يتميّز الخطاب الشعبي السّياسي والإجتماعي في الفضاء العام بالإختصار في "العبارة" وقوّة المضمون، كما يلجأ إلى "النكتة" والإكتفاء بمجموع "ألفاظ وكلمات" تؤدّي المعنى وتعبّر عن الموقف، كما إنّ فئات من المواطنين تصنع معجمها الخاصّ بها، فقد شاع لفظ "الحيطيست" في تسعينات القرن الماضي المعبّر عن ظاهرة إجتماعية وإقتصادية سائدة، وفي منتصف عشرية الألفية الجديدة "الحَرْڤة"، وهناك ألفاظ تظهر وتختفي لتعود من جديد مثل "بَنْعَمِّيسْت" أي تفضيل ذوِي الجهة والقُربى في التوظيف والمناصب، هذه "المعجمية الإجتماعية" هي تعبير ثقافي يأخذ قوّته من الخطاب، من الجملة والكلمات. للإشارة، نستخدم هنا الثقافة بمعنى التصوّرات والقيم الدينية والتاريخية التي تتحكّم في الأفراد والمجموعات، وليس بمعنى الكتابة والتعليم، ولو أنهما من وسائل ترسيخ القيم الثقافية، فمثلاً في بلداننا العربية التي تعرف فساداً متفاوتاً نجد أن الفساد يأخذ حتّى على المستوى اللغوي خطاباً فيه التبرير والتلميع لسلوك الجريمة وليتابع أي منّا الأسماء الجميلة التي تُعطى للرّشوة: "الإكرامية، القهوة، أعطيه حقّه، ضيّفه، تهلا فيه .. إلخ" من الجمل والتعابير الأخلاقية التي ترتبط أساساً بقِيَم نبيلة تتحوّل إلى خطاب فاسد لسلوك فاسد، وقلْ ذلك بالنسبة للتبرير الديني أو الثقافي لمثل هذه القضايا، فتبييض الأموال مثلاً قد يكون ببناء المساجد أو الذهاب إلى الحجّ على اعتبار أن ثقافتنا ترى أن الفساد يُغفر بالتوبة فقط، وهي غير كافية بل بالعدالة واستقلال القضاء والرّدع، كما أن ثقافة العشيرة والقبيلة التي لم تستطع دول الإستقلال أن تقضي عليها، تساهم في استخدام النفوذ والتوظيف، وهنا العلاقة واضحة أيضا بين الولاء للمجتمع المدني والمؤسّسات والولاء للمجموعة أو العشيرة والجهة. فكلما كان الفساد أكثر، كان الحسّ المدني والنزعة الفردية والولاء للمؤسسات غائباً، وبالتالي فالفساد عملياً سيقوي قيَم التوبة الوهمية والإنتماء للجهة والعشيرة، ويقلّل من فُرص تطوير التعليم وإشاعة قيم التقدم والإنتاج، إضافة إلى ربط الفساد بالقيم الثقافية ويمكن ربطه أيضاً بغياب الديمقراطية أو ضعفها، إن المعارضة السياسية هي جزء من عملية فضح الفساد في الحكومة أو في المؤسسات من أجل الفوز وتداول السلطة، ولكن المعارضة حينما تبتلع أو ترتبط قناعاتها بأخذ حصّة من الغنيمة، تتحوّل إلى جزء من آليات الفساد، كما أن الحريات الفردية واستقلال القضاء وسطوة القانون تضمنها مؤسسات دولة ديمقراطية، وهنا يكون تعزيز الآليات التي تملك إمكانات الحدّ من الفساد، ومن أشكال التعبير اللغوي والثقافي عن الفساد في العلاقة بين المسؤول والموظفين والسّلطة والأحزاب وبين أفراد المجتمعات " الشيته" أو "البروسه" وهي تحريفات لغوية كما هي عادة اللسان في المجتمعات التي تعرف تعددية لغوية بفعل الأصل أو الإستعمار، فزيادة إستعمال لفظ "الشيته" في مجالات الفضاء العام، دليل على "فساد" في العلاقة وانحراف في قيم الإرتباط بين الفرد والآخر أو بين الموظّف والمؤسّسة أو المسؤول، وبين السلطة والأحزاب المسمّاة "المعارضة". هنا، نحن أمام وصف لفعل أو خطاب أو سلوك يتصف بالنفاق والمواراة وإخفاء نوايا الطمع والبحث عن "الغنيمة"، إنه تعبير يختزل الحكم على فساد النية والفعل، ويكون هذا التعبير أكثر دلالة إجتماعية وسياسية من لفظ "النّفاق" أو التعبير الشعبي "الشكيمة" التي تعني القِوادة. إن "الشيتة" هنا إنتاج خطاب مزيّف، فعل مزيّف، إنّه الشكل البرّاق الذي يخفي العَفَن، ويزداد أكثر في مجتمعات تعرف فساداً مالياً وعلاقات عمل غير سليمة، ويكون النّجاح والتفوق بالغشّ في الإمتحان وتقديم رسائل دكتوراه مسروقة كما الغشّ في السلع المعروضة والقرصنة، والتزوير في الوثائق...إلخ، وهذا الإنحراف في العلاقة بين الإنسان والله، أو بين الإنسان والأنبياء، أو بين الإنسان والإنسان هو الذي من أجله بعث الله الرّسل والأنبياء لتصحيح "العلاقة" وتبيان درجة الإنحراف، فجوهر التغيير الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب المشركين هو تصحيح "التقرّب" إلى الله، ورسم مسَار المُرور من الدنيا إلى الآخرة "الجنّة" بهدم "وثنية الوسيط" الذي هو في مرحلة تاريخية من المسيحية تسمّى ب "صكوك الغفران". إذا تصحيح الإعتقاد بالنسبة للإسلام، يتمّ على أرضية ثقافية جديدة يكون فيها "الإخلاص" في العمل والعبادة المشروط في صحته ب«بالنيّة"، وهنا صفاء في العلاقة بين المؤمن والله، وعلاقة الجدل في الصعود أو النزول يلخصها الحديث المشهور "ومازال عبدي يتقرب إليّ" التقرب والتزلّف يكون إيجابياً بالعمل المُخلص ويكون سلبياً حين يُخفي القصد الذاتي المرتبط بالمنفعة الآنية والمصلحة الشخصية التي تلحق ضرراً بالآخرين، ولذلك رابعة العدوية الصوفية إشتهرت بكونها تعبد الله "التقرب المُتسامي" ليس طمعاً في الجنّة أو خوفاً من النار، ولكن لأن الله سبحانه يستحقّ ذلك، وهي علاقة عرفانية توحّد الإنسان بالله، وهو ما نجده كذلك في ثقافات أخرى عرفت هذا التطور الروحي المتسامي في العلاقة بين الزاهد والله، ومن معاني الشيته "التزلف" و«المداهنة" و«المدح المذموم" ولذلك قال الرسول "أحثوا في وجوه المدّاحين التراب" ولعلّ هذا المقصود من قوله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون" أي الشعراء الشيّاتون، وإذا عدنا إلى لسان العرب فالزّلف والزلفة والزلفى بمعنى القربة، وفي القرآن تَرد مقرون بما يؤديه "أي القرب" صالحاً أو سيئاً، فمثل الأول "وأزلفت الجنة للمتقين" أي قَرُبت ومنها كلمة المزدلفة القرب من مِنى، أما المعنى السّلبي فهو قوله تعالى "ما نعبدهم إلا ليقرّبونا من الله زُلفى" أي العبادة هنا لروح الملائكة المجسّدة في أصنام من أجل التقرب لقضاء أغراض الدنيا. فجوهر السلوك هنا "ثقافة إنتهازية منافقة" لم تستطع فهم العلاقة الحقيقية بين المعبود والله القائمة على "الإخلاص"، ولذلك نجد بعض الفقهاء يخصصّون حيزاً في مدوّناتهم للسّلوك السّياسي المُداهن الذي تلجأ إليه "البطانة السّيئة"، وذمّ السّكوت عن قول الحقّ في وجْه الحاكم الظّالم، وتعرّض الجاحظ والتوحيدي ومسكويه في القرن الرابع الهجري لظاهرة "النفاق السياسي" التي مارسها الفقيه بلغتنا اليوم "المثقف والإعلامي". إن "ثقافة الشيته" جزء من قيم الفسَاد التي تنتشر في غياب العلاقات السّليمة أفقياً بين الفئات الإجتماعية وعمودياً بين السلطة والأحزاب، السلطة والمثقف، وترتبط بالحصول على "الغنيمة" التي تعني المنصب والإمتياز، كما هي محصّلة غياب العلاقات الطبيعية القانونية وغياب المؤسسات القائمة على الشفافية والوضوح.