وزير الشؤون الخارجية يستقبل رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا    السيد دربال يتباحث مع نظيره التونسي فرص تعزيز التعاون والشراكة    الشمول المالي: الجزائر حققت "نتائج مشجعة" في مجال الخدمات المالية والتغطية البنكية    سكك حديدية : برنامج شامل لعصرنة وتطوير الشبكات    أشغال عمومية : تكليف المفتشية العامة للقطاع بمراقبة كل مشاريع الطرقات    "الأمير عبد القادر...العالم العارف" موضوع ملتقى وطني    كمال الأجسام واللياقة البدنية والحمل بالقوة (البطولة الوطنية): مدينة قسنطينة تحتضن المنافسة    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    السفير الفلسطيني بعد استقباله من طرف رئيس الجمهورية: فلسطين ستنال عضويتها الكاملة في الأمم المتحدة بفضل الجزائر    معرض "ويب إكسبو" : تطوير تطبيق للتواصل اجتماعي ومنصات للتجارة الإلكترونية    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    حلم "النهائي" يتبخر: السنافر تحت الصدمة    رئيس أمل سكيكدة لكرة اليد عليوط للنصر: حققنا الهدف وسنواجه الزمالك بنية الفوز    رابطة قسنطينة: «لوناب» و «الصاص» بنفس الريتم    "الكاف" ينحاز لنهضة بركان ويعلن خسارة اتحاد العاصمة على البساط    رئيس الجمهورية يترأس مراسم تقديم أوراق اعتماد أربعة سفراء جدد    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    ميلة: عمليتان لدعم تزويد بوفوح وأولاد بوحامة بالمياه    تجديد 209 كلم من شبكة المياه بالأحياء    قالمة.. إصابة 7 أشخاص في حادث مرور بقلعة بوصبع    نحو إنشاء بوابة إلكترونية لقطاع النقل: الحكومة تدرس تمويل اقتناء السكنات في الجنوب والهضاب    وسط اهتمام جماهيري بالتظاهرة: افتتاح مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي    رئيسة مؤسسة عبد الكريم دالي وهيبة دالي للنصر: الملتقى الدولي الأول للشيخ رد على محاولات سرقة موروثنا الثقافي    قراءة حداثية للقرآن وتكييف زماني للتفاسير: هكذا وظفت جمعية العلماء التعليم المسجدي لتهذيب المجتمع    بقيمة تتجاوز أكثر من 3,5 مليار دولار : اتفاقية جزائرية قطرية لإنجاز مشروع لإنتاج الحليب واللحوم بالجنوب    سوريا: اجتماع لمجلس الأمن حول الوضع في سوريا    تسخير 12 طائرة تحسبا لمكافحة الحرائق    معالجة 40 ألف شكوى من طرف هيئة وسيط الجمهورية    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و305 شهيدا    القيسي يثمّن موقف الجزائر تجاه القضية الفلسطينية    مشروع جزائري قطري ضخم لإنتاج الحليب المجفف    بطولة وطنية لنصف الماراطون    هزة أرضية بقوة 3.3 بولاية تيزي وزو    تمرين تكتيكي بالرمايات الحقيقية.. احترافية ودقة عالية    إنجاز ملجأ لخياطة وتركيب شباك الصيادين    ارتفاع رأسمال بورصة الجزائر إلى حدود 4 مليار دولار    تفعيل التعاون الجزائري الموريتاني في مجال العمل والعلاقات المهنية    جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس الأمة    إجراءات استباقية لإنجاح موسم اصطياف 2024    عائلة زروال بسدراتة تطالب بالتحقيق ومحاسبة المتسبب    الاتحاد الأوروبي يدعو المانحين الدوليين إلى تمويل "الأونروا"    معركة البقاء تحتدم ومواجهة صعبة للرائد    اتحادية ألعاب القوى تضبط سفريات المتأهلين نحو الخارج    العدالة الإسبانية تعيد فتح تحقيقاتها بعد الحصول على وثائق من فرنسا    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    "المتهم" أحسن عرض متكامل    دعوة لدعم الجهود الرسمية في إقراء "الصحيح"    جعل المسرح الجامعي أداة لصناعة الثقافة    فيما شدّد وزير الشؤون الدينية على ضرورة إنجاح الموسم    الجزائر تشارك في معرض تونس الدولي للكتاب    الرقمنة طريق للعدالة في الخدمات الصحية    سايحي يشرف على افتتاح اليوم التحسيسي والتوعوي    حج 2024 : استئناف اليوم الثلاثاء عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    حكم التسميع والتحميد    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    صيام" الصابرين".. حرص على الأجر واستحضار أجواء رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اختيار الأكاديمية السويدية لعبد الرزاق غرنة فاجأ المتتبعين
نشر في النصر يوم 12 - 10 - 2021


نوبل تُنصف روايات مضادّة للاستعمار
فاجأ إعلان جائزة نوبل للآداب معظم المتتبعين لشأن الأدب وتجارة الكتاب وصناعة المؤلفين الكبار عن طريق الترويج لأسماء بعينها في وسائل الإعلام بطريقة مقززة، والآن يقول هؤلاء أن منح عبد الرزاق غرنة هذه الجائزة الكبيرة هو عمل استثنائي لأن الجائزة من المفروض أن تذهب لغيره، طبعا ويذكرون أسماء ممن رشحوهم سابقا ويصرون على دعمهم لآخر محطة. هذه المرة جاءتهم الطعنة من إفريقيا، من كتابة مضادة للاستعمار وتتجاوزه، تجعل من الهوية والضياع بين الثقافات موضوعها المركزي. العالم العربي هو الوحيد الذي لم يتفاجأ لأن دور النشر والجامعات والأساتذة العارفين والمهتمين بالشأن الأدبي لا يعرفون الرجل ولم يترجموا ولا واحدة من رواياته إلى اللغة العربية. لقد صدّعوا رؤوسنا بالمدن الذكية والجامعات المرموقة ومتاحف ما بعد الحداثة والروايات العظيمة والجوائز الفاشلة. من أين طلع لهم هذا المارد الصامت؟
* عبد السلام يخلف
من جنوب شرق إفريقيا إلى جنوب شرق إنجلترا
ولد عبد الرزاق غرنة عام 1948 في جزيرة زنجبار في الشق الشرقي من ساحل إفريقيا التابع لتنزانيا. بعد الفوضى السياسية والاضطرابات وخاصة القمع الذي تعرضت له الأقلية ذات الأصول العربية والتي ينتمي لها الكاتب فاضطر لممارسة الحرقة والهروب من الأهوال بحثا عن أرض آمنة يحقق فيها أحلامه (وهذا الجزء يحكيه في روايته قلب من حجر) وكان ذلك عام 1968 وعمره عشرون سنة. بعد أن أنهى دراسته تدرج في السلم الجامعي إلى درجة بروفيسور في مجال الإنجليزية والأدب بجامعة "كانت" في جنوبي شرق إنجلترا. يعيش اليوم بمدينة كنتربوري (Canterbury) جنوب شرق إنجلترا يتمتع بالتقاعد وكتابة ما يحلو له من مقالات وكتب كما فعل دائما بالاشتغال مع أهم مجلة ثقافية انجليزية تهتم بالكتابة المعاصرة وهي "وسافيري" والتي تعني باللغة السواحيلية "المسافرون" والتي أطلقت عام 1984 بجامعة "كانت" (Kent) . تقول محررة المجلة بعد أن تلقت نبأ حصوله على نوبل: "لقد أعجبت المجلة منذ البداية بقوة الكتابة لدى عبد الرزاق غرنة وتألقه في السرد والحكي وكذا انخراطه المتأني في بعض القضايا الأكثر إلحاحا في عصرنا مثل أسئلة الشتات، والديار والانتماء، والتهجير القسري للشعوب. لقد أظهر عمله دائما وبطريقة متفردة حقا الحاجة إلى تصوّر تأثير البشر من خلال الحياة رغم الرؤى المختلفة للتاريخ. لقد تمكن من خلال النظرة الواسعة لعالمه الروائي، والتي تمتد من الساحل الشرقي لإفريقيا وزنجبار، أرض ميلاده، إلى تمثيلات النزوح والنفي واللجوء في بريطانيا، جعلنا ندرك الحاجة المستمرة والملحة إلى ضرورة تحول زوايا النظر إلى العالم وإلى فتح آفاق الخيال المعاصر".
غردت صديقته البروفيسورة سشيلة ناسطا (Susheila Nasta) مسؤولة المجلة على صفحتها في تويتر قائلة: "تهانيّ الكبيرة لعبد الرزاق غرنة الذي حاز على نوبل للأدب. إنه كاتب رائع كم تم نشر أعماله في واسافيري وهو يستحق ذلك. أنا في السماء العلا من أجله".
كما كتب الكثير عن روايات وشعر الآخرين سيكتبوا عنه الكثير اليوم بعد أن نال هذه الجائزة باستحقاق وسيدققون في رواياته السابقة التي مرت دون قراءات متأنية ودون ترجمة للغات الأخرى. رصيد الرجل جملة من الكتب والمجموعات القصصية ولكن أهمها عشر روايات كاملة لكل واحدة شأن ولكنها تتقارب فيما بينها باعتبار أنها بؤر للألم والمعاناة والمصائر المشؤومة وذاك بعض من ظواهر ومظاهر الحياة لكنه يصبح أعقد في المجتمعات المتخلفة التي تزيد في الضبابية وفي التنكيل بالأفراد ومصائرهم. شخصيات رواياته دوما على الطريق، في تحرك دائم، في قلق لا ينتهي إلا بالمآسي ثم إن تقديم الروايات في شكل ملخص إنما هو إجحاف في حق الكتابة لأن كل فقرة هي اشتغال على اللحظة وتفاصيلها وخاصة العلاقات بين البشر وكيف تبنى ثم تتهدم.
كتابة للألم والسفر والشتات والعودة
رواية "طريق الحجاج" (Pilgrims Way) هو تصوير غير عادي لحياة مهاجر وهو يكافح للتصالح مع الرعب الذي يسكن ماضيه ومعنى ورمزية حجه إلى إنجلترا. بعد الإحباط الذي أصابه بسبب الاضطهادات الصغيرة والقذارة والفقر الذي يتعرض له في حياته، لجأ داوود إلى الإقامة في مخيلته وراح يكتب رسائل ساخرة تهاجم الأصدقاء والأعداء على السواء ويخترع ماضيًا استعماريًا مريرًا لكل رجل عجوز يصادفه. كان أعظم عزاء له في حالته تلك هو لعبة الكريكيت والهزيمة الرمزية للإمبراطورية البريطانية على يد جزر الهند الغربية الجبارة. على الرغم من تعرضها لهجمات ...
إحدى الجمل المعبرة ثقافيا في الرواية هي حينما يكتب: "عزيزتي كاثرين. ها أنا أجلس، أحضر وجبة بدافع طلبك للعشاء. أنا لا أعرف حقًا كيف أفعل ذلك. للحصول على تكامل ثقافي، يجب أن أرسل خالتي للتحدث خفية إلى عمتك التي ستتحدث بعد ذلك إلى والدتك والتي بدورها ستحدث والدتي التي ستتحدث إلى والدي الذي سيحدثني ثم بعدها تقترب من والدتك التي ستقترب منك بعد ذلك". قد يبدو هذا النوع من العلاقات الاجتماعية غريبا لكن هذا هو الذي يحدث في الكثير من المجتمعات العربية الإسلامية التي ما زالت تحترم ثقافاتها التقليدية ولا ترى فيها أية شائبة بل تعتبرها مقدسة وهذا قد يصيب المجتمعات الأوروبية المتحررة من هذا النوع من القيود بالصدمة الحضارية المعكوسة.
أما روايته "ذاكرة الرحيل" (Memory of Departure) فهي الرواية الأولى التي فرضت مفهوم الرحيل والهجرة وضرورة الهروب. هو نص عامر بالعنف والفكاهة والذكاء، وهو رواية عبد الرزاق غرنة الأولى التي هي تأمل عميق للحياة في ساحل شرق القارة الإفريقية. الفقر وقلة الحيلة يعيثان فسادا في أسرة حسن عمر الذي يقرر الهروب رغم المشقة الكبيرة والصعوبات المتنوعة. يجلب الحصول على استقلال البلاد انتفاضات جديدة بالإضافة إلى خيانة وعد الحرية الذي كان يتم التغني به في عهد الاستعمار. تخشى الحكومة الجديدة من نزوح رجالها الأكثر قدرة وتثني الشباب عن السفر إلى الخارج وترفض الإعلان عن نتائج الامتحانات. بعد حرمانه من منحة دراسية، يسافر حسن إلى نيروبي للإقامة مع عمه الثري على أمل أن تحصل والدته على نصيبها من ميراث الأسرة. تتصادم أسرار الماضي وآمال المستقبل ومركب الخوف والإحباط والجمال والوحشية كي تمنحنا رواية شرسة تنم عن قوة أدبية متفردة لا يمكن إنكارها.
تشبه هذه الرواية روايته "قلب من حصى" (Gravel Heart) التي تحكي قصة الانتقال من زنجبار الثورية في مرحلة الستينيات إلى لندن التي لا تهدأ في التسعينيات وتعد قصة قوية عن المنفى والهجرة والخيانة. لطالما اعتقد سليم أن والده لا يريده وكان يعيش مع والديه وعمه المحبوب "أمير" في منزل مليء بالأسرار وهو طفل حالم يحب الكتب ولكن تطارده خيالات الليل وأشباحه. إنها سبعينيات القرن الماضي وزنجبار آخذة في التغير. يصل السياح وتحجب الرمال البيضاء بالجزيرة تفاصيل الصراع الأخير: التوق إلى الاستقلال عن الاستعمار البريطاني وسرعان ما أعقبته ثورة دموية. عندما ينسحب والده ويتراجع إلى وحدة قاتلة، يصاب سليم بالارتباك والخجل. والدته لا تشرح له هذا ولا غياباتها مع رجل غريب. يتكدس الصمت على الصمت. عندما يعرض العم أمير الفاتن، وهو دبلوماسي كبير الآن، على سليم مهربًا، يسافر المراهق مريض الوحدة إلى لندن للدراسة لكن ...
إنها الأسئلة الوجودية التي يحاول غرنة الإجابة عنها من خلال البناء الدرامي لحياة الشخصيات وتحركها في الحيز الفيزيائي الذي يضيق في كل مرة ويتزلزل تحت الأقدام، هي أسئلة المجتمعات المعاصرة في الضفتين، الشمال الذي لا يفهم ما يحدث لأنه يعتقد أن ذلك لا يهمه، والجنوب الذي يحاول ربط الماضي بالحاضر وتحميل المسؤوليات التاريخية للدول والمؤسسات والنخب التي كان عليها أن تجتهد أكثر لكن الكاتب لا يطوّع الأقدار بل يحاول أن يقول الأشياء كما حدثت وما على المجتمعات المعاصرة سوى استخلاص الدروس التي قد تنقذ الإنسانية مستقبلا إذا كان لها هناك من مستقبل.
تتكرر المآسي في رواية "دوتي" (Dottie) لامرأة تسمى "دوتي بادورة فاطمة بلفور" تجد العزاء وسط بؤس طفولتها من خلال حكايات دافئة عن المودة التي تحملها وتصفها لأسمائها الجميلة والتي لا تعرفها ولا تعرف عن مصدرها شيئًا إضافة إلى القليل من تاريخ عائلتها أو الإساءة التي عانى منها أسلافها عندما استقروا في بريطانيا وجعلوا منها موطنهم. في السابعة عشرة تتحمل عبء مسؤولية أخيها وأختها وهي مهووسة بالحفاظ على تماسك الأسرة ومع ذلك، بينما تضيع أختها صوفي يهيم أخوها هدسون في عالم الجريمة، تضطر دوتي إلى الاهتمام باحتياجاتها الخاصة والالتفات إلى حياتها. بناءً على ذكرياتها المجزأة والمثيرة، بدأت في تمهيد الطريق في الحياة، وجمع الثقة تدريجياً لتحمل المخاطر وتكوين الصداقات وتحدي الصفات التي فُرضت عليها.
هي رواية للتحدي والمقاومة وإعادة بناء الذات من الخراب وتأهيل الروح لمواصلة الرحلة المتعثرة وعدم الاستسلام لظلم الزمن والتغيرات التي تحدث جراء السفر إلى مجتمع لا نعرفه، مجتمع له قوانينه وقواعده ومآسيه أيضا.
فكرة ما يحدث في أوروبا من حروب يقود إلى دمار المجتمعات الإفريقية هي بؤرة "ما بعد الحيوات" (Afterlives) التي هي رواية تتعرض للتاريخ المأساوي للشعوب من خلال نموذج الشابين إلياس الذي حارب ضد شعبه وحمزة الذي لم تتم سرقته بل بيعه وكان محظوظا أن بقي حيا حتى بلغ سن الرشد في حماية أحد ضباط الجيش الألماني لكن تلك المرحلة طبعته مدى الحياة.
كان الألمان والبريطانيون والفرنسيون والبلجيكيون وغيرهم قد رسموا الخرائط ووقعوا المعاهدات وقسموا إفريقيا وسعوا للهيمنة الكاملة وراحوا يخمدون تمردا بعد تمرد من قبل الشعوب المستعمَرة. يفتح الصراع في أوروبا ساحة أخرى في شرق إفريقيا حيث تدمر الحرب الوحشية المشهد. حمزة ليس لديه كلمات يقول بها كيفية انتهاء الحرب بالنسبة له. حين عاد إلى بلدة طفولته كان كل ما يريده هو إيجاد عمل مهما كان بسيطا وآمنًا مع جميلته "عافية" أخت إلياس. هل يمكن لشخص عاقل أن يصطحب شخصا آخر إلى معسكر اعتقال كي يرفه عنه؟ هذا بالضبط ما حدث في هذه الرواية.
إنها المصائر التي تتقاطع دون أن يقررها هؤلاء الذين يأتون من كل مكان يحاربون ويحبون ويقتلون لكن الزمن بالمرصاد وقد يقطع الطريق أمام بعضهم في أي لحظة وقد تنتهي مسيرتهم في الحياة. الحياة هنا هشة معلقة بخيط عنكبوت قد يتقطع في لمحة بصر ويتركك معلقا بين الهاوية والنجاة المستحيلة... ليست مستحيلة تماما. تتنافس الجرائد الكبيرة في وصف هذا الكتاب، فقالت جريدة الغارديان البريطانية: "هذه رواية مؤثرة ومفجعة ومقنعة تجمع كل من كان من المفترض أن يُنسى وترفض محوهم" وقالت جريدة التايم: " نادرًا ما يحدث في العمر أن تفتح كتابًا وتجد أن قراءته تلخص الصفات الساحرة لإحدى علاقات الحب ... بالكاد يجرؤ المرء على التنفس أثناء قراءته خوفًا من كسر السحر المتدفق".
أما روايته "الجنة" (Paradise) فهي حكاية الطفل يوسف الذي ولد في شرق إفريقيا ولم يكن يشعر أبدا بالقلق حيال الرحلة التي سيقوم بها. لم يخطر بباله أبدًا أن يسأل لماذا هو برفقة العم عزيز أو لماذا تم تنظيم الرحلة بطريقة فجائية ولم يفكر في السؤال عن تاريخ عودته إلى الديار. لكن الحقيقة أن "عمه" تاجر ثري وقوي وقد أخذ يوسف لتسديد ديون والده. الجنة هي نسيج غني من الأساطير والأحلام والتقاليد التوراتية والقرآنية وهي قصة بلوغ الصبي سن الرشد على خلفية القارة الإفريقية التي أفسدها الاستعمار والعنف بشكل متزايد.
تتحدد العلاقة بين الثقافات والحضارات المتصادمة والمتكاملة في القصص التي تجمع المتناقضات بطريقة مفاجئة لحياة شخص في قارة والآخر في قارة أخرى لم يحلم أبدا بمصادفته أو تناول الغذاء معه وهذا بالضبط ما يحصل في رواية "الهجران" (Desertion). في وقت مبكر من صباح أحد الأيام من عام 1899 في بلدة صغيرة على طول الساحل من مومباسا توجه "حسن علي" إلى المسجد لصلاة الصبح لكنه لم يصل إلى هناك أبدًا، لأنه من فراغ الصحراء يطلع عليه رجل انجليزي متعب ومنهك ثم ينهار عند قدميه. هذا الرجل يدعى مارتن بيرس - كاتب ورحّالة ومستشرق إلى حد ما. بعد مرور زمن، تعافى بيرس وقام بزيارة لحسن علي في بيته ليشكره على ما فعله من أجل إنقاذ حياته وهناك يلتقي ريحانة شقيقة حسن علي ويقع على الفور في حبها. في تلك المدينة المنهارة والمعلقة على حافة الحياة المتحضرة، والإمبراطورية تدخل قرنا جديدا، تبدأ علاقة حب عاطفية تجمع بين ثقافتين وسيتردد صداها عبر ثلاثة أجيال وفي ثلاث قارات.
كتابة لولبية تحل الألغاز
هكذا يحبك الكاتب قصصه من أبطال ينطلقون من المدن الافريقية كي تتقاطع حياتهم مع اشخاص قادمين من الشمال أو مع أشخاص في مدن بالشمال ثم تتعقد الأشياء والتفاصيل بين الذهاب والإياب، بين البقاء والضياع، بين الاستمرار أو العودة للوراء. إنها حكايات تبنى على المحبة والألم، على الطمأنينة والاحساس بالضياع، على الحرب والسلام، على الهجرة والشتات، على السقوط والنهوض، أي كل ما يجعل من الحياة مغامرة مستمرة تسمح لك بالدفاع عن نفسك لحظة الفشل كما تعبث بك لحظة احساسك بالانتصار. إنها روايات بها متعة القراءة لكن بها أيضا الإحساس بالمسؤولية لتحملها كاملة غير منقوصة من طرف قراء ومتخذي قرار أوروبيين قام أجدادهم بارتكاب الجرائم والبشاعات في هذه المجتمعات الآمنة والتي جاءتها الحروب من حيث لا تدري ووجدت نفسها في دوامات تفوق قدرتها على فهم ما يحصل مثل النائم الذي يعيش مغامرات في حلمه.
إن دراسات ما بعد الاستعمار أثبتت أنه لا يمكن تخطي مرحلة الاستعمار ومفاهيمه وفلسفته إلا بتفتيتها من خلال الدراسة والكتابة والحكي وتصبح الرواية هنا آلية جيدة لمواجهة الاستعمار وطرح الاشكالات الكثيرة التي تسبب في خلقها في المجتمعات التي كانت تسير بوتيرة في الزمن تناسبها جدا في تلك المرحلة التي وجدت نفسها محل صراع بين الدول الأوروبية التي جاءت بحثا عن مناطق النفوذ التي تغني اقتصادها بالثروات النادرة وبالمواد الأولية التي هي وقود النظام الرأسمالي. من كل لحظة تماس أو تصادم بين المجتمعين، الأوروبي من جهة والإفريقي من جهة أخرى، تولد حالة صراع بين الإرادات والتي بدورها تتحكم في مصائر الأشخاص الذين يرفضون أن يبقوا مجرد بيادق في لعبة أكبر منهم. هذا ما فعله الكاتب عبد الرزاق غرنة في رواياته بكل اقتدار.
روايات الكاتب عشرة: ذاكرة الرحيلMemory of Departure 1987/ طريق الحج Pilgrims Way 1988/ دوتيDottie 1990/ الجنةParadise 1994/ الإعجاب بالصمتAdmiring Silence 1996/ عن طريق البحرBy the Sea 2001/ الهجرانDesertion 2005/ الهدية الأخيرةThe Last Gift 2011/ قلب الحصىGravel Heart 2017/ الحيوات بعد الموتAfterlives 2020. إضافة إلى القصص وكتب أخرى أكاديمية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.