استعملت في الحديث الماضي تعبير * الوقفة التعبوية * لأشير إلى عملية مراجعة للنفس، تصورت، أو تمنيت، أن القيادة المصرية على وشك أن تقوم بها، في إطار عملية تقدير الموقف المألوفة عند العسكريين الأكفاء. واليوم أن أطالب كل المنتمين لما يُسمّى * الإسلام السياسي * بوقفة مماثلة مع الذات، يراجعون فيها مسيرتهم ويحددون أخطاءهم وعثراتهم، وهو الطريق السليم لاستئناف المسيرة الوطنية في إطار مصالحة ضرورية مهما كانت مرارتها. والواقع أنني لم ألحظ وجودا خلال الاعتصام الأسطوري لمخلوقٍ ممن ينتمون للتيار الإسلامي، كان قد سمح لنفسه بأن يؤذن للصلاة خلال انعقاد جلسة برلمانية، ورغم متابعتي لقنوات الحوار والجزيرة والمغاربية فلم أسعد بخطاب تضامني يلقيه نفسُ الملتحي، الذي طالب بهدم الأهرامات وأبي الهول بصفتها رموزا وثنية، ولا سمعت مداخلة حماسية من المخلوق الذي نادى بتغطية وجوه التماثيل الفرعونية، حيث أنه اكتشف ما لم يكتشفه عمرو بن العاص من أن هذه هي أصنام. واختفى جل أولئك الذين استقطبوا عداء الجماهير لممارسات التيار الإسلامي خلال نحو عام من ممارسة الرئيس محمد مرسي لشبه السلطة التي آلت إليه عبر انتخابات، اتفق القاصي والداني على أنها كانت من أكثر الانتخابات العربية نزاهة وشفافية. وهذا كله يفرض قيام الجميع بالنقد الذاتي، واعتراف أهم جماعات التيار الإسلامي، وهي الإخوان المسلمين، على الملأ بأخطاء الذين انتسبوا لها أو حسبوا عليها أو خرجوا من رحمها. وأول ما يجب أن يُقر به الإخوان المسلمين خطأهم التاريخي في تذكية الحقد الرهيب ضد جمال عبد الناصر، بحجة ما تعرضوا له من بطش في عهد الزعيم الراحل، وهو ما يجتره بعض المنتسبين للإخوان كالببغاء، بمناسبة وبغيرها. كانت الجماعة التي أنشأها الشهيد حسن البنا في العشرينيات من القرن الماضي قد تعرضت للحل في 8 ديسمبر 1948 على يد رئيس الوزراء أحمد فهمي النقراشي باشا، إثر قيام بعض عناصر الجماعة باغتيال القاضي أحمد الخازندار في 22 مارس ,1948 انتقاما من حكم أصدره ضد أعضاء من الإخوان. ولفهم بعض جوانب التطورات يجب أن نعود إلى مرحلة حرب فلسطين التي جاهد فيها شباب الإخوان حق الجهاد تحت قيادة ضابط مصري شهير، هو المقدم الشهيد أحمد عبد العزيز، الذي كان واحدا من مجموعة كبيرة من ضباط الجيش المصري، طلبوا عطلة بدون أجر لقتال العصابات الصهيونية. وتدخل القوات النظامية المصرية إلى فلسطين، ويعود شباب الإخوان إلى مصر في ظروف معقدة جعلت العائدين يعيشون وضعية إحباط كبير، أعطت الفرصة لرئيس ما كان يُسمّى الجهاز السري للتحكم في أعضاء الجهاز بصورة جعلت المرشد العام يفقد إلى حد كبير السيطرة على تحركات المجموعة، فاغتالت الخازندار بأمر من رئيسها عبد الرحمن السندي، الذي ادعى أنه سمع حسن البنا يدعو الله قائلا : ربنا يخلصنا من الخازندار، ورأى في هذا أمرا بالتخلص منه ، مما جعل البنا يستشيط غضبا لسوء تأويل دعائه. وقام النقراشي بحل الجماعة، فقتلته في 28 ديسمبر ,1948 وندد بذلك المرشد العام قائلا علنا أن من قتلوا رئيس الوزراء ليسو إخوانا وليسو مسلمين. لكن وزارة إبراهيم عبد الهادي، الذي خلف النقراشي، نكلت بالجماعة بشكل لم يسبق له مثيل، وتفننت عناصر البوليس السري في ممارسة التعذيب إلى حدّ تكليف بعض الجنود باغتصاب شباب الإخوان، وهي مرحلة أطلق عليها مرحلة العسكري الأسود. ثم كلفت عناصر أمنية باغتيال حسن البنا في 12 فبراير ,1949 الذي مات في مستشفى القصر العيني نتيجة للنزيف الذي أصابه بعد إطلاق الرصاص عليه، حيث تباطأت عملية الإسعاف. وتبارى بعض عناصر الإخوان في تضخيم الجرعة الدرامية للحدث لمضاعفة حجم الغضب الشعبي على الجريمة، في حين لم تكن المأساة في حاجة لأكاذيب، وكان من بين ما رُوي أن الملك فاروق ذهب إلى المستشفى ليبصق على الشهيد المحتضر قبل أن يسلم الروح، وهو ما كذبه تماما فيما بعدُ محمد نجيب، أحد العناصر القيادية في الإخوان المسلمين. وسار في جنازة البنا ثلاثة أشخاص، والده وابنه والزعيم القبطي الكبير مكرم عبيد باشا. ولم تتوقف الجماعة يوما، في حدود ما أعرفه، لتعترف بعمليات الاغتيال ولتدينها بتعبيرات واضحة، معتبرة إياها انحرافا عن مسيرة العمل الإسلامي الصحيح، وهو خطأ يسجل على القيادات المتتالية. ويسجل القضاء المصري، آنذاك، شموخه، عندما يصدر مجلس الدولة قرارا في 1951 خلال حكم مصطفى النحاس باشا بعدم مشروعية حل الجماعة، لكن عودتها لممارسة نشاطها حملت الكثير من علامات الاستفهام، وأكدت أن الجهاز السري ما زال يواصل تأثيره على مسيرتها، فقد تم اختيار مرشد عام جديد من غير قياداتها المناضلة، ولم يكن له أي دور في نشأتها، وهو المستشار القضائي حسن الهضيبي . وتقوم ثورة يوليو، ويحتفظ قادتها بتقدير كبير للجماعة، ويتوجهون إلى ضريح حسن البنا للترحم عليه، وتجري تحقيقات مكثفة للقبض على الجناة، الذين صدرت ضدهم أحكاما قاسية. وأعطت الثورة للجماعة وضعية خاصة، فلم يطبق عليها قانون حلّ الأحزاب، لكن الحماقة بدأت تطل برأسها، فقد أرسلت وفدا لعبد الناصر، وطبقا لما تورده مصادر الويكيبيديا، يقول له: الآن وبعد حل الأحزاب لم يبق من مؤيد للثورة إلا جماعة الإخوان، ولهذا يجب أن يكونوا في وضع يليق بدورهم وبحاجة الثورة لهم, ويسأل عبد الناصر عن المطلوب فيقولون : إننا نطالب بعرض كافة القوانين والقرارات التي سيتخذها مجلس قيادة الثورة قبل صدورها على مكتب الإرشاد لمراجعتها من ناحية مدى تطابقها مع شرع الله والموافقة عليها، وهذا هو سبيلنا لتأييدكم إذا أردتم التأييد. ويرفض عبد الناصر قائلا: لقد قلت للمرشد في وقت سابق إن الثورة لا تقبل أي وصاية، وإنني أكررها اليوم مرة أخرى. لكن البكباشي يحاول المحافظة على جسور التواصل مع الإخوان، فيختار عضوين من مكتب الإرشاد، كان أحدهما الشيخ أحمد حسن الباقوري، لتعيينهما في حكومته، ويرد مكتب الإرشاد بعنجهية بليدة، فيقوم بفصل العضوين من المكتب، ويتزايد التوتر. ويحدث الصراع على القمة بين رئيس الجمهورية آنذاك اللواء محمد نجيب وبقية أعضاء مجلس الثورة بقيادة عبد الناصر، وينحاز الإخوان المسلمون تماما لمحمد نجيب، الذي رأوه أسهل استجابة لوصايتهم على الساحة السياسية، وبدءوا في التحرك لدعمه على حساب عبد الناصر، وهو ما كنت سمعته آنذاك شخصيا من عناصر الجماعة. ويقوم جمال عبد الناصر في 19 أكتوبر 1954 بتوقيع اتفاقية مع وزير الدولة البريطاني أنتوني ناتنغ لتحقيق الجلاء البريطاني الكامل عن مصر، وهو ما أعطى الزعيم الشاب تألقا هائلا لأنه أنهى وجودا استعماريا دام نحو 73 سنة، لكن عناصر الإخوان المسلمين شنوا حملة شعواء على الاتفاقية، بعد أن أحسوا أنها أعطت عبد الناصر دعما شعبيا رأوا أنه سيكون على حساب شعبيتهم. وقبل أن ينتهي أكتوبر يقوم واحد من عناصر الإخوان، هو محمود عبد اللطيف، بإطلاق الرصاص على الزعيم المصري في الإسكندرية، وهو ما أدى إلى عملية قمع وتنكيل أخرى بعناصر الإخوان المسلمين تزايدت حدتها عن سابقتها في العهد الملكي، وأعدم خلالها ستة من بينهم الجاني وعدد من خيرة الرجال. والمؤكد أن السلطة أحسنت استثمار العملية إعلاميا لحشد التأييد الشعبي لعبد الناصر، لكن المنتمين إلى حركة الإخوان ابتكروا أسطورة التمثيلية، وهو ما كان معقولا خلال حمى الصراع بين الطرفين، لكن الحماقة الكبرى تمثلت في أنهم ظلوا يرددون تلك الأكذوبة الغبية إلى يومنا هذا. ثم عرفت الستينيات حملة قمع رهيب أخرى شملت إعدام سيد قطب، برغم محاولة الرئيس بومدين التدخل لتخفيف حكم الإعدام. وكان كل ذلك وراء أخطر حماقات الإخوان المسلمين، حيث عجزوا عن طي الصفحة، وظلوا يغذون الأحقاد ضد عبد الناصر، في حين كان المنطق السياسي السليم، في رأيي، أن يذكروا للرجل حسناته ولا يكتفون باجترار سيئاته، وهذه وتلك واقع تاريخي، ثم لا يتركوه ملكية خاصة للمتاجرين بتاريخه. وهكذا خرج علينا عصام العريان في الشهور الماضية ببيان دعا فيه يهود مصر الذين نفاهم منها عبد الناصر، كما قال، إلى العودة إليها، وكان هذا حماقة غلفها الجهل والغباء، حيث أن فرار اليهود من مصر انطلق في 1948 وقبل أن يكون لعبد الناصر أي شأن يذكر. وكان هذا أيضا وراء تعبير مرسي في أول خطبه عندما أشار إلى سنوات الستينيات بقوله: وما أدراك ما الستينيات، وربما كان وراء تكريم قائد الصاعقة الذي سب عبد الناصر في دمشق إثر الانفصال، كما كان وراء عشرات التلميحات والتصريحات التي صدرت عن الجماعة طوال العقود الماضية. ولأن عبد الناصر كأن أول رئيس مصري يحكم أكبر بلد عربي منذ عهد الفراعنة، ويحتفظ له التاريخ بحجم كبير من الإنجازات الوطنية، وبوجه خاص تلك التي ترتبط بحياة المواطنين المصريين البسطاء، لم يكن من حق الإخوان أن يواصلوا عداءهم للرجل الذي يُجمع العالم على اعتباره من أهم رموز حركة التحرر الوطني. وهكذا وقف الإخوان في نفس خندق العدو الإسرائيلي. ولن أطيل في استعراض الحماقات التي عشناها جميعا في الشهور الماضية، والتي يجب أن تكون مأساة رابعة فصلا ختاميا يقلب صفحتها نهائيا، بكل ما فيها من مآس تعرض لها الإخوان، لا جدال في فظاعتها، وأخطاء ارتكبوها لبعضها ما يفسرها وللبعض الآخر بعض التبرير. والكلمة اليوم لشباب الإخوان الذين بادروا بالمساهمة في ثورة يناير وفي حمايتها لتشكيل مسيرة المرحلة القادمة، بعد وقفة تعبوية لا أشك في أهميتها وفي ضرورتها، وليترك للرعيل الأول مركز شرفي يسجل لهم نضالهم، ويحفظ لهم حق الاجتهاد.