العرب غادروا التاريخ منذ زمن سحيق.. نحن مجرد حفريات عتيقة سطوة المال شملت كل المجالات وأفسدت الحياة في الجزائر يرى الكاتب الجزائري، كمال بركاني، بأن العرب لم يحسنوا الاستفادة من الغرب، ويعتقد بأن الكتابة في الجزائر لم تعد تهب الفرح، ولم تعد تخلق الثروة، وينتقد بشدة سطوة المال على مختلف مجالات الحياة. كما يتحدث في هذا الحوار عن تجربته في مجال الكتابة وعن مخطوطيه الروائيين. حاوره: نورالدين برقادي (الجزائر) اخترت "درجة المكان صفر مئوية" عنوانا لكتابك الصادر حديثا، هل للعنوان علاقة بالمكان الذي تعيش فيه أو بالجزائر أو بالعالم الثالث، وهل الدرجة خاصة بجانب معين مثلا الجانب الاقتصادي أم بجميع الجوانب ؟ المكان الخاص بي جزء من عالم فسيح متعثر ومبعثر، عالم موبوء بالتخلف واللعنة والقذارة، عالم فقد قدرته على الحب والإبداع والتواصل، فقد الحنكة والبوصلة، تارة يعرج بيمناه وتارة يعرج بيسراه، ويحدث أن يدس رأسه في التراب لزمن طويل جدا، يا سيدي الكريم: منذ زمن سحيق غادر العرب التاريخ، ما عادوا يصنعون الفرح والحب والتلاقي، كل ما ننتجه: مضادات الحياة وفقط..لذلك يمكنني القول: كل شيء في بلاد العرب تجمد وتكلس..نحن مجرد حفريات عتيقة. نوهت في أحد نصوصك بالمدينةالجزائرية في ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، وانتقدت حالها بعد ذلك، كيف يمكن أن تمارس المدينة دورها الحضاري في الجزائر ؟ من يقول أن الغرب لم يساهم في جعلنا شعوبا متحضرة فهو على خطأ ، أعرف أن الغرب لا شيء يهمه سوى استغلالنا لمصلحته، غير أن التواصل الذي حدث بيننا – رغم عنفه المؤلم- أفادنا كثيرا، تماما مثلما حدث العكس في الأندلس ذات زمن جميل، الاختلاف الوحيد: درجة الاستيعاب التي حدثت عند كلينا، مشكلتنا أننا ننسى بسرعة ، كل مدننا مقابر للحياة، ليس ثمة في الجزائر مدينة بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، ثمة تجمعات منتجة لكل أشكال الموت والدمار، مدن الزمن القديم تصنع الفرحة والفرجة لأن ساكنتها أخذوا الكثير من الكولون. النفس الشعري لصيق بكتابات كمال بركاني الروائية والقصصية، رغم أنك لم تكتب شعرا من قبل، كيف نظر النقاد إلى هذا المزج بين النثر والشعر في كتاباتك، وهل لتأثرك بغادة السمان علاقة بذلك ؟ أنا قارئ جيد لغادة السمان، أمازيغي معرب يسري الشعر في دمه، الشعر هو الحياة في أسمى معانيها، أشعر بالاختناق كلما كتبت بكلاسيكية مبتورة عن قلبي، فلا ألبث أن أمزق كراساتي لأنتشي بالشعر. الرواية بالنسبة إلي: قصيدة طويلة دون إخلال بتقنيات السرد الأخرى، الكثير من النقاد والكتاب الكبار يستحبون هذا الشكل الكتابي، أن تفجر اللغة وتكتب بسيمياء القلب فإن ذلك يعطي للنص قراءات متعددة، ويهبه الصدق، لذلك هو يخرج من قلب ليسكن قلبا. فكّرتَ، في السنوات الأخيرة، في التوقف عن الكتابة عكس عشرية التسعينيات (عشرية الإرهاب في الجزائر)، أين كنت تكتب الرواية والقصة وتنشر في الجرائد، ماهي الأسباب التي قد تدفع كاتبا إلى رمي قلمه والانسحاب من عالم الكتابة ؟ كما قلت لك سابقا: مضادات الحياة..لم تعد الكتابة في الجزائر تصنع الاستثناء، ولم تعد تهب الفرح، ولم تعد تخلق الثروة. الكاتب في بلدي متسول من نوع خاص، يحدث أن يكتب عشرات الروايات ثم يموت وحيدا في مركز العجزة، الفقر سمة الكتاب ها هنا، عليك أن تبحث عن المال في وجهات أخرى كي تستطيع وأهلك البقاء على قيد الحياة، المجتمع أيضا لا يعترف بك، قداسته الوحيدة لصاحب المال، هكذا هي جزائر الاستقلال، لذلك ستفكر وتقرر في لحظة ما مغادرة عالم لا يبقيك على قيد الحياة حتى. يصف البعض الوسط الثقافي الجزائري، بالمتعفن والمحتل من طرف الدخلاء، هل يمكن أن تجتمع الكلمة / الرسالة مع الصعلكة ؟ في بلد لا يعترف إلا بسلطة المال، ويتنكر باستمرار للمعرفة والإبداع، الأدهى أنه يحاربها بكل ما أوتي من سلطان لأنها تخنقه وتكشف عورته وزيفه، جزائر الأزمنة الأخيرة انقلب فيها سلم القيم، المال وحده ما يصنع القداسة والتقدير، كثيرون وعوا المعادلة الصعبة فتصعلكوا من أجل منصب أو مال وفير وليذهب الإلتزام إلى الجحيم، يا صديقي: إنها أزمنة صعبة جدا وصفراء فاقع لونها لا تسر الملتزمين. من خلال متابعتك للمشهد الثقافي الجزائري، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، ماهي الأسماء الأدبية التي كانت تنشر بالجرائد الوطنية وكنت تتوقع لها النجاح إلا أنها توقفت عن النشر وانسحبت من المشهد ؟ كثيرة هي الوجوه التي انطفأت منتصف الطريق، لا لشيء سوى أن البلد لا يحتفي بالكتاب كما في كل العالم، ثقافة الفولكلور والمناسباتية قتلت مشاريع أدباء كبار كان يمكن أن يثروا المكتبة العربية ويقدموا الإضافة اللازمة للمشروع الثقافي في هذا الوطن، أتذكر بفجيعة القاصة رندة مكاوي وأجزم أنني لم أقرأ كتابة أفضل من كتابتها، أتذكر: عزوز نواصري، عبد الكريم جليد، يوسف بوذن، عاشور منصورية، آخرون كثيرون جدا ضيعهم هذا الوطن. عرش الرواية الجزائرية الناطقة بالعربية يتربع عليه واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي، أما الرواية الناطقة بالفرنسية؛ فيستحوذ عليه محمد مولسهول (ياسمينة خضرا) وبوعلام صنصال، هل مستوى الكتابة الروائية الشابة لا يرقى لمستوى هؤلاء، وهل للدعاية الإعلامية دور في إبراز أسماء دون أخرى ؟ الذين ذكرتهم يستحقون هذا العرش بامتياز، هؤلاء أساتذتنا، هذا لا يعني أن الجيل الجديد لا يكتب بقوة وجمالية، بعنف أيضا وقسوة، المشكلة هي غياب الدراسات النقدية التي تسلط الضوء على الكتابة الروائية الشابة، ضف إلى ذلك الإعلام الثقافي لا يقوم بدوره بشكل فعال، ثمة تراجع في هذا المجال مقارنة بتسعينيات القرن الماضي، هذا دون أن نبخس جهد الناس، هناك بعض من الإعلاميين يحاولون قدر المستطاع إشعال ولو شمعة، ببساطة ثمة مشكل كبير في المشروع الثقافي الوطني. لك روايتان مخطوطتان، هل لمواضيعهما علاقة بمواضيع الرواية الأولى "امرأة بلا ملامح" (2001)، والرواية الثانية "صلاة الوداع" (2008) ؟ "القلب العاري" و"ظل الوشم"، كتابة روائية بنسق شعري عال، أكتب دوما عن المكان الذي يحتويني، عن الإنسان الشاوي (الشاوية من أمازيغ الجزائر) الذي يسكنني، عن الجزائر كما هي وكما أتمناها، روايات تنتظر ناشرا منذ أربع سنوات دون جدوى، إذن: هل بقي للكتابة جدوى في هذا الزمن الجزائري الأرعن؟.