يقول ابن عطاء الله السكندري: ”من لم يعرف قدر النعم بوجدانها، عرفها بوجود فقدانها” ما المراد بمعرفة قدر النعم؟ لعلك تظن أن المراد بها أن يعرف صاحبها مدى احتياجه إليها، وأوجه استفادته منها، فإذا وفدت إليه فرح بها وهش لها، وذهب كل مذهب في المحافظة عليها وحراستها من الطامع والمستجدي. ذلك هو فهم أكثر رجال الدنيا وتجارها، لمعنى معرفة قدر النعمة، فإذا كانت النعمة مالاً أو تجارة، قيل عن صاحبها إنه يعرف قدرها، إذا كان شديد التعلق بها كثير السهر على رعايتها، ضنينا بها على الطامعين والمحتاجين. وإذا كانت النعمة عافية، قيل عن صحبها إنه يعرف قدرها، إذا كان كثير الفرح والمباهات بها، يرعى في سبيل المحافظة عليها نظام طعامه وشرابه، ويقظته ومنامه، ويخضع نفسه في سبيل حراستها، بين الحين والآخر، لتحاليل وفحوصات شاملة.. غير أن شيئاً من هذا ليس هو المعنى المراد هنا بمعرفة قدرة النعمة. إنما المراد بها أن يعلم صاحب النعمة مدى فضل الله في إسدائها إليه، وأن يدرك أن السبيل إلى استبقائها وتحصينها، أن يتوجه إلى الله بالشكر عليها، على أن يعلم أيضاً أن شكره عليها لا يتمثل في الكلمات التقليدية التي ترددها الألسن في المناسبات وعند السؤال عن الأحوال، وإنما الشكر المطلوب تسخير النعمة للوظائف التي خلق الإنسان للقيام بها. فمن أدرك ذلك، ووضع إدراكه هذا موضع التنفيذ من حياته، كان عارفاً قدر النعمة محافظاً عليها. ولتعلم أن الإنسان مهما سهر على تحصين تجارتها وحمايتها بالطرق الفكرية والمادية من الخسائر، فلن يكفي ذلك وحده سبيلا لحمايتها، كذلك نعمة العافية، ونعمة الدار والأسرة، ونعمة الأمن وطمأنينة العيش، كل ذلك لا يجدي لحمايته والإبقاء عليه مجرد الاعتماد على الأسباب المادية التي تعدّ جامعاً مشتركاً فيما ينهض به المؤمن وغيره.وإنما يتمثل الحصن الحقيقي الواقي لوجود هذه النعم كلها من الزوال، في ربطها بالمنعم وتسخيرها لما قد خلق الإنسان من أجله، وهو كما قلت لك، المعنى الحقيقي للشكر، على ان اتخاذ الأسباب المادية المعروفة مشروعة ومطلوبة، ولكنها لا تبلغ أن تكون هي وحدها الضمانة لبقائها وحمايتها من الأخطار والآفات. إذا تبين هذا، فإن الشأن في الإنسان إذا وفدت إليه النعمة، أن يذهب في الإقبال عليها، والاحتفاء بها، والفرح والزهو بها، مذهباً ينسيه فضل المنعم بها عليه، ويشغله عن التوجه إليه بالشكر عليها، وربما تجاوز ذلك إلى الطغيان بها واستخدامها فيما يسخط الله. وهذا الشأن الغالب على الإنسان هو الذي يسميه البيان الإلهي كفران النعمة، وهذا المعنى بهذه الكلمة، كلما جاءت مقارنة بالشكر، مثل قوله تعالى: ”وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ”(النمل).. وهو المراد بقوله تعالى:” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ”(إبراهيم) ولا ريب أن من جنح عن الشكر إلى الكفران، فقد عرّض النعمة التي متعه الله بها إلى للزوال، أيا كان نوع تلك النعمة، وهي سنة من سنن الله في عباده نصّ عليها البيان الإلهي في أكثر من موضع، من ذلك قول الله تعالى:” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ”(النحل) وكما ينطبق هذا على حال الأفراد ينطبق أيضاً على حال الأمم والجماعات. ولا يبعثنك على الشك في هذه السنة الربانية ما قد تراه من حال أفراد وأمم يتقلبون في نعم الله وقد أخذ منهم الطغيان مأخذه، وأعرضوا عن التعرف على المنعم فضلا عن التوجه إلى الشكره، ونعمهم باقية، وأمنهم مستتب.فإن من عادة الله أن يمهل العبد أو الامة، ويبعث لهذه أو تلك النذير تلو النذير ، لتقوم الحجة وتزول المعذرة، أو ليستدرجهم إلى مزيد من الكفران، ثم إن استلاب النعمة يكون على أعقاب ذلك، ألا ترى إلى قول الله عز وجل: ”فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ”(الرعد) وإلى قوله عز وجل: ”وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ”(الحج).. ألا ترى إلى حال قارون ووصف الله له والمراحل التي مرّ بها: مرحلة التمتيع بنعمة المال، ثم مرحلة الكفران والطغيان، ثم مرحلة النصح والتذكير، ثم أخيراً مرحلة الأخذ والإهلاك.. إذن فما السبيل إلى أن تفد إليك النعمة ثم لا تتخلى ولا تنصرف عنك؟.. سبيل ذلك أن تشكر الله عليها، ومعنى شكر الله عليها، أن تعرف حقه عليك فتؤديه جهد استطاعتك كاملا غير منقوص، وأن لا تجعل منها حجاباً يشغلك عن المنعم، وملهاة تنسيك ذاتك وتصرفك عن القيام بالمهام التي أوجبها الله عليك وخلقك من أجلها. فإذا أنت فعلت ذلك لم تطغك النعمة..وعلاج هذه الآفة بعد الإيمان الحقيقي بالله، أن يتمتع بذخر من محبته وتعظيمه، وإنما يكون ذلك بالإكثار من ذكره، أي تذكره، كما مر بيانه وتأكيده أكثر من مرة..واعلم أنك إن داومت على ذلك سوف يسوقك ذلك إلى السكر بالنعمة، على أن السكرة بالنعمة ليست لذاتها، وإنما هي من حيث كونها وافدة إليك من الله إلى أن يصل بك الترحال إلى السكر بحبه والتعلق بذاته والحنين شوقاً إلى رؤيته.. المرحوم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بتصرف