوما ملكيا بتحويل الراء إلى غين ومنع الفرنسيين من النطق ب الراء فاستطاع بمرسومه الملكي أن يمحو هذا الحرف من الفرنسية. وأما حال العربية الآن فصار كالثكلى التي تندب فقيدها وكاليتيم الذي لا نصير له فهي تعيش الغربة في أهلها غزتها العامية والعجمَى والرطانة والعبارات الأجنبية فقدت بريقها ولمعانها وجاذبيتها وقداستها فأكثر أهلها يجهلون نحوها وصرفها وبلاغتها ولا يجيدون نطقها دون لحن ولا يفهمون مراد الله ورسوله كثير منهم يعيش هزيمة ثقافية من خلال نظرته المدنسة للعربية فهي لغة العربي الوافد علينا عند بعض المتطرفين ولغة الشعر الجاهلي الذي فعل عنه الزمن عند البعض الآخر ولغة التخلف في مقابل لغة التقدم والحضارة كالفرنسية والإنجليزية عند فريق ثالث وهكذا وحالنا الآن مع العربية يشبه حال امرأة قريبة من سيبويه سألها يوما عن أبيها فقالت: مات منذ أيام . فقال سيبويه (فما كانت علته؟). فقالت: ورمت قدميه . قال سيبويه : بل قولي ورمت قدماه . فقالت: ثم ارتفع الورم الى ركبتاه . فقال سيبويه : (بل قولي: إلى ركبتيه). فقالت: ثم جحظت عينيه . فقال: بل قولي: جحظت عيناه . فقالت: (اغرب عن وجهي فوالله إن موت أبي أهون عليَّ من نحوك هذا). ///// الإسلام في مواجهة تحديات العصر: بين شمولية المشروع وإشكالية التطبيق أ.حشاني زغيدي في ظلّ التحديات المعاصرة التي تواجه العالم الإسلامي والتي تتراوح بين هجر بعض المجتمعات للهوية الإسلامية تحت شعارات التحديث وبين تحميل الإسلام نفسه تبعات التخلّف والصراعات تتجلى أسئلة جوهرية تُطرَح بإلحاح: هل الخلل في الدين نفسه أم في المنتسبين له؟ وهل لهذا الدين مستقبل في المعمورة بعد ما تكالبت عليه الافتراءات والهجمات الشرسة؟ وكيف ينبغي على دعاة الإسلام أن يتعاملوا مع هذه الصعوبات بواقعية وحكمة؟. الخلل بين النظرية والتطبيق: فصل الدين عن الممارسة البشرية الإسلام في جوهره دين يقوم على العقل والبرهان والحقائق البينة. أول كلمة نزلت من الوحي كانت اقرأ لتؤسس لمنهج يجعل التفكير والتأمل والتعلّم طريقًا للإيمان ومفتاحًا للوصول إلى الحقيقة. يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. [سورة فصلت الآية 53]. هذه الآية تؤسس لمبدإ الاكتشاف والمعرفة المستمرة حيث تكون الآيات الكونية والنفسية دليلاً على الحق. مع هذه القوة والوضوح في النصوص والمبادئ يبقى التساؤل المشروع: أين يكمن الخلل إذن؟ الجواب الذي تؤكده الوقائع وتشهد به النصوص هو أن الخلل ليس في الإسلام بصفته دينا بل في الممارسة البشرية لأتباعه. بعض المنتسبين للإسلام يشوّهون صورته بسلوكاتهم البعيدة عن روحه ولا يعكسون عدله ولا ينقلون هديه الرحيم ولا يطبقون أحكامه كما شرعها الله والتي تقوم على اليسر ورفع الحرج. قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. [سورة البقرة الآية 185]. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر من التطرف والغلو في الدين فقال: إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ . [رواه النسائي وابن ماجه]. وهنا يكمن أحد أوجه الخلل الكبرى: عند ما يُختزل هذا الدين العظيم في مظاهر شكلية أو تطبيقات تاريخية جزئية تتعارض مع مقاصده العليا في العدل والرحمة والتعارف. شمولية الإسلام وتكامله: دين الفطرة والواقع الإسلام دين متكامل يوازن بين مطالب الروح والجسد وبين الدنيا والآخرة ولا يفصل بين العبادة والتعاملات. إنه دين الفطرة الذي يُقِرّ ما تقتضيه الطبيعة البشرية السوية. 1-يراعي الفطرة الإنسانية: فقد أحل الطيبات من المطعم والمشرب والملبس وحرم الخبائث التي تضر بالإنسان فردا ومجتمعا: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}. [سورة المائدة الآية 4]. 2-يؤسس لنظام أخلاقي رصين: يضع قواعد للأسرة والمال والمعاملات تحفظ الحقوق وتصون الكرامة: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}. [سورة الأعراف الآية 33]. 3-يصون أعظم الحقوق وهو حق الحياة: ويجعل الحفاظ على النفس البشرية مقصدا شرعيا عليا: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْس أَوْ فَسَاد فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. [سورة المائدة الآية 32]. 4-يكرم الإنسان بلا تمييز: وينطلق من مبدأ المساواة في الكرامة الإنسانية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}. [سورة الإسراء الآية 70]. كما كرّم المرأة فأعطاها حقوقا لم تعرفها في حضارات سابقة وجعل لها ذمة مالية مستقلة وجعل برّها والإحسان إليها من أصول الدين. 5-يقبل بمبدأ الترفيه والراحة النفسية: ويدرك حاجة النفس للبهجة واللعب البريء كما في قصة إخوة يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. [سورة يوسف الآية 12]. هذا التكامل يجعل الإسلام مشروع حياة شاملا قادر على مواكبة متغيرات العصر إذا فُهم في إطار مقاصده الكلية وليس كمجرد نصوص مجتزأة. المنهج التربوي: صناعة الإنسان والمجتمع الفاضل الإسلام ليس طقوساً جامدة تُؤدى في زوايا المساجد فحسب بل هو مشروع حضاري تربوي يهدف إلى صياغة الإنسان المسلم الصالح الذي يُصلح بدوره مجتمعه. فهو يربّي على قيم العلم (اقرأ) والعمل (وقل اعملوا) والأمانة والصدق والتعاون على البر. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الغاية من بعثته بقوله: إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ [رواه أحمد]. مستقبل الإسلام إذن مرتبط ارتباطاً عضوياً بمدى نجاح المسلمين في إحياء هذا المنهج التربوي الشامل وبناء المؤسسات القادرة على تطبيقه بعيداً عن ثنائية التقليد الأعمى والقطيعة الجارفة مع التراث. استعادة الريادة ومواجهة التحديات: دعوة للاجتهاد والعمل لا يمكن لدعاة الإسلام أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام موجة التشويه والافتراء. لكن المواجهة لا تكون بردود فعل عاطفية بل بمنهجية رصينة تقوم على: 1-العلم والمعرفة: بإتقان علوم الدين والدنيا وفهم روح العصر. 2-الحكمة والموعظة الحسنة: بالحوار الهادئ والبعد عن التصادم والخطاب التحريضي. قال تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل الآية 125]. 3-القدوة العملية: بأن يكون الداعية نفسه مثالاً حياً للإسلام في خلقه وسلوكه وتعاونه مع الآخرين. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان خلقه القرآن. 4-الاجتهاد والإنتاج الحضاري: بتشجيع العقل على الابتكار في جميع المجالات. فالقرآن يحث على السعي والعمران: {فَاضْرِبُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}. [سورة المزمل الآية 20] ويشير لأهمية القوة المادية والعلمية: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}. [سورة سبأ الآية 10] رمزا للصناعة والقوة. خاتمة: أين تكمن المسؤولية؟ الخلاصة أن الإسلام كنصوص مقدسة ومقاصد سامية بريء من كل ما يُنسب إليه من تخلف أو عنف أو جمود. المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق المنتسبين له من أفراد ومجتمعات ومؤسسات الذين قصّروا في تجسيد قيمه على أرض الواقع ولم يبذلوا الجهد الكافي لفهمه فهماً صحيحا وعميقا ولا لتقديمه للعالم بصورة تناسب عظمة رسالته. مستقبل الإسلام في المعمورة مرهون بقدرة المسلمين على القيام بمراجعة شجاعة ونقدية لذواتهم وممارساتهم والعودة إلى المنهج القويم الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة بين الثابت والمتغير. يتوقف على قدرتهم على تحويل التعاليم النظرية النيرة إلى واقع ملموس يعكس حضارة هذا الدين وعمقه الإنساني ورسالته العالمية الخالدة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. [سورة الأنبياء الآية 107]. فالدين لله ولكن التطبيق والمسؤولية على عاتق البشر. ///// الدكتور طارق السويدان.. مِن رموز الأمة أ.عدنان حميدان كان ولا يزال كلما ذُكر اسمه تهبّ على الذاكرة نسمات من زمن كانت فيه الكويت أكبر من حدودها وأرحب من قوانينها وأقرب إلى فكرة الوطن الأول: وطن يحتضن الإنسان قبل أن تُنحَت له بطاقة ويعترف بالانتماء قبل أن تُبتكر له معاملة. في عام 1953 م حين لم تكن الدولة قد أعلنت نفسها دولة وُلد طارق السويدان. وولادته في ذلك الزمن أشبه بحضور فكرة قبل اكتمال اللّفظ وبزوغ نواة قبل اكتمال الكيان. فالإنسان الذي يجيء إلى الدنيا قبل أن تُسمّى الأرض دولة يصبح جزءا من تربتها لا من أوراقها ومن روحها لا من مراسيمها. كبر ذلك الطفل وكبر معه معنى الانتماء. وحين تقدّم في العمر لم يَكْبَر وحده بل كبرت معه لغةٌ وفكرةٌ ومدرسةٌ في الوعي قلّ أن يجود الزمان بمثلها. لم يكن مجرّد داعية أو محاضر كان نهراً ممتدا ينهل منه طلاب الفكر ومحبّو الحياة الراقية وكان ولا يزال أحد أهم الأصوات التي حملت معنى التنمية الفكرية من الورق إلى الواقع ومن الخطاب الوعظي إلى خطاب الحضارة. صار الرجل رمزا من رموز النهضة الحديثة في عالم عربي موّار بالتجارب الناقصة. وفي كل بلد وطِئه كانت تُعرَف الكويت من خلاله لا بصفته ممثلا رسميا بل بصفته ابناً حمل في فكره ما يشرف وطنه وفي لسانه ما يرفع سمعة بلده وفي حضوره ما يجعل الناس يظنون أن هذا الوطن لا بدّ أنه عظيم ليُخرج من صلبه مثل هذا العقل وهذا الخلق. ولذلك كانت الصدمة أعمق من القدرة على الوصف حين قيل له يوماً ببساطة جافة لا تشبه مقام الأفكار ولا مكانة الرموز: إنك لم تعد مواطنا . كيف يُقال ذلك لإنسان وُلد قبل ولادة الكيان السياسي؟ كيف تُختَزل حياة كاملة امتدت سبعين عاما في خدمة الفكر وفي رفع صورة البلد إلى مجرّد وثيقة تُنتزع أو تُعاد؟ وكيف يفقد الإنسان صفةً التصقت بروحه لأنه لم يعرف لنفسه هوية أخرى غيرها منذ أن أبصر نور الحياة؟. زاد الألم أكثر لأن العالم من حولنا يشتعل إذا خَطَر لمسؤول غربي أن يفكر مجرد تفكير في المساس بجنسية مواطن من أصل مهاجر. أما هنا فتقع الواقعة كاملة... ولا يستشعر البعض أنها ليست قضية رجل واحد بل قضية معنى الانتماء ذاته. هناك يخافون من فكرة وهنا لا يخشون فعلاً. هناك تحمي الدول رمزية الإنسان وهنا تُنتزع الرمزية من إنسان وُلد قبل الدولة. لكن الحقيقة الأعمق والتي لا تحتاج إلى وثيقة لإثباتها أن الرموز الفكرية تسكن الوجدان لا دفاتر السجلات. وأن الأوطان مهما ظنّت بعض القرارات لا تُبنى على الأوراق بل على أصحاب الفكر الذين يصنعون صورتها في أعين العالم. وطارق السويدان بما يمثله ليس حالة شخصية يمكن طيّها بإجراء إنه طبقة من طبقات الوعي الكويتي والعربي فصل كامل من فصول التحوّل الثقافي وجسر بين حقبات ممتدة من العمل الحضاري. إن من خسر في المشهد ليس الرجل. الرموز لا تخسر. الأفكار لا تُسحب. الانتماء العميق لا يُمحى لأنه لم يأتِ من معاملة رسمية بل من تربة ولد عليها الإنسان ومن تاريخ عاشه ومن سنوات طويلة كان اسمه خلالها رديفا لصورة الكويت الراقية. الخاسر الحقيقي هو كل من ظنّ أن الكيان السياسي يستطيع أن ينتزع من الوجدان ما يثبت بالتاريخ وبالروح. إن الوطن الذي يُبعد رمزه لا يبعده في الحقيقة بل يبتعد هو عن ذاته. فالإنسان الذي سبق الدولة وجوداً وسبق كثيرين جهدا وسبق الجميع فكراً لا يمكن أن تسقط قيمته بحبر على ورقة. لو كانت الهويات تُقاس بالجوازات لسقطت رمزية الأمم الكبرى. لكن الهويات تُبنى بأمثال طارق السويدان بعمق رؤاهم وبسطوع أفكارهم وبما غرسوه في النفوس من معاني الكرامة والنهوض والإيمان بقدرة الإنسان على أن يترك أثرا. لذلك فإن السؤال الأعمق ليس: كيف سُحبت جنسية؟ بل: كيف يغيب عن دولة أن الرمز أهم من الوثيقة وأن الفكرة أبقى من القرار؟. ويبقى الرجل مهما قيل ومهما جرى جزءا من ذاكرة بلد وُلد قبل أن يسمى دولة وجزءاً من وجدان أجيال نهلت من فكره وجزءاً من رحلة طويلة خسر فيها القرارُ الورقي ما لا يمكن للورق أن يحمل قيمته أصلا.