تمر بلادنا منذ فترة، بأحداث على قدر كبير من الخطورة لأنها ببساطة تتعلق بكرامة الإنسان وبقيمة المواطن الذي يختطف ويغتال طفلا ويختطف ويغتال إطاريا ساميا في السلك الدبلوماسي. إن التعامل مع هذه الملفات وما شابهها كشف إجمالا، أن الدبلوماسية الجزائرية تعرف انتكاسة تقترب معها من السقوط الحر الذي يطرح أكثر من سؤال حول أسباب انعدام الجرأة في تكييف مواقف الجزائر مع ما يستجيب ابتداء وانتهاء لمصالحها الوطنية. لقد تشكل خلال العقديين الماضيين عالم جديد، أعطى مفهوما مغايرا للعلاقات الدولية انحصرت معه، المعاني القيميّة للمبادئ وللمواقف الثابتة وبرز بالمقابل، تجاه متصاعد يكرس حرص الدول بما فيها الضعيفة، على مراعاة وحماية مصالحها قبل كل شيء. ولعل تحرر الشعوب من عقدة الخوف ومطالبتها بالحق في الكرامة وفي الأمان عامل قوي، يعزز هذا التوجه ويحتّّم على الجهات المعنية، إعادة النظر في الأسس والطرق التي تعالج بها مختلف الملفات والقضايا لاسيما في بعديها، الإقليمي والدولي وذلك بتوظيف الذكاء البشري لتقديم المصالح الوطنية عن غيرها وتفادي التشبث المطلق بالمبادئ التي قد تطغى على هذه المصالح أو تضر بها في العمق. وباستقراء الكثير من مواقفنا الرسمية الحديثة يلاحظ بكل أسف، أن الجزائر جانبت منطق تقديم المصلحة الوطنية وأصبحت في حالات عديدة كمن يغرد خارج السرب وحده وهو ما يطرح عدة تساؤلات منها على سبيل المثال: ما يفيد الجزائر، التي لا تملك امتياز الفيتو ولا قوة ضغط أونفوذ، أن تتحفظ دون غيرها على موقف ما في الجامعة العربية أو في الأمم المتحدة؟ وماذا ينفعها أيضا، أن تدير شؤون المال والأعمال باسم روابط الأخوة والصداقة لا غير؟ ويحضرني هنا، ذلك العدد الهائل من الشركات المختلطة التي أقامتها بلادنا بمشاعر الولاء والانتماء ودون حسابات اقتصادية مشروعة وهو ما أدى في نهاية المطاف، إلى إفلاس تلك المؤسسات بسبب ضعف الشريك ماليا وتقنيا وماديا فخرجنا كما يقال: ”لا فايدة ولا راس المال”. وهاهي خارجيتنا تغيب طويلا عن التفاعل مع قضية الطفل الجزائري المسجون في المغرب، قبل أن تنطق كفرا بطلبها من نظام المخزن تخفيف الحكم عوض المطالبة بإلغائه تماما لأنه ببساطة، يشكل خرقا صارخا لاتفاقية حقوق الطفل ناهيك عن اعتبارات الأخوة وحسن الجوار التي لا زلنا، ودون سوانا، نرعاها بشكل مطلق ولو على حساب مصالحنا. وبذات الطريقة المبهمة يتعامل القائمون على الشأن الدبلوماسي مع ملف أسرنا المعتقلين في أكثر من دولة وقارة. فلقد صرحوا منذ فترة أنهم لا يؤكدون كما أنهم لا ينفون،خبر اغتيال نائب القنصل الجزائري في ”غاو” شمال مالي في وقت أكد فيه الإعلام الخاص ومصادر أجنبية الخبر وعلمه الناس أجمعين؟؟. إن مقارنة الأوضاع بمثلها، تجعلنا نقتنع بأن تعامل أية دولة مع ملف أسرها بالخارج يعكس في حقيقته،قيمة المواطن لدى أولي أمره. فهذه فرنسا مثلا، ترسل وزير خارجيتها شخصيا لاسترجاع الأسيرة الفرنكو- كولومبية ”Ingrid Betancourt” من كولومبيا أما عندنا،فلم يبدأ التحرك الرسمي في ملف أسرانا بالعراق إلا بعدما أهدى لنا حكامه أولى الجثامين وهدد بمواصلة نحر أبناء الجزائر تباعا. صحيح أن المنطق والعرف والاعتبارات الأمنية تقضي في حالات معينة، أن تلتزم الدبلوماسية الصمت والحياد والمراوغة لكن، أن تكون غالبا بلا صوت ولا وزن ولا لون فهذا يعني أنها دبلوماسية بائسة بكل المعايير ولعل هذا،ما يفسر سحب ملف ”تغنتورين” من بين يدي الخارجية وتولي وزير الاتصال لا وزير الشؤون الخارجية مهمة الإعلان أن الجزائر لن ترسل جنودها خارج الحدود ؟ إن الوقت حان لتقوم خارجيتنا بوثبة نوعية،تستثمر بموجبها في الأحداث المختلفة برصانة وتحكم وتبصر، انطلاقا من كون الثابت الواحد في التعامل الدولي هو المتغير الذي يجب معه، أن نتحرر بذكاء وعاجلا من نظريات زالت بزوال الفكر الأحادي والقطبية الثنائية إن أردنا أن يكون لنا موقع قدم ثابت ومتميز في فضاء معولم بشكل رهيب. وحتى يتحقق ذلك، نكون بحاجة أكيدة إلى دبلوماسية الأكفاء والمتمرسين القادرين على إعادة شيء من الكبرياء والمصداقية لدبلوماسية أصيلة، بصم صفحات مجدها جيل قاد بحنكة عالية مفاوضات ”إفيان” وساهم في تحرير الرهائن الأمريكان لدى السلطات الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. فمع هؤلاء الرموز، لم يكن للجزائر رجال في الدبلوماسية وإنما كان للدبلوماسية الجزائرية رجال تخرجوا من مدرسة الحياة والنضال وارتقوا بالأداء وبحب الوطن أما اليوم، فإنه لا يسعنا أمام تراجع دور الخارجية سوى أن نسأل: دبلوماسيتنا إلى أين؟