وهي التي لا تحتاج إلى مساعدة في الحصول على وظيفة أو على سكن اجتماعي أو تساهمي، كنت أعتقد أن زيارتها تتعلق باستشارة في أداء مهمة وظيفية، أو في كيفية المساهمة في جهد ذي منفعة عامة. لكن الجميلة سألتني عن مدى نفوذ شخص سياسي معين؟ ولقوة نفوذه التي لا أتصور أبدا أنها تجهلها، واحترازا من تحريف الكلم عن مواضعه، وحتى لا أقول ما لا أعرف، حاولت تغيير النقاش ورحت أخوض في مواضيع مستهلكة، وأجهد في إقحامها في صلبها عن طريق المشاركة في معالجتها، إيحاء مني أني في حاجة ماسة إلى من يساعدني عن فهم كنهها وورائياتها. مدت قدما وبسطت ذراعيها وطأطأت برأسها ليرى الغافل عن تمييز المفاتن وحتى غير المبالي بها، ذلك اللون المازج بين الزرقة والبنفسجية الموحد بين ألوان كل من النعل والمجوهرات سواري اليدين وأحجار قرطي الأذنين. سألت الله الرحمة، وفي ذهول قلت: إذن رفع النعال إلى مستوى أقراط وأساور الذهب والمرجان، هو الذي جعل بعضا ممن تسألني عنهم يحتسون الخمر في نعال الغانيات، ومنهم من يضع أحذية الراقصات فوق رؤوسهم، ومنهم إذا ما رفضنه في الهزيع الأخير من الليل، فإن فقدان وعيه يشجعه لأن يحمل حذاءه تحت ابطه ويمشي حافيا قاصدا إما... وإما...، لكن جميل اللاينساه، لأن من ملأ بطنه بنتانة النبيذ يرفض بقاء نتانة حذائه بعده. بالرغم من أني قلت هذا في داخلي وفي سرية تامة حتى عن أجزاء جسمي، رفعت ستائر هدبها عن زرقة عينيها، التي هي الأخرى غير بعيدة التشبه بزرقة جلد حذائها، وكأنها علمت بما قالت نفسي لنفسي وأعادت تكرار السؤال. فخفت الوشاية لأحد ممن أنا شاهد على فرار سيدات محترمات وهن مذعورات، وكأنهن قد أصابهن وسط مكاتبهم مس من الجنون أو بلاء لا يطاق واعتداء لا يحتمل. صارحتها بأن من يتملكه حب الموطن، فحبه للوطن لا يتقيد بتاريخ مخدوع، ولا بتصرف أحمق ولا بالمشاركة في مجلس موجه، ولا بإرسال رسالة، سواء بطابع بريد أو دون طابع بريد. قالت: إني أؤمن بجهد الأشخاص، وأتلذذ بذلك عندما يتم من أجل وطنهم، وأعيش عناءهم من جراء ذلك، وأحس بالمخاطر التي تداهم كل ملتزم منضبط وكل متفان مخلص، ومن خلال هذه الصورة المثالية أردت الوصول إلى فلان. وأنا أعرف أن لمس تلابيب جلباب علان عن طريق تلك المكارم والشيم ضرب من الخيال، وبحث في المستحيل، ومغامرة مع المجهول... تذرعت، تحجبت، تهربت دون جدوى. وأمام الإلحاح، وعلى مضض وبمرارة مضنية اتصلت هاتفيا أسأل عن المطلوب المرغوب فيه، فقالت الكاتبة: لم يدخل بعد، وبعد دقائق كررت الطلب ثانية قالت: خرج، وبعد دقائق اعدت الاتصال ثالثة فقالت: لم يعد. في اللحظة انتفضت زائرتي، وهاتفت تسأل عن المطلوب المرغوب فيه عن طريق نفس الكاتبة وذات الرقم فكان موجودا، وعرض عليها التكلم معه في أي وقت تشاء، وبابه مفتوح أمامها لاقتحام مكتبه في أي وقت تريد. قلت: سيدتي هذا واقع الحال، وكم أنا سعيد وأنا أسمع جواب الكاتبة مرة بعد المرة لأني أعلم ذلك سلفا واني أؤمن بقول القائل:"إذا استحميت كل يوم وبقيت نتانة في جسمك فعليك أن تغير الماء الذي تستحم به" فزعت، وجمعت نظارتها ومفاتيح سيارتها وسلة يدها، وجوالها وانصرفت دون أن تحيي وهي تردد هذه حماقة فقلت: إيه والله حماقة...!؟