3/ من تبعات هذا الربيع أنه يكاد يدمر الهوية الوطنية ويحدث انشقاقات عرقية ومذهبية وعشائرية داخل الوطن الواحد، بل وفي القرية والمدينة الواحدة، كما هو الحال خصوصا في ليبيا وحتى مصر، حيث سقطت تجربة التعايش بين المسلمين والأقباط. لقد أحدث هذا الربيع العربي للأسف تراجعا رهيبا لكثير من القيم الجميلة التي كانت سائدة وأصبحت الدولة الوطنية بموجب ذلك مهددة في كيانها وأمنها وفي وجودها وحدودها بالتالي في مستقبلها، مثلما أصبح السلاح المنتشر بين بعض الجماعات كما هو الحال في ليبيا مصدر قلق أمني لبلدان الجوار وخاصة للجزائر وتونس، حيث باتت بعض الجماعات تسعى إلى تمرير السلاح عبر الحدود. كما أن المطالب التي حملها الشباب الثائر الذي تمت سرقة هذه الثورات منه أصبحت في خبر كان. وأكثر من هذا فإذا كان مضمون هذه الثورات قد أُفْرِغَ من محتواه بعد أن ظهر أمام الشباب الثائر واقعٌ بائسُ حالكُ السواد. فلا الشعارات التي رفعوها تحققت ولا التداول على السلطة الذي طالبوا به قد أنجز. فالحريات التي كانوا ينادون بها قد تراجعت بشكل كبير بعد أن فقدوا الأمن والاستقرار وبعد أن باتت الجماعات الإجرامية والإرهابية تزرع الرعب وتثير الفزع في النفوس في كل مكان، كما تراجع مستوى الدخل القومي والفردي وزادت نسبة البطالة وتضاءلت فرص الاستثمار الأجنبي وتراجع الاستثمار الوطني بسبب الخوف الذي بات يسكن النفوس، بل وأصبحت حتى المحروقات كما هو الحال عليه في ليبيا لا تصدر بعد أن سيطرت بعض الجماعات المسلحة على مناطق منابع النفط وفقدت الدولة سيطرتها الكاملة على الوضع وباتت إطاراتها في مختلف المواقع تلقى مصرعها كل يوم، كما أن السياحة التي كانت مصدر عيش ملايين المواطنين خصوصا في مصر وتونس توقفت في جهات وتراجعت في مناطق أخرى. ثم إن معظم مَنْ تولوا المسؤوليات والمراكز القيادية الحساسة في بلدان هذا الربيع العربي جُلبوا من الخارج كما كان الأمر في ليبيا وتونس وحتى مصر قبل الإطاحة بمرسي، كما أن البعض الآخر منهم لم تكن له علاقة بالواقع وبأمور تسيير الدولة وخاصة أن البعض عاش فترة طويلة في سجون الأنظمة السابقة وكان منقطعا فعلا عن الحقائق الوطنية والإقليمية والدولية. وعلى ضوء هذه الحقائق المرة فإن الدولة الوطنية في هذه البلدان باتت في خطر وأصبحت هناك علامات استفهام كبيرة مطروحة على مستقبلها. أ / موضوع الأمن والاستقرار: هو واحد من عناصر قوة الدول، وقد بات هذا العنصر مطروحا بقوة في دول الربيع العربي لأنه أحد عناصر قوة الدولة وتماسكها. ب / إشكالية الوحدة الوطنية: لقد أصبحت الدولة الوطنية في معظم بلدان الربيع العربي مهددة بسبب الانقسامات العرقية والعشائرية والمذهبية التي طفت على السطح في ظرف قصير، ففي ليبيا هناك تهديد واضح للوحدة وزوال التجانس الذي كان قائما على الأقل في الظاهر بين أفراد المجتمع الليبي. وفي مصر باتت ظاهرة الانقسام بين المسيحيين والمسلمين تثير القلق وتهدد بنقل الموضوع برمته إلى خارج حدود مصر في بلد عاش منذ الفتح العربي بقيادة عمرو بن العاص جوا لا نظير له من التسامح الديني والتعايش بين الأقباط المسيحيين وباقي الشعب المصري المسلم في عمومه. ج/ إشكالية الهوية: لقد ظهرت للمرة الأولى منذ قرون مسألة الهوية الوطنية بين الزنوج والعرب وبين الأمازيغ وباقي القوميات وخصوصا في ليبيا، وبرزت إلى السطح ظاهرة التمايز والجهوية العرقية المقيتة بين مختلف القبائل حيث عاد المجتمع وبالأخص في ليبيا للقبلية التي تتنافى تماما مع مفهوم الدولة الوطنية الجامعة والموحدة لكل أفراد المجتمع. د/ إشكالية الديمقراطية: لقد كان الاعتقاد السائد أن التغيير الذي أحدثه هذا الربيع العربي على طبيعة الأنظمة سيجلب مجموعة من المكاسب ومن بينها: تحقيق الديمقراطية والمساواة والحقوق بين أفراد الشعب والتداول على السلطة واستقرار الأمن وتحقيق الرفاه والقضاء على البيروقراطية والقضاء على البطالة وانتعاش الاستثمار وغيرها من الشعارات التي رفعها الشبان خصوصا، ولكن مجريات الأحداث المتعاقبة بينت أن أيا من هذه الطموحات كانت مجرد أوهام وأن حلم الدولة العادلة يتبخر يوميا ليحل محله واقع اللادولة. مشكلة استرداد الثقة بين المواطن والسلطة القائمة. هذا العنصر هو واحد من عناصر قوة الدولة، إذ أن الثقة لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل تحقيق مجموعة من الأهداف في مقدمتها الاستقرار والأمن والتنمية وشعور المواطن بالاطمئنان وبأن الدولة هي دولته مهما كانت انتماءاته العرقية والمذهبية والطائفية، فالدولة هي التي يجب أن تحتوي الجميع وتحتضنهم وتخصهم بالرعاية والاهتمام ليشعروا في ظلها بالمواطنة، والدولة هي التي بإمكانها بالتالي أن تنمي فيهم عنصر الوطنية والانتماء للدولة والجنسية الواحدة وتذيب جميع الفروقات مهما كانت طبيعتها. ه/ الخطاب السياسي: ما من شك أن وضوح سياسة الدولة واستراتجيتها المستقبلية تبرز من خلال انتهاج خطاب سياسي متزن وعقلاني يتكيف مع الواقع المعيش ويخلق الأمل لعموم الشعب ويتجاوب مع رغباته وطموحاته. فالخطاب السياسي يجب أن يكون باعثا للأمل بعيدا عن الشعبوية التي تتنافى والحلول الواقعية. و/ مستقبل الدولة: إن استقرار الدولة وضمان مستقبلها مرهون بعدة عناصر يطول شرحها ومن بينها العمل على خلق طبقة متوسطة في المجتمع من شأنها أن تشكل مصدر استقرار وتكون بمثابة صمام الأمان للمجتمع كله، كما يتعين على السلطات القائمة على سير الدولة في ظل المرحلة الانتقالية أن تعمل في اعتقادي على تشجيع عنصرين أساسيين وهما الطبقة المثقفة والطبقة السياسية وعلى التعامل مع كل مكونات المجتمع وخصوصا المجتمع المدني. إن إبعاد المثقفين عن مصدر القرار وتجاهل عمليات الاستشراف من شأنه أن يجعل الحكم تحت سلطة الدهماء وهذه الأخيرة بتفكيرها السطحي ونظرتها الأنانية المفرطة قد تضعف أي تطور للدولة بل وقد تكون عاملا في تدمير كل مقوماتها الأساسية، كما أنه يتعين على السلطات القائمة أن لا تقتل الحياة السياسية داخل الأحزاب وخصوصا أحزاب المعارضة. وقد بينت التجربة أنه كلما انتعشت الحياة السياسية كلما انتعشت الدولة وأمكن لها البقاء ومواجهة الصعاب والتحديات. فالنقد ضروري لتقويم كثير من السلوكات. ومما لاشك فيه أن مستقبل الدولة الوطنية عموما مرهون كذلك برهان هام يتعلق بعامل ارتقاء المواطنة. لقد سبق لي أن تناولت موضوع الشباب من الوطنية إلى المواطنة في محاضرة ألقيتها في جامعتي بوزريعة بالجزائر العاصمة وعمار ثليجي بالأغواط في ديسمبر من عام 2009. وبمختصر القول إنني أعتقد أن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تنجح إلا بنجاح الديمقراطية الاجتماعية الموجهة لخدمة المواطن. إن المواطنة في رأيي لا يمكن أن تتطور وتنجح فقط عبر ترقية الشق القانوني من خلال ترقية حقوق الإنسان وترقية الحريات الفردية والجماعية للمجتمع، بل إنها لكي تنجح فلابد أن تتوسع لتشمل باقي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولكن دون إغفال قيام المواطن بواجباته المختلفة تجاه الدولة ومؤسساتها المختلفة حتى لا تختل هذه العلاقة ولكي لا يتحول المواطن إلى مواطن مطلبي يبحث عن الحقوق بما في ذلك البحث عن حريته عن طريق التظاهر والاحتجاج والاعتصام في الشوارع والساحات العامة والقيام بالإضرابات. وعليه فلترقية حس المواطنة بات من الضروري على المواطن اليوم ألا يكتفي فقط بالمطالبات ويهمل القيام بالواجبات، وإلا فإن هذه المواطنة ستصبح منقوصة ولا يمكن لها على الإطلاق أن تساهم في تطور الدولة الوطنية المنشودة التي يجب أن تكون في الأساس دولة المواطن لا دولة النخب أو الأنظمة الحاكمة. وأخلص من كل هذا أن مستقبل الدولة الوطنية ليس في بلدان الربيع العربي وحدها بل في عموم الوطن العربي سيكون أمام رهان صعب وتحديات كبيرة. فالتغيير الحقيقي لن يكون في شكل الأنظمة ولكن في المناهج والسلوكات وفي الوقائع على أرض الميدان.وإذا كان الارتداد في علم الفيزياء هو رد الفعل العكسي للفعل، فالطلقة من المدفع أو المسدس عندما ترتد للوراء تكون قاتلة في حق صاحب الطلقة. فإن الارتداد الشامل سياسيا وأمنيا واقتصاديا الذي نلاحظه ميدانيا في البلدان التي مستها هذه الثورات بين قوسين والذي بدأ عنيفا بشكل مبكر حتى على أصحابه ومن بينهم الرئيس المصري مرسي ومن ورائه جماعة الإخوان المسلمين في مصر والتي رغم تجاوز تجربتها الثمانين عاما فإنها أخذت ضربة قاصمة في الظهر بعد أن اعتبرت لأول مرة حركة إرهابية وهو ما سيكون له تأثيراته الكبيرة ليس في مصر وحدها ولكن على تنظيم الإخوان الذي ينتشر في عشرات الدول، ثم إن هذه التطورات المتسارعة وخصوصا تفشي الإرهاب قد يعصف بكل مؤسسات وهياكل الدولة في هذه البلدان إذا لم يكن مَنْ جاء بهم هذا الربيع في مستوى تطلعات الشعب وخاصة أن الشباب في تلك البلدان ثار ضد الظلم وضد التوريث وضد التسلط وضد كل أشكال اللاتسيير للدولة، فالشباب لم يثر من أجل وضع حد للدولة مهما كانت نقائصها، ولكنه ثار ضد الأنظمة القائمة. كانت دولة العدالة الاجتماعية والقانون والديمقراطية وما تزال حلم الشعوب العربية في هذه الرقعة الشاسعة والغنية بالثروات والكفاءات والإرادات الطيبة، ولذلك بات من الضروري على الحكام الجدد حتى ولو فرضهم واقع دبابات الغرب اليوم على شعوبهم على حساب الشباب الثائر بات عليهم أن يدرسوا التاريخ بكل إمعان وتبصر ليتأملوا تجارب الآخرين حتى تكون لهم عبرة في المستقبل المنظور والبعيد لكي لا تنهار الدولة الوطنية في عهدهم حتى ولو كانت وطنية البعض منهم مشكوك فيها. ويبقى في النهاية أن هذا الربيع العربي كما وصفوه ظلما إن كان قد أسقط بالفعل أنظمة عربية تسلطية كان بعض قادتها يسعون لتكريس الحكم بواسطة جملوكيات مستهجنة فإنه مع ذلك ألحق الضرر بالدولة الوطنية بغض النظر عن السلبيات و النقائص العديدة التي كانت موجودة في ظل الأنظمة السابقة، كما أن محصلته النهائية أنه لم يؤد إلى ما كان يرغب فيه المواطن العربي لتحسين مستوى معيشته ورفع قدرته الشرائية وتكريس قيم العدل والمساواة والحرية والديمقراطية، كما أنه أضفى إلى نتيجة مفيدة للكيان الإسرائيلي نتيجة إضعاف دول كانت أنظمتها حتى ولو أنها كانت في الظاهر خطرا على وجود إسرائيل. ولعل ما يؤيد هذا الطرح أن دافيد وينبرغ مدير مركز بيغين السادات للدراسات الاستراتيجية الإسرائيلي أكد في محاضرة ألقاها في الثاني من جوان من العام الماضي 2013 بالنرويج أن الجيوش العربية لن تقدر بعد الآن على شن هجوم تقليدي على الدولة العبرية. موضحا أن الجيش العراقي لم يعد له وجود، وأن قدرة الجيش السوري تقلصت بنسبة 60 في المائة وأن مختلف فرق الجيش المصري تتآكل باستمرار. وأوضح أنه إضافة إلى الصراعات الداخلية التي تزلزل البلدان العربية، فإن صراعات داخلية وتفاوت اقتصادي سيخل بالدول العربية على مدى العقود الأربعة القادمة. وقد ذهب مؤتمر هرتسيا، وهو محفل إسرائيلي يُعْقَدُ كل عشر سنوات ويظم النخبة الصهيونية من خبراء في الحقل الاستخباري والدراسات الاستشرافية والمسؤولين الحاليين والسابقين، إلى أنه بالرغم من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في الدول العربية التي طالها الربيع العربي فإن هؤلاء الإسلاميين لا يشكلون رغم الفوضى التي زرعوها خطرا كبيرا على الأمن الإسرائيلي. ويمكن أن أوضح في النهاية هنا مسألة بالغة الأهمية وهي أن إسرائيل التي كانت تشعر بقلق كبير من تنامي القوة العسكرية لحزب الله خاصة منذ حرب 2006 التي أسقطت التفوق العسكري الإسرائيلي، باتت تشعر الآن بشيء من الراحة بعد سلسلة الانفجارات التي استهدفت حزب الله في لبنان وقبل ذلك الأحداث الدموية التي تعصف بسوريا. ولعل النتيجة التي نستخلصها من دروس هذا الربيع الدامي العاصف باستقرار ومؤسسات وأمن مختلف الدول العربية، هي كيف سنحافظ نحن في الجزائر على مكونات الدولة الوطنية، وكيف يمكن لنا كجزائريين أن نستشرف آفاق المستقبل بما يجعل هذه الدولة في مأمن مما يدبر لها هناك أو من هنا؟ ولعل أكبر عنصر في هذا هو كيف سنتمكن من صون جدار الوطنية ونفعله لصالح الدولة الوطنية وبنائها واستمرار بقائها قوية موحدة متماسكة مستشرفة آفاق المستقبل ضامنة تماسك المجتمع وتضامنه. أما أولئك الحالمون بربيع جزائري أو بثورة تهدد استقرار الدولة وتزرع الفتن وتُحْدثُ انفلاتا أمنيا وتزعزع أسس الاستقرار وربما عودة الإرهاب، فإنني أعيد على مسامعهم ما قلته في محاضرة ألقيتها في جامعات الأغواط وبوزريعة وغرداية بأنه يكفي هذا البلد فخرا أنه صنع ثورةً عظيمة هي ثورةُ أول نوفمبر التي أعادتْ بناء الدولة الوطنية من جديد واستعادت الاستقلال واسترجعت حرية الشعب الجزائري ومكّنت كثيرا من شعوب المعمورة من الانعتاق والاستقلال والحرية. ورغم إيماني أن أوهام البعض بوقوع ما يزعمون بأنه ثورة في الجزائر على غرار ثورات الربيع العربي المزيف هو وهم و تخريف، بل هو انحراف كلي عن الأهداف النبيلة التي حققتها ثورة أول نوفمبر العظيمة في أهدافها وفي إنجازاتها. لكن هذا لا ينفي أن بعض المسؤولين عندنا خصوصا ممن لا يُحْسِنون أبجديات الاتصال، ولا يعرفون التحكم في ألسنتهم ولا يفرقون بين النكتة السياسية وبين بذيءِ الكلام وأسوئه قد يتسببون في مشاكل للبلد وفي توترات قد تتحول إلى ما لا يتوقعه هؤلاء الذين لا يدركون أن الاتصال علم وموهبة وأن الخطابة ليست لعبة يتسلى بها هؤلاء أو أولئك، وقد قال الشاعر: لسانَك لا تَذْكر به عورةَ امرئ فكُلكَ عوراتٌ وللناس ألْسُنُ وقديما قالوا: لسانَكَ حصانَك إن صُنْته صانَك وإن هِنْتَه هانك، فاللسان عطّاب إن كان صاحبه معطوب الفكر واللسان. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته