مواطنون يحتفلون.. وأحزاب تُثمّن    بوغالي: الجزائر شريك موثوق    تسجيلات البيام والبكالوريا تنطلق اليوم    سعيود يُبرز الورشات الوطنية الهامّة    دعوة إلى تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية    عجّال يؤكد أهمية التصنيع المحلي للمعدات الطاقوية    المنيعة: تخصيص أزيد من 26 ألف قنطار لزراعة الحبوب    المغير : تخصيص أزيد من 48 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية للاستثمار    بالمغير وإيليزي..حملة تحسيسية حول أهمية الكشف المبكر عن سرطان البروستاتا    سيدي بلعباس : عدة مشاريع تنموية قيد الإنجاز ببلديات دائرة رأس الماء    وسط ارتفاع المقلق لحالات البتر..التأكيد على الفحص المبكر لحالات مرض القدم السكري    حذر من الضغوط..آيت نوري يرسم طريق الجزائر في كأس أفريقيا    لم تنته الحرب    تحسبا لكأس أفريقيا 2025.. 3 منتخبات إفريقية ترغب في إقامة معسكرها الإعدادي بالجزائر    حوارية مع سقراط    عمورة ثالث هدافي العالم في تصفيات مونديال 2026    البرلمان العربي يدعو لترسيخ قيم التسامح وتفعيل التشريعات التي تجرم التطرف وخطاب الكراهية    عرقاب .. توقيع عقد لإنجاز وحدة المعالجة التحفيزية للنافتا الثقيلة    مدينة لايبزيغ الألمانية تحتضن تظاهرة ثقافية    استقلال فلسطين حق تاريخي ثابت يدعمه البرلمان العربي حتى يتحقق على أرض الواقع    اختبار قوي للخضر قبل كأس إفريقيا    العائلات تعود إلى منازلها    قالت إنها تستجيب لتطلعات شريحة واسعة من المواطنين..منظمات نقابية تثمن قرار رفع الحد الأدنى للأجور ومنحة البطالة    هندسة الميكانيكا وطاقة المواد محور ملتقى بجامعة بسكرة    ممثلو الفصائل الفلسطينية في ضيافة جبهة المستقبل..إشادة بالدور التاريخي والثابت للجزائر في دعم القضية الفلسطينية    40 حافلة جديدة لعنابة في جانفي المقبل    متربصو الدرك الوطني في زيارة للمجلس الشعبي الوطني    تحدّيات المعطيات ذات الطابع الشخصي في عصر التحوّل الرقمي    أمين غويري مرتاح لسير علاج إصابته    دورات تأهيلية ل 734 حرفي بغليزان    من طعام البسطاء الى رمزية التقاليد الجزائرية    مصادرة قنطارين من اللحوم البيضاء الفاسدة    بلايلي موجود في قطر لإجراء عملية جراحية    نفكّر في توأمة بين أذرار الموريتانية وأدرار الجزائرية وجعلهما منطقة إنتاج سينمائي    المهرجانات الإفريقية في بحث دائم عن رؤية دولية    اقتراب من الذاكرة والهوية والانخراط الاجتماعي    سعادتي كبيرة بالعودة إلى الملاعب    مؤسّسات ناشئة تبرز ابتكاراتها وحلولها    بوغرارة: الجزائر لم تتأخر يوماً عن دعم فلسطين    4756 وقفا في الجزائر    وفد برلماني جزائري يشارك في الدورة ال47 للاتحاد البرلماني الإفريقي بكينشاسا    خنشلة : توقيف شقيقين وحجز 5200 وحدة كحول    عميد جامع الجزائر من بسكرة:رقمنة العربية مدخلٌ لصون الهوية وإرساخ السيادة الثقافيّة    اللغةُ العربية… إنقاذٌ أمِ انغلاق    آية الكرسي .. أعظم آيات القرآن وأكثرها فضلا    فتاوى : أعمال يسيرة لدخول الجنة أو دخول النار    أبو موسى الأشعري .. صوت من الجنة في رحاب المدينة    ها هي الحرب الباردة تندلع على جبهة الذكاء الاصطناعي    الخضر يستعدون..    شهر للعربية في الجزائر    ترقية 11 مقاطعة إدارية إلى ولايات    ورقلة.. يوم دراسي لتعزيز ثقافة الاتصال داخل المرافق الصحية العمومية    مشاركة جزائرية في الأبطال الخمسون    وزير الصحة يبرز جهود القطاع    دعوة إلى تعزيز حملات التوعية والكشف المبكر    إبراز قدرات الجزائر ودورها في تعزيز الإنتاج الصيدلاني قاريا    دعاء في جوف الليل يفتح لك أبواب الرزق    تحذيرات نبوية من فتن اخر الزمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوارية مع سقراط
نشر في الحياة العربية يوم 18 - 11 - 2025

من يملك أن ينزل ضيفا على التاريخ ولا يطلب منه رؤيتك والتحدث إليك أيها الإغريقي العظيم سقراط؟ لفلسفة الحوار معك مذاق عبقري خاص يسمو بالعقل والروح، ويعيد عقل العالم إلى موضعه الحضاري اللائق به على الرغم من جهامة هذا البون الزمني الشاسع بين تفانيك في خدمة الحقيقة الكونية وبين ضلال هذا العالم المتفاني في تكريس غطرسته الإمبريالية، وتصعيد غلوائه التكنولوجية المعززة بغرور إلكتروني قد يدفع بعقلائه قبل جهلائه إلى الهاوية النووية.
– على رسلك أيها العربي القادم من أدغال القرن 21.. أيها المتجمل بغابتك العصرية الملونة، سمعت أن حكماء الفكر المعاصر في عالمكم المبهرج يلونون لكم كل شيء لتكونوا قادرين على الابتلاع والهضم، وسمعت أن سماسرة الثقافة الغازية في عالمكم الثالث يلونون لكم الموت الإمبريالي كما يلونون لكم قبح الحياة المعاصرة، يلونون لكم الظلم والإرهاب والاستلاب والقهر والمصادرة.. حتى لم يبق على مهندسي الإضاءة على مسرحهم الاستهلاكي المستورد سوى أن يلونوا لكم الكفن وشاهد القبر!
ما جئت إليك لتسألني عن زمني المتداعي، وإنما لأسألك عن زمانك المتوهج في العتمة الدهرية...
– وهل نسيت أنني من أطلق رياح الأسئلة العاتية لتخلع أبواب الجهل والثقافة الزائفة؟
حين هبت رياح الأسئلة العاتية كأسراب خيول جامحة تخلّعت أبواب المعرفة الوهمية ونوافذها، وتعرّت بيوت أدعيائها، فكانت طريقي ممهدة إلى المحاكمة، ثم إلى السجن الذي قدم لي حارسه بعينين دامعتين ويدين مرتجفتين جرعة السم لأتناولها عن طيب خاطر.
أذكر في ذلك الصباح الرمادي الكئيب تحوّلت زوجتي سليطة اللسان إلى امرأة وديعة راحت تدنو مني كزرافة باكية وهي تحمل بين ذراعيها أصغر أطفالي وتلتمس مني الموافقة على الفرار.
وهل كان لديك متسع للفرار؟
– نعم أيها العربي الغارق في استهجانك حتى قمة رأسك؟ لقد أبقى القضاة باب السجن مفتوحا وباتوا لياليهم يؤملون فراري علهم يتخلصون من حرج راح يتعاظم في مرايا نفوسهم. فقد أحسوا أنهم وقعوا في ورطة الحكم عليَّ بالإعدام. كيف لي أن أفر والفرار في حد ذاته فيه بعض التراجع عن خدمة الحقيقة، كما فيه خروج على قوانين بلادي التي أحترمها؟!
قرأت سيرتك الذاتية بشغف كبير، فبهرني هذا القرار الديمقراطي المستند إلى قانون متحضر للغاية لم تصل إليه البشرية وهي تعيش شيخوخة القرن العشرين.. بهرني أن يطلب القضاة منك (بعد أن رفضت التماس الرحمة منهم) أن تختار العقوبة التي ترضاها لنفسك، ولكن وبصدق المتعاطف أقول: قهرني رفضك لهذا العرض الديمقراطي، وقهرني أكثر رفضك رجاء تلاميذك، وفي مقدمتهم أفلاطون، بأن تقبل تأدية الغرامة نظير العقوبة.
ولكن أيها العربي المستنير ألا ترى معي أن انفعالك قد عمل على تعمية وعيك، وشلّ قدرتك على التفكير؟ إذ لم تتدبر الواقعة إلا من وجه واحد، وجهها الانفعالي أعني، أراك لم تفطن إلى أن اختيار العقوبة التي أرضاها يعني اعترافي بالذنب، وكيف أكون مذنبا لمجرد إثارة الأسئلة الشائكة على أبواب الجهالة الناعمة؟ كيف يتجرع مرارة الاتهام ويقيد نفسه وروحه بوصمة الذنب من طلع على الأثينيين ليقول: "إن الله وحده هو الذي تفرد بالعلم والحكمة، وأما نحن البشر فخير ما نعلمه هو أن نعرف أننا لا نعرف شيئا؟!".
أما رفضي لرجاء تأدية الغرامة نظير العقوبة فهو نابع أصلا من إيماني الراسخ بأن عاشق الحقيقة لا بد له أن يشعر بخزي عارم وبرعشة خجل تاريخية حين يعرض عليه شراء بقاء روحه في سجنها الجسدي بمال يجمعه التلاميذ والأتباع والأصدقاء من قوت أطفالهم وزوجاتهم.. فيشتري زنزانته اللحمية التي يدبّ بها على الأرض.. وممن؟ من المرعوبين والخائفين على تعرية جهلهم جراء أسئلتي المتجاوزة لستائر تعميتهم عن الحقيقة!
ولكن قضاتك كانوا منتخبين من عامة الشعب الأثيني عن طريق الاقتراع، وهذه هي معالم الصورة الديمقراطية المتعارف عليها في عالمنا الأرضي حتى الآن.. فأن يجتمع في قاعة المحكمة 500 عضو منتخب من البحارة والتجار والصناع اختيروا لمحاكمتك؛ لأمر يشكل في حد ذاته تكريما لسيد الحكمة وسادنها المبجل.. لو كنت مكانك أيها الإغريقي المتعطش للحقيقة المطلقة لشعرت بزهو عقلاني عارم جعلني أتورع عن مهاجمة القضاة في معرض الدفاع عن النفس، لو كنت مكانك لما آثرت غضب القضاة ونقمتهم إلى الحد الذي زاد من عدد المطالبين بإعدامك.
واضح أنك تتساءل وتفترض من منطلق الخوف من الموت الراقد في بركتك الداخلية لدرجة أرهقتني وأنا أعمل على تعشيب تساؤلاتك الفجة بهدوء وروية انطلاقا من كوني معتنقا للموت.. مغتبطا بسواده الأليف.. ولكن دعني أسألك الآن: أين ذهب حكم أولئك القضاة الديمقراطيين.. بل أين ذهبوا هم؟ هل بقي على وجه الأرض غير أسئلتي الشائكة التي أحسبها لا تزال مغروزة أو منتشرة في حقول عالمكم المملوءة بأشجار الفانتازيا الإلكترونية الملوثة والموبوءة؟!
يقال إن زوجتك كانت قاسية في تعاملها معك، وسليطة اللسان فما قولك؟
آه من زوجتي "زنتيب"، كانت صعبة المراس وسليطة اللسان بالفعل.. وكانت تجري بيننا مشاجرات وفي إحدى جلساتي الفلسفية مع تلاميذي تحت نافذة البيت في الساحة المجاورة ضاقت من طول وقت الجلسة فصاحت عليَّ غاضبة، ثم جاءت بسطل ماء وسكبته على رأسي، فضحك التلاميذ على الوضع الذي رأوني فيه، فتساءلت بطرفة أضحكتهم أيضا: لماذا تستغربون وتضحكون، لقد أرعدت من النافذة ثم أمطرت؟!
ولماذا احتملتها إلى هذا الحد؟
– كنت رغم كل ذلك أشفق عليها لجهلها، إذ هي تعلم في جهلها أنها لا تعلم شيئا مثل باقي اليونانيين الأثينيين.
ولعل اعتقادك الفلسفي هذا هو الذي قادك إلى المحكمة والسجن بعد الحكم عليك بالإعدام.. إذ كان معنى كلامك يشمل إمبراطور أثينا ومن حوله من حاشيته.. أليس كذلك؟
– أنا بدأت بنفسي فاتهمتها بالجهل، وقلت إنني لا أعلم ووحده الذي يعلم في هذا الكون، هو الإله خالق هذا الكوكب ومن عليه، أما نحن البشر فلا نعلم شيئا من حقيقة الوجود.
ولعل مجاهرتك بهذه الحقيقة أمام تلاميذك وكل من عرفك اعتبرت خروجا على الأعراف والتقاليد، وتعريضا بالآلهة ومدعاة لإفساد الشباب وتحريضهم على الأوضاع القائمة على تكريس الجهل وإخفاء الحقيقة، وهذا ما أزعج سلطة أثينا منك وخوفها من فلسفتك الرافضة، فعمدت إلى مقاضاتك وشكلت من الشعب لجنة كبيرة ومختارة من القضاة لمحاكمتك والحكم عليك بالإعدام.. ما قولك؟
– أنت شرحت الحالة، ولا حاجة للإجابة.
يكفيك فخرا يا فيلسوف عصرك وكل العصور التي تلت عصرك بأنك خير باحث عن الحقيقة التي وجدتها وأنت تقف على باب الإيمان بموجد هذا الكون الأعظم، وتقول إنه وحده الذي يعلم، لقد دفعت الثمن ولم تشعر بخسارة حياتك وربحت خدمة الحقيقة الكونية التي ما جهلها أحد أو تجاهلها إلا وقد كفر.
ثم يكفيك أن تلميذك وفيلسوف عصره أفلاطون كان من أشد المعجبين بك، وقد كتب العديد من الرسائل والحوارات التي أيدت عقيدتك الفلسفية مما أسهم في الحفاظ على تعاليمك السقراطية ونشرها على أوسع نطاق.
– أنت محق في ما قلت. لقد حافظ أفلاطون الذي أعتبره أنبه تلاميذي وأذكاهم وأحرصهم على معتقداتي وتعاليمي فدوَّنها وأبقى عليها متوهجة تنير درب الأجيال القادمة، فسلام عليه.
وسلام عليك يا سقراط، يا خادم الحقيقة بكل صدق وعمق وأمانة.
الجزيرة نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.