لم تكن ضيفة هناك، كما لم تكن سحابة صيف عابر هنا·· عاشت بكل ما أوتيت من قوة البقاء، وبصيرة المغنى والمعنى، فاردة شراعاتها للزمن القادم، ما استطاعت إليه سبيلا·· شحيحة الحديث باذخة الغناء والإرادة المتقدة·· تسكب العمر السبعيني إبداعا وصوتا صاخبا وضاجا بالعشق حد التماهي مع الحياة·· تتحايل على تحاليل الأطباء، وتبطل حيلهم حين تفرد جسدها الممتد كجسر بين الغياب والحضور لمناظيرهم الدقيقة، دون أن يفضي بها ذلك الشعور إلى الاستسلام لتوهمات أصحاب الجبة البيضاء·· حيث انتفضت في ذات صيف قارب أن يلامس عقده اليوم، وهي تصرخ في وجه أحد أطبائها الذي سولت له شاشاته الفضية أن يضع تقديرا مفترضا لعمرها القادم محمولا على كف القدر·· ''لا لا تملك قدرة إحصاء عمري، فهو بيد رب كريم''! قالت وهي تلملم جسدها المجهد بترياقه، ثم نهضت مسلحة بإرادة الحياة، مفعمة بالإيمان، لتواصل نصف عقد آخر كان مقررا على لوحها المحفوظ في برزخ الأحياء·· تستعيد ما كاد أن يفرط من عمرنا - عمرها المنذور·· حيث ''الحب في أيد والدنيا في أيد''· ل ''توعدنا فنطير قبل المواعيد'' ونحتفي بالحياة، بشقها الأكثر بهاء·· نبهظه ونصرفه على ما يستحق أن نشتهي، نسافر معها نحو عوالم مخملية الطلة، وكأن ''شيء جوانا علينا كثير'' لا نقوى على مواجهته، رغم الإغواءات الكثيرة، ورغم ندائها الأثير ''اختر لي بر وأنا أرسى عليه''، ننشغل في راهننا بكل التباساته، وغالبا من تشغلنا تفاصيل الراهن بالغة الصغر عن رؤية الصورة الأكبر - الأهم والأجمل· وتمر الأيام، ''ونرجع تاني نتقابل ونتكلم، لا عارفين بنفرح ولا نتألم''، ندور في روتينية الزمن، ''نقيد شموع الحياة فتطفئنا''، نمارس كل طقوسها، التي لا تفض إلا إلى حقيقة أننا في رحاية الوجود الملتبس، نُسقط من بين أيدينا أنفس ما نملك، نفرط فيما لا يستحق ''غمضة عين'' واحدة، نمرس أنفسنا على النسيان، نسترق بعض اللحظات الهاربة من محراب الذاكرة·· لحظات حب مضت كغمضة عين، كومضة برق، كنبضة قلب شبَ على النكران، كلعبة قدر يأبى أن يريح الضمير·· وهذه الصداحة الأنيقة تطلق حبال الصوت إلى أقصاه ''اشتروني واشتروا خاطر عيوني'' تطلق المفردة الرصاص: ''صدقوني النهار ده بين أيديكم·· بس بكرا حتدوروا مش حتلاقوني''، ويمض اللحن هادئا صاخبا متناغما وكأنه يحاول انتشال قلوب تاهت في بساتين النكران، ''اشتروني وازرعوا للحب ورد''· لكن ''ياحب مين يشتري''·· من يشتري الحب في زمن الكساد؟! ومن كان سيدرك بهاظة هذا الفقد المربع، قبل الأوان، ومن سيشتري ''عمرنا اللي ضاع''·· من يعيد تأثيث الذاكرة من جديد، ومن يستعيد المختلس من أعمارنا القادمة·