من الشرك الخفي طلب العوض عن الطاعة يقول ابن عطاء الله السكندري: ”متى طلبت عوضاً على عمل طولبت بوجود الصدق فيه، ويكفي المريب وجدان السلامة”. من المعلوم أن المطلوب من العبد أن يخلص الطاعات التي أمره الله بها، لوجهه وحده، وأن لا يشرك معه أحداً أو شيئاً آخر، في الدافع الذي يحمله على أداء طاعاته. والآيات في ذلك كثيرة وصريحة، من مثل قوله تعالى:{وما أمرُوا إلا لِيعبُدوا اللهَ مخلصِينَ له الدين} (البينة)، وقوله تعالى:{فمن كان يرجُو لِقاءَ ربِّه فليَعْمَل عَملاً صالحاً ولا يُشرِكْ بِعِبادَة ربِّه أحداً} (الكهف). ولعل كثيراً من المسلمين، بل ممن يتحدثون في الإسلام ويدعون إليه، لا يدركون المعنى السليم والدقيق للإخلاص في العبادة لوجه الله وحده. إنهم يتصورون أن المسلم إذا خلت عباداته وطاعاته من الرياء، فتلك هي قمة الإخلاص. غير أن الأمر أدق من ذلك.. انظر إلى قوله تعالى: {فمنْ كانَ يرجوُ لقاءَ ربِّه فليعمَلْ عمَلاً صالِحاً ولا يُشرِكْ بعبادةِ ربِّهِ أحَداً} (الكهف). وكلمة ”أحدًا” هنا أعم من أن يكون خاصاً بمن يعقل.إنها تشمل أي شيء ما عدا الله عز وجل، فمن أشرك في عبادته لله طمعاً في مال أو مكانة أو شهرة، أو رغبة في عافية بدنية، كمن يشرك في صلاته مع قصد التقرب إلى الله، قصد الرياضة والنشاط الجسمي، فقد حرم من صفة الإخلاص لله في عبادته.. إذا تبين لك هذا فدعني إذن أسألك: ما الفرق بين أن يكون الشيء الذي تجعله شريكاً مع الله في القصد إلى مرضاته، مالاً تناله، أو رياضة بدنية تكسبها، أو أجراً من الجنة تناله؟ إذا كان الإخلاص لله أن يتمحص العمل خالصاً لذاته، فكل ما يدخل معه شريكاً في هذا القصد، فإن من شأنه إذن أن يجرح الإخلاص لذات الله أو أن يعكر صفوه، أياً كان هذا الذي دخل شريكاً معه، واصطناع الفارق بين الأجر الدنيوي والأجر الأخروي، على الطاعة تمحّل لا وجه له ولا دليل عليه. كما أن الذي يحضر صلاة الجماعة ويتوخى فيها مع القصد إلى مرضاة الله أجراً دنيوياً يناله على ذلك، يعدّ بعيداً عن الإخلاص لوجه الله، فكذلك الذي يؤديها متوخياً القصد إلى مرضاة الله أجراً من نعيم الجنة أفرارًا من عقاب قد يلاحقه، هو الآخر يعد بعيداً عن الإخلاص لله. ومقياس الدلالة على ما يعكر صفو الإخلاص لدى العبد، أن ينظر إلى القصد الآخر الذي تسرب إلى نفسه شريكاً مع القصد إلى مرضاة الله في أداء عبادة ما. فإن وجد في نفسه أن غياب ما تأمله من قصده ذاك من شأنه أن يفتّر رغبته في أداء تلك العبادة.. فذلك دليل قاطع على غياب الإخلاص.. لعلك تستشكل في هذا قول الله تعالى:{ادخُلُوا الجنَّةَ بما كنتُمُ تعمَلُونَ} (النحل) وقوله تعالى:{وجزاهم بما صبروا جنَّةً وحريراً} (الإنسان) وأمثالها من الآيات التي تصرح بأن الله تعالى جعل الجنة جزاء الأعمال الصالحة التي تقرب بها المؤمنون إلى الله في الدار الدنيا. إن جعل الجنة جزاء للأعمال الصالحة إنما هو قرار من طرف واحد، ألا وهو الله،أما المؤمنون فإنهم لم يبرموا بينه وبينهم عقداً على هذا الأساس، وما ينبغي لهم - وهم عبيد مملوكون لله -أن يبرموا معه مثل هذا القرار. وهنا يقرر ابن عطاء الله فائدة أخرى إذ يقول عندما تريد أن تطلب من الله عوضاً، أي أجراً، على طاعتك له،سائل نفسك هل كنت صادقاً مع الله في الإخلاص له في أدائها؟ ولاحظ دقته في استعمال كلمة العوض بدلا من كلمة الثواب التي يعبر فيها في البيان الإلهي عن الإكرام الذي أعده الله لعباده الطائعين منحة منه وتفضلا وإحساناً،ومن ثم فليس فيه أثر لمعنى العوض أو البدل عن الشيء. ولئن سمى البيان الإلهي المثوبة التي أعدها لعباده الصالحين بالأجر، فإنما هي تسمية جاءت من طرف واحد، أي من قبيل الله عز وجل تحبباً لعباده ومبالغة في الإحسان إليهم والثناء على قرباتهم وطاعاتهم.. إذ أن العبد كلما ازداد قربا من الله ازداد شعوراً ويقيناً بتقصيره في جنب الله وتبصراً بسوء حاله، وهم الذين قال الله عنهم: {والذين يؤتُون ما آتوْا وقُلُوبُهمْ وجلًةٌ أنهُمْ إلَى ربِّهم راجعُونَ} (المؤمنون)، أي يؤتون ما آتوا من القربات والطاعات، وهم خائفون من أن لا يتقبلها الله منهم ويردّها عليهم، لما فيها من الشوائب والزغل، فيما يتصورون ويقدرون. إذن فإن العبد مهما ارتقى في رتب الصالحين والصديقين، لن يجد نفسه في حاله ما يثق فيه بسلامة طاعاته وكمال قرباته بحيث يجرؤ على أن يتوجه إلى الله بطلب (العوض) عليها، فإن ثقته التي تبعثه على هذه الجرأة هي دليل شركه وسوء إخلاصه.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي