الدين سِعة ومرونة وتنوّع الاختلاف في الفروع رحمة وسُنّة كونية بقلم: توفيق الواعي موقع اتحاد علماء المسلمين علّمنا علماؤنا من السلف والخلف كيف يتسع الصدر لمختلف الآراء والاختلافات، وكيف نتحاور دون أن نتنازع أو نتدابر، وصنفوا في فقه الخلاف الكتب والمجلدات لينشروا ثقافة قبول الآخر وإعذاره في اختلافه.. وبقدر ما يتسع صدر المجتمع للآراء المختلفة والتنوع الفكري والاجتهادي، تنتشر فيه روح الجِدة والابتكار، وعلى العكس من ذلك، فبقدر ما تضيق الصدور بالمخالف وتنتشر سياسة القطيع والرأي الواحد؛ تفقد الأفكارُ العمقَ والفاعلية وتشيع السطحية ويموت الابتكار ُوالتنوع، وهى الثقافة السائدة في عالمنا الثالث بكل طوائفه الفكرية. نعم.. نحن المسلمين من علَّم العالمَ كيف يختلفون، ولكننا للأسف ابتعدنا عن دروس ديننا، وهجرنا -ضمن ما هجرنا- هذه الروحَ الحضارية الراقية. ونحن في هذه العجالة نشير إلى قواعد مهمة في فقه الخلاف، آملين إن مد الله في الأجل ووجدنا فسحة من الوقت أن نضيف إلى جهد من سبقونا بضع قطرات من رحيقهم، نقول وبالله التوفيق: 1- الاختلاف في فروع العلم سنة كونية، فطبيعة الدين بما فيه من سعة ومرونة وتنوع، وطبيعة اللغة الحمَّالة للأوجه ودلالاتها الظاهرة والخفية والمجاز والحقيقة والمجمل والمبيِّن، وكذا طبيعة العقول والمدارك، وتغير الواقع الذي تنزل عليه النصوص زمانًا ومكانًا وحوادث... كل هذه الأشياء تجعل الاختلاف وتنوع الاجتهادات شيئًا طبيعيًّا لا غرابة فيه، وتجعل طلب الإجماع على مسائل الاجتهاد الظنية المتنوعة غير منطقي. 2- رغم أن التنوع والاختلاف سنة بشرية، إلا أن السعي لدفعه والخروج منه فريضة شرعية لتوحيد الكلمة وجمع الصف، والعمل عند جمهرة أهل العلم على استحباب الخروج من الخلاف لجمع كلمة المسلمين وقطع أسباب التنازع. 3- الخلاف ليس شرًّا كله، فمنه ما هو مذموم؛ مثل: الخلاف الناشئ عن الغرور والعجب، أو الخلاف الذي سببه الحرص على الزعامة والمكانة والجاه، أو الخلاف الناشئ عن سوء الظن واتهام الآخر، وكذا ما ينشأ عن اتِّباع الهوى من خلاف، أو قلة العلم أو عدم التثبت أو غير ذلك من أسباب ذميمة وصفات مرفوضة. ومنه ما يكون مقبولاً، مثل: الخلاف حول الآراء المتعددة النابعة من مشرب واحد كالخلاف الصوري أو الخلاف اللفظي أو الخلاف الاعتباري، وكذا الخلاف حول الأمور الظنية المحتملة في المدركات -ما تدركه الحواس والعقول- وفي فروع الشريعة، ومثل الخلاف في الأمور العملية والمواقف السياسية، وكذا مناهج الإصلاح والتغيير المبنية على المصالح والأعراف وحاجات المجتمع، وغير ذلك وأمثاله. 4- الاختلاف قد يكون فيه السِّعة والرحمة، يقول عمر بن عبد العزيز: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رُخصة)، ويقول ابن عابدين الحنفي: (الاختلاف في الفروع من آثار الرحمة؛ فإن اختلافهم توسعة للناس) ثم يضيف: (فمهما كان الاختلافُ أكثر كانت الرحمة أوفر). 5- الاختلاف أنشأ ثروة فقهية وقانونية، ملأت صفحات الكتب ومجلداتها عبر التاريخ بثمرة عقول الجهابذة من فقهائنا وعلمائنا تأصيلاً وتقعيدًا وتنظيرًا يغترف من فيضها أهلُ العلم لا يشبعون على مر العصور، وكانت وما زالت بعضاً من ميراث حضارتنا العامرة بكل خير. 6- جمهرة الأصوليين يرون أن الحق والصواب واحد، لا يتعدد في مسائل الاجتهاد الظنية، لكن لا يستطيع أحدٌ الجزم بموضع هذا الصواب.. بينما ذهب كثيرٌ منهم إلى أن الصواب يتعدد بتعدد الاجتهادات، وأن كل مجتهدٍ مصيبٌ في اجتهاده ما دام مستجمعًا لشروط الاجتهاد من نية صالحة وعلم بما يجتهد فيه وبذل للوسع في تحقيق موضوع الاجتهاد، وهذا القول -وإن خالف الجمهور- قول قوي له مستنده من الأدلة ومناصروه من أهل العلم. 7- المجتهدون في فروع الفقه الظنية كلهم مأجورون، من أصاب منهم له أجران: أجر ما بذل من جهد وأجر الإصابة، والمخطئ له أجر الجهد رغم خطئه ما دام محققًا لشروط الاجتهاد، والمجتهد المخطئ في مسائل الفروع ما دام مأجورًا فإن ذمه واتهامه وتبديعه يكون مرفوضًا، بل نلتمس له العذر. 8- الحق قديم كما يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينبغي أن يُقبل من كل أحد ما دام موافقًا للدليل، فالقرآن ساق كلام بلقيس وهي كافرة -لم تكن قد أسلمت بعد- تعبد الشمس من دون الله فقال: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا) [النمل: 34]، ثم عقب مقررًا ما تقول فقال (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]، وفي صحيح البخاري ذكر كيف دلَّ الشيطانُ أبَا هريرة على آية الكرسي فقال له صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، مُقرًّا لما قال؛ فالحق والحكمة والصواب ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق الناس بها. 9- الحق لا يُعرف بالرجال وإنما يُعرف الرجال بالحق، فالعصمة ليست لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل بني آدم خطاء) كما يقول الحديث الشريف. 10- المخالفون ليسوا جميعًا على درجة واحدة، فمنهم المجتهد المخطئ -فيما نظن- ومنهم الجاهل المعذور، ومنهم المتعدي الظالم، ومنهم المبتدع صاحب الهوى، ومنهم الكافر الضال المعانِد، والموقف من المخالف يتحدد على حسب موضوع الخلاف وسببه ومدى استجابة المخالف للحق. 11- هناك فارقٌ كبير بين الحكم المطلق، وتنزيل هذا الحكم على محل الفتوى، فتنزيل الحكم على الوقائع يحتاج إلى نظر واستدلال يسميه الأصوليون (تحقيق المناط)، وكثيرًا ما يكون سببًا للاختلاف، لتباين وجهات النظر في تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وهنا لا يكون الخلافُ حول الحكم الشرعي، وإنّما يكون حول إدراك الواقع ومدى مناسبته للحكم المنزل عليه. 12- والحكم المطلق قد يختلف أيضًا عند تنزيله على الأشخاص، وذلك للنظر في عوارض الأهلية المختلفة، وتحقق الأسباب والشروط، وانتفاء الموانع، فإطلاق الأحكام على الأشخاص يستلزم معرفة جيدة بالشخص موضوع التنزيل حتى يصادف الحكمُ موقعَه الصحيح، وكثيرًا ما يكون ذلك موضعَ الخلاف بين أهل العلم. 13- الكتاب والسنة لا يعارضان بمجرد العقل أو الهوى أو الذوق والوجدان. 14- موافقة الجماعة على ترك الأفضل خيرٌ من مخالفتها على الأولى، فقد صلى ابن مسعود خلف عثمان -رضي الله عنهما- متمًّا صلاته فى الحج رغم مخالفة ذلك لاجتهاده، وقال للناس: (اتبعوه فإن الخلافَ شرّ)، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية: (ويسوغ أيضًا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفًا من التنفير عما يصلح، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة على قواعد إبراهيم). * الاختلاف قد يكون فيه السِّعة والرحمة، يقول عمر بن عبد العزيز: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رُخصة)، ويقول ابن عابدين الحنفي: (الاختلاف في الفروع من آثار الرحمة؛ فإن اختلافهم توسعة للناس) ثم يضيف: (فمهما كان الاختلافُ أكثر كانت الرحمة أوفر). * الحق قديم كما يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ينبغي أن يُقبل من كل أحد ما دام موافقًا للدليل؛ فالقرآن ساق كلام بلقيس وهي كافرة -لم تكن قد أسلمت بعد- تعبد الشمس من دون الله فقال: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أذلة) [النمل: 34]، ثم عقب مقررًا ما تقول فقال (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل: 34]، وفي صحيح البخاري ذكر كيف دلَّ الشيطانُ أبَا هريرة على آية الكرسي فقال له صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، مُقرًّا لما قال؛ فالحق والحكمة والصواب ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق الناس بها.