لعلَّ أي متابع للاضطرابات والمواجهات الدامية وهي تتنقل من ربوع ليبيا من جنوبها إلى غربها بدءًا من معارك سبها بين القبائل العربية وبين مقاتلين تابعين لعرقية التبو الإفريقية ومرورًا بالخلافات الدامية بين العرب والأمازيغ في بلدتي زوارة والجميل في الغرب، وانتقالاً للصراعات الساخنة في منطقة جبل نفوسة بين الثوار وفلول نظام القذافي المقبور، ونهايةً بحملات الانتقام من قبل ثوار مدينة مصراته ضد مناطق قاتلت إلى جانب القذافي - يشعر أنّ الليبيين حاليًا بدأوا يَجْنون ثمار ما زرَعَه حكم العقيد القذافي طوال أربعين عامًا من تكريس للجهوية والقبلية وإشعال الفتن بين المكونات العرقية من الشعب الليبي، عرب، أمازيغ، وتبو أفارقة، حيث عمل على تعزيز الانقسامات داخل هذه المكونات لإضعاف تأثيرها وعدم تحولها لرقم مهمٍّ في الساحة بشكل يطيل عمر حكمه· إجراءات انتقامية ويزداد الأمر قتامةً في منطقة بني وليد التي أيَّدت نظام القذافي حتى الرَّمَق الأخير وشكلت لمدة طويلة معقلاً أخيرًا للقذافِي قبل أن ينتقل هو والمقربون منه إلى سرت ويواجهون مصيرهم المحتوم، فهذه البلدة رغم دخول الثوار إليها إلا أنَّها بقيت عصيةً على دخول بيت الطاعة بل إنَّها عمدت خلال الفترة الأخيرة إلى طرد الثوار ودانت السيطرة عليها لصالح الفلول فيما يتكرّر الوضع وإن كان بصورةٍ معكوسةٍ في مدينة سرت حيث تشكو البلدة من إجراءات انتقامية من جانب الثوار ضدها بعد أن شكّلت حاضرة ليبيا طوال أربعة عقود من حكم القذافي· ولا يمكننا في هذا المقام تجاهل الدور الذي يلْعَبه فلول القذافي في تزكية هذه الاضطرابات والابتعاد بالبلاد بأيّ شكل عن الاستقرار باعتبار أنَّ مثل هذا الاستقرار يضعف من وجود أي دور سياسي أو عملياتِي لهذه الفلول، بل ويفتح الباب على مصراعيه لمحاسبتهم على جرائمهم فِي حق الشعب، بل إنَّ هذه الفلول قد لعبت الدور المهمّ في إشعال أحداث سبها الدموية بين التبو والعرب؛ سعيًا من الطرفين للسيطرة على المناطق الإستراتيجية في الجنوب وفي مقدمتها مدينة سبها وواحة الكفرة باعتبار أنَّ المنطقتين تشكلان رئة اقتصادية ومعقلاً للتهريب بين الجنوب الليبي والمناطق الحدودية في تشاد والنيجر· وكذلك يصعب أن نتجاهل ما تعرّضت له قبائل التبو الإفريقية من إجراءات تمييزية طوال عصر القذافي الذي كان معروفًا بدعمه للقبائل العربية وهو أمر أجج نزعات انتقامية لدى التبو من الوجود العربي رغبة في تصفية الحسابات وإعادة رسم خريطة الجنوب الليبي حتى لو جاء ذلك على حساب الدماء الليبية التي سالت بالمئات على أنغام هذا الصراع بشكلٍ دعَا المجلس الانتقالي لاعتبارها منطقة ًعسكرية وإرسال تعزيزات لها وتفعيل وجود الدولة وهي التطورات التي كشفت عن تحوُّل الجنوب الليبي إلى شوكة في خاصرة المجلس الانتقالي وحكومة الكيب ومصدرًا للمتاعب· طابور خامس وتعود هذه المتاعب في جانب كبير منها لتحوُّل الجنوب إلى معقلٍ لأجهزة استخبارات غربية تسعَى لتمزيق الوطن الليبي إلى أشلاء وتقسيمه إلى ثلاثة أقسام الأولى في برقة وطرابلس وفزان، وتكرار نفس السيناريو السوداني، وهي مساعٍ تتقاطع مع رغبة فلول القذافي في تحويل ليبيا إلى نار حمراء وجمر كما توعَّد القذافي في الأيام الأولى للثورة عبر إشعال الفتن القبلية والجهوية، معتمدين على ما يملكونه من أموال وسيطرتهم الطويلة على مفاصل الدولة، بالإضافة إلى وجود طابور خامس من منظمات الإغاثة العاملة في المنطقة والساعية لتنفيذ أجندات لا هدف لها إلا تفتيت ليبيا· ولعلَّ من الموضوعي التأكيد هنا على عدم إلقاء اللوم فقط على فلول النظام أو أجندات خارجية، لاسيما أنَّ غياب سلطة الدولة وسيطرة مليشيات وثوار سابقين على الأوضاع الأمنية هناك قد فتح الباب على مصراعيه لهذه القوى لفرض وجودها على مناطق عدة والعمل على تكريس نزعات الانتقام بين الثوار وفلول القذافِي لاسيما أنَّ مناطق للثوار شكَتْ طويلاً من عمليات سلب ونهب واغتصاب للنساء جرت من مناطق كانت موالية للنظام السابق حان وقت تصفيتها وردّ الصاع صاعين لفلول النظام· تخريب الانتخابات ولا ينبغِي هنا أن نتجاهل وجود علاقات قوية بين الانتخابات التشريعية المقرَّر التئامها في جوان القادم وبين هذه الأحداث الدموية في مختلف المناطق غربًا وجنوبًا رغبة في إفشال هذا العرس الديمقراطي الذي سيكرّس القطيعة مع العهد السابق ويؤسِّس اللَّبِنات الأولَى لدولةٍ حديثة تلعب فيها قيم المواطنة والتنمية والمساواة بين الليبيين أيا كانت خلفيتهم الدور الأهم وهو أمر يزعج أطرافًا عديدة سواء من جانب فلول النظام أو بلدان لا تبدي سرورًا وهي ترَى الثورة الليبية تقطف أهم ثمارها· لذا يمكن القول إنَّ حالة عدم الحسم من قبل المجلس الانتقالي وحالة الشلل التي تعانِي منها حكومة الكيب قد قدَّمت الوقود اللازم لإشعال حرب قبلية في مناطق بعينها في ليبيا بشكلٍ يهدِّد وحدة البلاد فاندلاع الصراعات في الجنوب ومصراته وجبل نفوسة وعدم استقرار الأوضاع في سرت وبنِي وليد يضع وحدة واستقرار البلاد على المحك، خصوصًا أنَّها لم تستطع حتى الآن التخلُّص من محاولة إعلان الفيدرالية في الشرق الليبي، وإذا بها تفاجئ بقنابل موقوتة في الجنوب والغرب وكأنَّ البلاد تسير دون هوادة إلى الانقسام والتشرذم· مما يزيد الطين بلة أنَّه كلما ضعفت قبضة الانتقالِي على منطقة ما وغاب أي تأثير لحكومة الكيب، نجد القبائل تحاول عبر سبل عديدة ملء هذا الفراغ الذي تركته الدولة بل إنَّ هذا الوضع يشجِّع هذه القبائل أيًّا كانت خلفيتها على العمل على تكرار سيناريو الفيدرالية وتحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب انطلاقًا من يقين بأنَّ لا فرصة مناسبة للحصول على امتيازات من الفترة الحالية في وقتٍ لازالت البلاد تعانِي فراغًا أمنيًا وسطوة للمقاتلين والثوار الذين أخفق المجلس الانتقالِي وحكومة الكيب في إدماجهم في أجهزة الأمن مما جعلهم يحاولون فرض القانون بأيدهم وهو ما لم يحظَ بقبول لدى قبائل وعشائر ليبية مستاءة بشدة من غياب الدولة وانهيار الأمن واختفاء الخدمات الأساسية· الأوضاع تسير كل يوم من سَيِّئ لأسوأ، فالبلاد تبدو مقبلةً على استحقاق شديد الخطورة، ممثلاً في الانتخابات التشريعية وما سيتبعه من تأليف جمعية تأسيسية لصياغة الدستور تدخل فيها البلاد حقبة ما بعد القذافي وهما استحقاقان يتطلبان استعادة دور الدولة أو جزء كبير منها وبسط الأمن والاستقرار لدفع المواطنين لمراوحة أمكانهم في البوادي والوديان والمناطق النائية في هذه البلاد مترامية الأطراف لإعطاء دفعة للمسار السياسي بوصفه الوحيد القادر على الخروج بالبلاد من النفق المظلم ومظاهره من فرز طائفي وجهوي وغياب أمني وتراجع لدور الدولة· ضربة قاصمة وحسنًا فعل المجلس الانتقالي وحكومة الكيب حين تمسَّكوا بإجراء الانتخابات في موعدها، متعهدين بتوفير كل الوسائل لضمان تمرير هادئ لهذا الاستحقاق كون التئام هذه الانتخابات في موعدها دون أزمات وإفرازها مجلسًا وطنيًا يمثِّل جميع ألوان الطيف عاملاً مهمًا لكي تتخلص البلاد من إرث الجهوية والقبلية وغياب قيم المواطنة ومعها فلول النظام السابق، حيث سيسدّد نجاح الانتخابات ضربة قاصمة لكل من يرغبون في تقطيع أوصال البلاد·· أما إذا استمرّت الفوضَى وغاب الأمن وفشلت الانتخابات في تجاوز البلاد هذه المحطة فإن مستقبل وحدة البلاد واستقرارها والحفاظ على ثرواتها سيبقى أمرًا بعيد المنال وسيقفز السيناريو السوداني لصدارة المشهد وهو خيار سيدفع جميع الليبيين ثمنه غاليًا من حاضرهم ومستقبلهم· * تعود هذه المتاعب في جانب كبير منها لتحوُّل الجنوب إلى معقلٍ لأجهزة استخبارات غربية تسعَى لتمزيق الوطن الليبي إلى أشلاء وتقسيمه إلى ثلاثة أقسام الأولى في برقة وطرابلس وفزان، وتكرار نفس السيناريو السوداني، وهي مساعٍ تتقاطع مع رغبة فلول القذافي في تحويل ليبيا إلى نار حمراء وجمر كما توعَّد القذافي في الأيام الأولى للثورة· * الأوضاع تسير كل يوم من سَيِّئ لأسوأ، فالبلاد تبدو مقبلةً على استحقاق شديد الخطورة، ممثلاً في الانتخابات التشريعية وما سيتبعه من تأليف جمعية تأسيسية لصياغة الدستور تدخل فيها البلاد حقبة ما بعد القذافي وهما استحقاقان يتطلبان استعادة دور الدولة أو جزء كبير منها وبسط الأمن والاستقرار لدفع المواطنين لمراوحة أمكانهم في البوادي والوديان والمناطق النائية في هذه البلاد مترامية الأطراف لإعطاء دفعة للمسار السياسي بوصفه الوحيد القادر على الخروج بالبلاد من النفق المظلم ومظاهره من فرز طائفي وجهوي وغياب أمني وتراجع لدور الدولة·